أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عببر خالد يحيي - من الظلام إلى النور: دراسة ذرائعية في البنية النفسية-السلوكية والتفاؤل الوجودي في رواية /ألوان الظلام/ للكاتبة السورية السعودية ريما آل كلزلي















المزيد.....


من الظلام إلى النور: دراسة ذرائعية في البنية النفسية-السلوكية والتفاؤل الوجودي في رواية /ألوان الظلام/ للكاتبة السورية السعودية ريما آل كلزلي


عببر خالد يحيي

الحوار المتمدن-العدد: 8531 - 2025 / 11 / 19 - 15:48
المحور: الادب والفن
    


تأتي رواية «ألوان الظلام» ضمن التيار النفسي–الفلسفي في الأدب النسوي العربي، حيث تعالج علاقة المرأة بجسدها ووعيها ووجودها من خلال تجربة العمى بعد عملية تجميل فاشلة.
الكاتبة ريما آل كلزلي توظّف العمى كرمز للتحوّل الداخلي، فيتحوّل فقدان البصر إلى وسيلةٍ لرؤيةٍ أعمق للعالم والذات.
هي رواية عن التحوّل من المظهر إلى الجوهر، ومن الضوء الخارجي إلى البصيرة الداخلية، تكشف بجرأة مأزق الإنسان المعاصر الذي يعيش وسط الأضواء لكنّه غارق في العتمة الروحية.

• التحليل الدلالي للعنوان
«ألوان الظلام»
يُعدّ العنوان مدخلًا تأويليًا لبنية النص، إذ يجمع بين لفظتين متقابلتين: اللون الذي لا يُرى إلّا بالنور، والظلام الذي هو نفي النور.
هذا التركيب المفارق يولّد ما يُعرف بالانزياح التركيبي الدلالي، فيفتح أمام القارئ أفقًا تأويليًا مزدوجًا بين الحسّي والمجازي.
من الناحية اللغوية:
«ألوان» تدل على التنوّع والتحوّل، أي على إمكانات الحياة.
«الظلام» يوحي بالثبات والغياب واللاحدود.
وحين يجتمعان في تركيب واحد، يتحوّل التناقض إلى وحدة فكرية تقول:
" إن الوعي يمكن أن يولد من العمى، كما يمكن أن يولد النور من العتمة.".
بهذا يصبح العنوان معادلة رمزية لفلسفة الرواية التي تقوم على جدلية البصر والبصيرة، الخارج والداخل، الجمال والجوهر.
من المنظور الفلسفي:
يعيد العنوان صياغة السؤال الجوهري للرواية:
هل يمكن للإنسان أن يرى نفسه حقًّا إلّا حين يُحرم من الرؤية؟
فـ«ألوان الظلام» ليست تركيبًا لغويًا فقط، بل رؤية فكرية تعكس قناعة الكاتبة بأن الظلام شرط لظهور النور، وأن فقدان الحواس الظاهرة قد يوقظ الحواس الباطنة.
فجاء العنوان مفتاح دلالي لفلسفة الرواية.
فالألوان في العنوان رموز للمشاعر الداخلية — الأمل، الإيمان، الخوف، الندم — أمّا الظلام فهو الفضاء الذي تستعيد فيه النفس معناها بعد الانطفاء.
هكذا يتحوّل العنوان إلى إعلان عن رؤية الكاتبة المتفائلة رغم المأساة:
أن الظلام ليس نهاية، بل ولادة جديدة للنور.
حين فقدت خزامى بصرها، بدأت ترى العالم بعمقٍ آخر:
" أظن أن العمى يبقيني قريبة من الحقيقة" ص 9
وحين غابت الألوان الخارجية، اكتشفت ألوانها الداخلية:
" أشعر أنني لا أعيش في عالم واحد، بل في عوالم متعدّدة" ص 10
وهكذا، كان العنوان أيضًا مفتاح دلالي لبنية التفاؤل الوجودي
إنه موقف فلسفي وجودي يُعيد تعريف الجمال والمعرفة بوصفهما وعيًا داخليًا لا بصريًا، ويجعل العنوان مرآةً لفكرة الرواية: أن الإنسان يصنع نوره من داخل العتمة.
• البؤرة المركزية للرواية:
هي السؤال عن الهوية من خلال مفارقة النور والظلام:
هل نرى الحقيقة بالبصر أم بالبصيرة؟
خزامى، البطلة، تفقد عينيها جسديًا لتكسب «نظرًا داخليًا» يقودها إلى إدراك جديد للوجود.
تعيد الكاتبة طرح جدلية الجوهر والمظهر عبر تواطؤ التقنية والتجميل والوعي الزائف، لتؤكّد أن الإنسان المعاصر يعيش عمىً روحيًا رغم امتلاء العالم بالأضواء.

• الخلفية الأخلاقية للرواية:
قائمة على النقد الإنساني-الاجتماعي لمنطق الاستهلاك والسطحية.
تدين الكاتبة ثقافة الجسد المُؤسَّس في مراكز التجميل التي «تبيع وهم الكمال»، وترى الكاتبة في الجمال الداخلي فعلًا أخلاقيًا يوازي الإيمان.
«أريد الهروب من النور لأكون ظلًّا بين الظلال.»
تُظهر هذه الجملة التباس مفهوم النور/الظلام بوصفه قيمة أخلاقية مضادة للزيف الاجتماعي.
كما تبرز الرواية قيمة الصفح والتسامح، من خلال تذكّر الخالة «هدى» التي تمثّل الضمير الحنون في مقابل الأم المتسلّطة، إذ توصي خزامى بأن تجعل انشغالها بنفسها هو الردّ على الأذى.

• المستوى البصري:
يتجلّى المستوى البصري في مفارقةٍ فنية: الرواية عن العَمى، ومع ذلك فهي من أكثر النصوص ثراءً في الصورة والتشكيل اللوني.
تبدأ بالألوان وتنتهي بالظلام، ولكن الظلام نفسه يُقدَّم كطيف من الألوان الداخلية:
«كانت تبتلع كلّ شيء حولها إلا أنفاسها المتسارعة.»
«كل صوت هو باب، كل خطوة تقودني إلى مكان مختلف.» ص 10
البطلة، وهي فنانة تشكيلية، توظّف الألوان كرموز نفسية:
الأخضر = الحياة والطبيعة والحنين.
الأزرق = الغموض والبعد الروحي.
الذهبي = الحلم والصفاء المفقود.
وحين تفقد البطلة بصرها، يتحوّل الإحساس البصري إلى إحساس سمعي-لمسي، وهو ذكاء سردي في نقل الحواس.

• المستوى اللغوي والجمالي
- لغة الرواية:
شاعرية رفيعة، تتكئ على الإيقاع الداخلي والتماثلات الاستعارية، وتغلب عليها الجمل التأملية الطويلة ذات التوازي النحوي، تتراوح بين الخطاب السردي الواقعي والخطاب الرمزي الفلسفي، تعكس إيقاعًا نفسيًّا يوازي نبض البطلة:
«النور ليس شيئًا تراه. إنه شيء تشعر به.» ص 9
- البنية اللغوية والجمالية:
محكومة بالاتزان، تكشف عن وعي عالٍ بالإيقاع، وتؤكد أن المؤلفة تكتب بعينٍ تشكيلية وأذنٍ موسيقية.
من خلال استخدام الكاتبة ألفاظًا ذات حس تشكيلي، ممّا يمنح النص الروائي بعدًا فنيَّا بصريًّا. كما توظّف الرموز ( المرآة، الدائرة، اللون) كعناصر لغوية متكرّرة تكوّن وحدة جمالية موحّدة.
- الأسلوب والتقنيات السردية
يعتمد السرد تقنية تيار الوعي والحوار الداخلي، مع انزياحات شعرية مكثفة.
لغة الرواية شاعرية وفلسفية، تمزج بين الحسّ البصري المفقود والإحساس السمعي والشمّي.
هناك تناص واضح مع دانتي أليغييري (الكوميديا الإلهية): الانتقال من الغابة المظلمة إلى النور.
- في منتصف الطريق في حياتنا، وجدتُ نفسي في غابة مظلمة؛ حيث كان الطريق المستقيم ضائعًا"
- " من هذه الأعماق المظلمة ، ارتفعتُ إلى النور"
دانتي أليغييري/ الكوميديا الإلهية

• المستوى الديناميكي
الحركة السردية في الرواية من الخارج إلى الداخل:
تبدأ بالفعل المادي (زيارة مركز التجميل) وتنتهي بالفعل الروحي (المصالحة مع الذات).
كلّ فصل يمثّل درجة من درجات النزول إلى الذات، على طريقة الكوميديا الإلهية لدانتي التي تناصّت معها الرواية صراحة.
الإيقاع العام بطيء متأمّل، وهو ما يتناسب مع التحليل النفسي التدريجي لشخصية البطلة.
تبدأ الرواية بمونولوج داخلي مؤلم لفتاة كفيفة ترى العالم بالصوت والرائحة واللمس. تتكشّف بعدها الأحداث تدريجيًا، فنعرف أن خزامى كانت فنانة تشكيلية حسّاسة تعمل في الرياض، نشأت في أسرة متوترة العلاقة بين الأم والابنة، يغلب عليها البرود والانفصال العاطفي. كانت أمها قاسية في أحكامها وجافة في حبّها، بينما الأب صامت صلِب كجبل لا يُفصح عن مشاعره.
تحمل خزامى منذ طفولتها عقدة الجمال: جمال عينيها المختلفتين لونًا عن محيطها جعَلها موضع سخرية زميلاتها في المدرسة، وتلك الإهانة تركت في داخلها ندبةً لا تشفى، تدفعها لاحقًا إلى قرارها المصيري بتغيير لون عينيها كرمزٍ للانتماء.
تتوالى الذكريات عبر (فلاش باك) نفسي وسرد داخلي متقطّع بين الحاضر والماضي، يتناوب فيه الصوتان: صوت خزامى العمياء بعد الحادث، وصوت خزامى المبصِرة قبل العملية.
نقرأ تفاصيل رحلتها إلى مركز التجميل الذي بدا كمعمل لتوحيد الملامح، وفيه نلمس نقد الكاتبة العميق لثقافة المظاهر و«صناعة الجمال». لكن العملية تفشل، فتفقد البطلة بصرها كليًا. من هنا يبدأ التحوّل الدرامي والنفسي. إذ يتحوّل الصراع الجسدي إلى صراع معرفي.
إذن، ذروة الرواية هي لحظة استيقاظ خزامى بعد العملية، حين تدرك أنّ كل شيء اختفى: الألوان، الوجوه، الأضواء. تصف الكاتبة هذه اللحظة بأسلوب حسّي مذهل، حيث تتحوّل الحواس إلى بدائل للبصر. هنا تبدأ رحلة المصالحة مع الذات، إذ تعيد البطلة تعريف النور بأنه إحساس داخلي لا يُرى بالعين بل يُدرك بالقلب. بالإيقاع متأّنٍّ متدرّج، يعكس البطء التأمّلي لرحلة الوعي ، مع فواصل حلمية تعمّق الجانب النفسي.

الثيمات الرئيسة
1. الجمال كقيدٍ اجتماعي:
الجمال في الرواية يتحوّل من نعمة إلى عبء. تتناول الكاتبة فكرة «لعنة الجمال» التي تجعل الإنسان غريبًا عن ذاته ومجتمعه.
2. الأمومة والبرود العاطفي:
العلاقة المتوتّرة بين خزامى وأمها تعكس فشل التواصل بين جيلين، وتجعل الابنة تبحث عن حبّ الأم في المرايا.
3. البحث عن الهوية:
عبر رحلة خزامى من الألوان إلى الظلام، تكتشف أن الهوية لا تُصنع في المظهر بل في العمق، وأن البصر ليس طريقًا إلى البصيرة.
4. النور الداخلي مقابل الظلام الخارجي:
مفارقة وجودية: حين تفقد البطلة بصرها، تبدأ برؤية العالم حقًا، فيتحوّل الظلام إلى وسيلة كشفٍ ومعرفة.
5. نقد الحداثة السطحية:
ترصد الرواية بذكاء هوس الناس بالتجميل والإعلانات، من خلال مشهد طويل في بهو مركز التجميل يضم حوارات النساء الباحثات عن «الكمال الاصطناعي».

• المستوى النفسي-السلوكي (محور الدراسة)
الرواية دراسة نفسية عميقة لاضطراب الهوية الناشئ عن تضاد القيم الجمالية-الاجتماعية.
تبدأ خزامى في حالة انفصام سلوكي بين القبول والرفض، بين الإيمان بجمالها والرغبة في تغييره.
لا تسعى إلى الجمال بل إلى الانتماء، ولهذا يتحوّل سلوكها إلى فعل تمرّدٍ وجودي.
1. السلوك القهري للهرب من الذات- الرغبة في التغيير:
يترجمه قرارها بتغيير لون العينين. الفعل هنا ليس تجميليًا بل رمزيًا؛ محاولة لمحو الذاكرة المؤلمة المرتبطة بالطفولة المدرسية والسخرية من جمالها.
2. السلوك الدفاعي-الانعزالي:
يظهر في ميلها إلى العزلة والمقاهي والتأملات الطويلة؛ وهي آلية لا شعورية لتعويض النقص في التواصل العاطفي مع الأم.
3. التحوّل النفسي بعد الصدمة- المصالحة مع الذات :
فقدان البصر يحوّلها من شخصية قلقة إلى شخصية متصالحة. الظلام لم يعد تهديدًا بل حضنًا معرفيًا. العمى يصبح لحظة وعي كبرى، حيث تدرك أن النقص لايلغي القيمة، بل يمنحها معنى جديدًا، ومن هنا ينبثق التفاؤل الوجودي إذ يتحوّل الألم إلى بصيرة.
«أظنّ أن العمى يبقيني قريبة من الحقيقة. فالبصر خدعة كبيرة.»
4. التفاؤل الوجودي:
تنتهي الرواية على وعيٍ إيجابي بالمعاناة؛ فخزامى لا ترى النور، لكنها تؤمن بأنه فيها.
وهذا ما يجعل الرواية تنتمي إلى أدب النجاة الداخلية، حيث المعاناة وسيلة للفهم وليست للهدم.
تتلاقى هذه الفلسفة مع مقولة سارتر: «الإنسان مشروع مفتوح على المعنى»، فالعمى هنا ليس نهاية الوعي بل بدايته.

التكرار كآلية اعتراف نفسي في رسالة غيث إلى صفية:
في رسالة غيث إلى صفية، يستخدم التكرار كوسيلة اعتراف وتطهير نفسي.
تكرار اسم صفية والعبارات الندمية يعبّر عن الاستعادة القهرية للذكرى في محاولة لتفريغ الذنب.
«صفية... كنتِ النور، صفية... كنتِ البداية والنهاية...»
التكرار هنا ليس زخرفة لغوية، وإنما فعل علاجي يكشف عن رغبة الشخصية في استعادة الاتزان.
يتحوّل الإيقاع إلى ما يشبه التراتيل الاعترافية:
«أخطأت حين ظننتُ أن الصمت حبّ، وأخطأت حين تركتُكِ تصمتين، وأخطأت حين صدّقتُ أن الوقت دواء...»
من منظور ذرائعي، يخدم التكرّار في الرسالة الأبعاد الآتية:
- البعد النفسي
الوظيفة: تطهير الذنب واستعادة الاتزان.
الأثر: يعبّر عن نضج الشخصية بعد الصدمة.
- البعد اللغوي
الوظيفة: خلق نغمة موسيقية حزينة.
الأثر: يمنح الرسالة بعدًا شعريًا.

- البعد السلوكي
الوظيفة: إعادة الفعل المؤلم في شكل لغوي.
الأثر: يحوّل الألم إلى وعي بالذات.
- البعد الإيحائي
الوظيفة: ربط صفية بالنور وغيث بالظلال.
الأثر:يعمّق جدلية العنوان (النور/الظلام).
هكذا يتحوّل التكرار في الرسالة إلى سلوك لغوي علاجي يوازي رحلة خزامى نحو البصيرة.

• المستوى الإيحائي
يتوزّع الإيحاء بين ثلاث دوائر رمزية ذات طابع تأمّلي:
- المرآة: رمز الهوية الممزقة، وما يعكسه المجتمع للمرأة من صور.
- المصعد: وسيلة الانتقال بين مستويات الوعي واللاوعي.
- الدوائر: الزمن الوجودي المغلق الذي تعيشه البطلة حتى تنكسر الحلقة بالنور الداخلي.
هذه الرموز تصوغ عالم الرواية في شبكة من الإيحاءات المتبادلة، تجعل من النص كائنًا حيًّا يتحرّك في مستويات متوازية من الدلالة.
كما أنّ إيحاءات اللون والظلام تتجاوز حدود الحسّ لتصبح استعارات للبحث عن الله، أو عن معنى الوجود في عالم مُبرمج.

«اللون السادس للوعي»: ذروة الإيحاء الفلسفي
إلّا أنّه، من بين الرموز التي شكّلت النسيج الإيحائي في رواية ألوان الظلام، يبرز رمزٌ فريد يُعدّ تتويجًا لمسار التحوّل الداخلي في النص، هو «اللون السادس للوعي». فبعد أن تجلّت الرموز الجزئية — كالمرآة التي تُحيل إلى مواجهة الذات، والمصعد الذي يرمز إلى الانتقال بين وعيين، والدائرة التي تمثّل الزمن الوجودي المغلق — يأتي هذا اللون ليختزلها جميعًا في لحظة انفتاح روحي يتجاوز الإدراك البصري إلى الإدراك الباطني.
هو الرمز الأعلى الذي يتحوّل فيه الظلام من حالة سلبية إلى طاقة كاشفة.
فاللون السادس ليس لونًا ماديًا يُدرَك بالعين، هو طيفٌ داخليّ تخلقه الروح حين تبلغ درجة من النضج الوجودي تجعلها ترى بما وراء الحواس.
وهو تجسيدٌ لمرحلة النور الباطني التي تبلغها البطلة خزامى بعد الصدمة، حين تعلن أنّ العمى لم يطفئ رؤيتها بل حرّرها من وهم البصر.
«في الظلام رأيتُ ما لم أره يومًا في الضوء، لونًا يشبه الصمت حين ينطق، والنور حين يغيب.»
بهذا المعنى، يشكّل «اللون السادس للوعي» توليدًا إيحائيًا ختاميًا يربط بين المستويات جميعها:
فهو البعد النفسي وقد استحال رمزًا، والرمز وقد أصبح وعيًا كونيًا.
ومن خلاله تبلغ الرواية ذروة التفاؤل الوجودي، حيث يتحوّل الفقد إلى كشف، والعتمة إلى إشراق، والعمى إلى بصيرة.
لغويُّا:
هو ليس مجرّد استعارة جمالية، وإنّما خلاصة الرحلة الوجودية للبطلة خزامى، التي انتقلت من الإدراك البصري إلى الإدراك الباطني.
حين فقدت البطلة بصرها، لم تفقد رؤيتها، بل تحوّلت الرؤية إلى معرفة داخلية تتجاوز الحواس.
الظلام الذي كان رمزًا للنهاية أصبح في وعيها مبدأً جديدًا للرؤية، فانبثق منه «لون» لا يوجد في الطيف المرئي، لونٌ لا تدركه العين، وإنّما تخلقه الروح.

على المستوى الفكري:
ومن هنا تتجلّى الفكرة العميقة في أن الظلام ليس ضدّ النور، بل شرط لظهوره، وأن التجربة الإنسانية في أقصى حدود الألم يمكن أن تُنتج معرفة أصفى من البصر نفسه.
اللون السادس، في هذا السياق، هو لون البصيرة، لون الحقيقة التي تُعاش، ولا تُرى.

أما سلوكيًّا : يعبّر هذا الرمز عن ذروة التفاؤل الوجودي الذي تنتهي إليه الرواية:
فمن عمق العمى وهاوية الفقد، تنبثق قدرة الإنسان على إعادة إنتاج ذاته بوعيٍ جديد.
وهكذا يصبح اللون السادس علامةً على ولادة وعي ما بعد الحواس، ومرادفًا للنور الداخلي الذي يُعيد ترتيب العالم في داخل الإنسان قبل خارجه.

في المنظور الذرائعي:
هذا الرمز يمثّل المرحلة الأخيرة من التوليد المعنوي في النص؛ إذ تتجاوز البطلة حدود الإدراك التقليدي لتبلغ الوعي الكلي، وهو أعلى مستويات النضج النفسي والسلوكي في الأدب الذرائعي.
وبذلك تُختَتم الرواية بدائرة مضيئة تفتح الظلام على النور، وتجعل من الألم أفقًا جديدًا للمعرفة.

• التجربة الإبداعية
تقدّم الكاتبة تجربة إبداعية ناضجة تمزج بين الفلسفة والتحليل النفسي والفن التشكيلي.
التحكم العالي بالزمن النفسي، الذي جعل الرواية أشبه برحلة وعي، لا بحكاية زمنية.
تداخل الفنون: الفن الروائي مع الفن التشكيلي، منح النص بعدًا بصريًا وتجريبيًا نادرًا.
نضجها اللغوي والرمزي يظهر في قدرتها على تحويل العمى إلى فعل جمالي لا مأساوي، وعلى جعل اللغة لوحة تُرى بالوجدان لا بالعين.
الجرأة في تناول موضوع جمالي-فلسفي بعمق نسوي دون استهلاك خطاب المظلومية.
الانفتاح على الحسّ الماورائي والتقني من خلال رمزية «المركز» و«الإعلان» في الافتتاحية؛ إذ يحاكي الخطاب التسويقي لغة الآلة والعالم الرقمي.
كما يتجلّى أثر الفكر التقني (الذكاء الاصطناعي)، فالرواية تمثل نموذجًا لوعي أدبي ما بعد رقمي حيث تُوظَّف الرموز الكلاسيكية برؤية حديثة.

• ملاحظات نقدية: نقاط القوة والضعف
نقاط القوة:
1. العمق النفسي الفلسفي والقدرة على تصوير الصراع الداخلي للبطلة بصدق مؤلم.
2. اللغة الشعرية المحكمة ذات الحسّ التشكيلي العالي.
3. البنية الرمزية المحكمة (النور – الظلام – اللون – المرآة – الدائرة).
4. الحوار الداخلي الغني بالأسئلة الوجودية دون مباشرة.
5. قدرة الكاتبة على دمج الفن التشكيلي بالتحليل النفسي.
نقاط الضعف:
1. التمطيط التأملي في بعض الفصول يجعل الإيقاع بطيئًا جدًا مقارنة بتصاعد الحدث.
2. غياب التمايز اللغوي بين الأصوات السردية الثانوية؛ فكلّ الأصوات تبدو بوعي واحد، وهو ما يقلّل من التمايز الدرامي للشخصيات الثانوية.
3. تكرار الرموز (الدوائر، الظلام، المرايا) أضعف من لحظات المفاجأة السردية.
ومع ذلك، يبقى التكرار الفني (لا اللغوي) جزءًا من إستراتيجية النص لإعادة بناء الوعي، فهو يعكس الدوران الوجودي الذي لا ينتهي إلا بالتصالح.

• بالختام:
تُعدّ رواية «ألوان الظلام» رحلة في أعماق النفس البشرية، من العمى الحسي إلى البصيرة الروحية.
وهي عمل ينتمي إلى الأدب النفسي-الوجودي، يعيد صياغة العلاقة بين الجمال والحقيقة، ويحوّل الألم إلى وعي.
من منظور ذرائعي، تتكامل مستويات النص لتخدم فكرة واحدة:
أن الظلام ليس غيابًا بل حالة وعي جديدة.
وفي هذا السياق، يبرز التفاؤل الوجودي بوصفه ناتجًا عن التجربة وليس عن الوهم؛ فكلّ سقوطٍ في العتمة يحمل في جوهره إمكانية النهوض بالنور.
هكذا تنجح الكاتبة في تحويل المأساة إلى معرفة، والعتمة إلى أفق مفتوح، لتجعل من روايتها بيانًا أدبيًا في الإنسان الباحث عن نوره الخاص.
ويُتوَّج البناء الرمزي في الرواية بما يمكن تسميته بـ«اللون السادس للوعي»، الذي يشكّل الذروة الإيحائية والفكرية للنص، إذ يتحوّل الظلام من مساحة فقدٍ إلى مجال إدراك جديد.
هذا اللون ليس من الطيف المرئي، بل من الطيف الداخلي، يولد في أعماق النفس حين تبلغ وعيها الكلّي، فيغدو العمى بصيرة، والعتمة طريقًا إلى النور.
وبهذا المعنى، تُغلق الرواية دوائرها المفتوحة على ضوءٍ فلسفيٍّ خافت لكنه دائم، لتؤكّد أن الإنسان لا يُبصر العالم إلا حين يُنصت إلى نوره الداخلي.

#دعبيرخالديحيي الاسكندرية – مصر 6 أكتوبر 2025






ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- الأخوان ناصر: إنسان غزة جوهر الحكاية.. ولا نصنع سينما سياسية ...
- الأخوان ناصر: إنسان غزة جوهر الحكاية.. ولا نصنع سينما سياسية ...
- -سيرة لسينما الفلسطينيين- محدودية المساحات والشخصيات كمساحة ...
- لوحة للفنان النمساوي غوستاف كليمت تصبح ثاني أغلى عمل فني يُب ...
- معاناة شاعر مغمور
- الكويت تعلن عن اكتشافات أثرية تعود لأكثر من 7 آلاف سنة
- الصين تجمّد الأفلام اليابانية في ظل اشتعال ملف تايوان
- حي بن يقظان لابن طفيل.. قصة فلسفية تجسد رحلة البحث عن المعرف ...
- لوحة للفنان النمساوي كليمت تصبح ثاني أغلى عمل فني يُباع في م ...
- ثاني أغلى عمل فني يباع بمزاد علني في التاريخ.. لوحة للفنان ا ...


المزيد.....

- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية / د. أمل درويش
- مشروع مسرحيات مونودراما للسيد حافظ. اكسبريو.الخادمة والعجوز. ... / السيد حافظ
- إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا ... / عبدالرؤوف بطيخ
- المرجان في سلة خوص كتاب كامل / كاظم حسن سعيد


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عببر خالد يحيي - من الظلام إلى النور: دراسة ذرائعية في البنية النفسية-السلوكية والتفاؤل الوجودي في رواية /ألوان الظلام/ للكاتبة السورية السعودية ريما آل كلزلي