فريد يحيى
الحوار المتمدن-العدد: 8524 - 2025 / 11 / 12 - 15:15
المحور:
كتابات ساخرة
من العجيب أنني، الكائن الذي يدرك معنى الزمن، ومع هذا هو أيضًا أكثر من يبدده.
استيقظ كل صباح وأنا أنتظر المساء، وامضي نهاري في التذمّر من رتابة الساعات، كأنني أحمل عبئًا ثقيلًا اسمه اليوم، وأتمنى أن يُطوى سريعًا. أتحسّر من طول الوقت، بينما أنا في الحقيقة أسابقه إلى نهايته.
الملل يجعلني أختصر عمري دون أن نشعر. فكل لحظة اتمناها أن تنقضي، إنما انتزعها من رصيد حياتي
حين أقول "ليته المساء يأتي بسرعة"، فإنني في العمق أقول: "ليت جزءًا من حياتي يزول الآن".
وهكذا، يصبح الروتين اليومي كالمحراث الذي يمرّ على أيامي، يفرغها من المعنى حتى تصير مجرد تواريخ في تقويم لا يحمل سوى العادة والملل.
الحقيقة أنني لست أعيش عمري كما ينبغي، لأنني ببساطة أعيش في انتظار ما بعدها: أنتظر نهاية الدوام، ونهاية الأسبوع، ونهاية الصيف، ونهاية السنة... حتى أدرك متأخرا أنني كنّت أنتظر نهاية العمر ذاته.
كم أتوق أن أرحل يومًا… أن أترك خلفي صخب المدن ووجوهها المرهقة، لألوذ بمكان لا تطأه الضوضاء ولا يمرّ به الزمن.
كوخ خشبي صغير في قلب الغابة، يختبئ بين أشجارٍ عالية كالحلم، يحتضنه ضوء الصباح بنعومة، وتغمره رائحة الأرض المبتلة بندى الفجر.
هناك، لا أسمع غناءً إلا أنغام الطيور حين تتناجى فوق الأغصان، ولا موسيقى إلا خرير جدولٍ صغير ينساب قرب النافذة كأنّه يحدّثني همسًا.
الريح تمرّ على الأوراق فتداعبها، فيتردّد صوتها كضحكة خفيفة للحياة.كل شيء هناك ينطق بالسكينة، كأن الوجود نفسه قرر أن يتنفس ببطء.
سأحمل معي بعض الأغراض التي تشبهني:كتاب صفحاته مشبعة برائحة الزمن، لابتوب أودع فيه ما تبقّى من حروفي، العاب محاكاة كمبيوتر تجعلني اتنقل بين عديد من الحيوات التي كنت اتمناها و لم اعشها لاكتشفها ، وبعض الصور التي لا أريد أن تنسى وجهي.
كوب خزفي مائل للحزن، ومعطف دافئ رافقني أكثر مما فعل الأصدقاء.
في ذلك الكوخ لن أحتاج إلى ساعة، فالنهار سيخبرني بقدومه من خلال الضوء الذي يتسلل من الشقوق الخشبية، والليل سيعلن حضوره حين تتوهج النار في الموقد وتبدأ القصص القديمة بالهمس.
كم هو جميل أن أعيش هناك بلا مواعيد، بلا واجبات، بلا ضجيج!
أن أتحرر من كل ما يقيّد أنفاسي، أن أكون مجرد إنسانٍ يتأمل العالم من بعيد، ويبتسم لأنّه أخيرًا صار حرًّا.
لكن ما يمنعني هو احترامي للمسؤولية…ذلك الحبل غير المرئي الذي يشدّني إلى الآخرين فيمنعني من الرحيل،
وذلك الاعتياد القديم على أن أضع نفسي آخر القائمة، لأنني ببساطة لم أتعوّد أن أحب نفسي كما ينبغي.
ومع ذلك، يظلّ الحلم قائمًا هناك، في عمق القلب:كوخٌ دافئ في الغابة، ينتظر يومًا لا أعرف متى أجرؤ فيه على الذهاب.
لعلك هناك سيدة فضولية ستسأل هل تكون هناك وحيد بلا امرأة؟ يمكنني أن اجيب أنني أرى النساء كما أرى الحياة نفسها: لغزًا من الضوء والعتمة، لا يُفسَّر، بل يُعاش.في حضورهن أشتعل، كأن الشرارة الأولى للخلق تولد في أعماقي من جديد.
ما إن تقترب امرأة من وهجي حتى تصير هي الحطب الذي يغذّي ناري، فأتوهّج بها، أبدع بها، أتفختر بخطاى، كأن الأرض لا تتّسع لمجرد مروري عليها.
النساء حين يصدقن في العشق يصبحن جناحين لا يُرى لهما حدّ.كلما أحبّتني امرأة، صرت أكثر صفاءً ولمعانًا، كنجمة تُغسل بالحنان.أغرق فيها حتى أتنفّسها، أذوب فيها حتى أجدني فيها.تكون رفيقتي ووحيي، سكني وقلقي، أمانًا يشبه الحلم وفتنةً تشبه الحياة نفسها.
لكنني أعرف… أعرف أن ما أراه قد لا يكون كما هو في الواقع.فالمرأة بطبيعتها واقعية، تمشي على الأرض بحذرٍ ووعيٍ لا يخطئ.أما أنا، فأحلم بها أكثر مما يسمح الحلم.
هي وُلدت لتُعطي، لتُضمّد، لتحتمل، ولعل ذلك سرّ شفرتها القديمة رحمٌ في داخلها، يمنحها قدرة على الألم بقدر ما يمنحها المعنى.ولذا أحبها أكثر، لا لأنها ضعيفة كما يظن البعض، بل لأنها وحدها القادرة على الجمع بين العطاء والاحتراق، بين الحلم والواقع، بين الولادة والموت في لحظة واحدة.
هي النار التي تحرقني، وهي الماء الذي يطفئني، هي الرفيقة التي لا أملكها، ومع ذلك لا أكفّ عن الكتابة عنها.
أحيانًا، أتمنى لو يعود عمري إلى أيام الطفولة…تلك السنوات التي كانت تبدو بسيطة، ناصعة، بلا هموم ولا حسابات.لكنّ الفكرة، ما إن تستقر في رأسي للحظات، حتى يهبّ منها خوفٌ قديم خوف الأب السلطوي، ورعب المدرسة حين تتحول إلى مؤسسة للعقاب لا للتعلّم.
عندها أبتسم بمرارة وأقول لنفسي: لا، لا أريد العودة.لقد دفعت ثمنًا باهظًا لأتحرر من كل تلك القيود، ولن أعود إليها طوعًا.
أنا معتزّ بحرّيتي، بتخلّصي من زمن الأوامر الصارمة التي لا تُناقش، ومن تلك النغمة الخانقة التي تردّد: “افعل… لا تفعل… اجلس… انهض…”
لقد تعلّمت أن الإنسان لا ينمو بالعصا، بل بالفضول.
وكلما تذكّرت أغنية “We don’t need no thought control… Hey teacher, leave them kids alone”
أشعر أن بيني وبينها حلفًا سريًا ليست ثورة على العلم، بل على القمع المتنكّر في هيئة تربية.
أنا لست ضد العلم، بل أؤمن به كضوءٍ يقودنا إلى الحقيقة.
لكنني ضد الامتحانات العقيمة التي تزن العقل بالدرجات، وضد الأنظمة التي تخنق الخيال وتكافئ الطاعة أكثر من الفكر.
أظن أن ما تفعله جامعة إيلون ماسك من رفضٍ لفكرة الامتحانات التقليدية واعتمادها على الفهم والإبداع هو خطوة في الطريق الصحيح، نحو تعليمٍ يحرّر لا يقيّد، يبني الإنسان لا يختبره كآلة.
ولأُبرهن لك على خوفي المزمن من كلمة “اختبار”،فليس سرًا أعدتُ امتحان القيادة عشر مرات؟!
نعم، عشرًا كاملة، مع أنني كنت أذهب إلى الاختبار بسيارتي الخاصة! السرّ في فشلي لم يكن سوء مهارتي — فأنا أقود بثقة تامة عندما أشعر أنني حرّ.. لكنّ مجرد فكرة أنني في اختبار كانت كفيلة بأن تربكني وتُسقطني في أبسط الأخطاء:نسيان فرامل اليد… أو عدم تعديل المرآة! إنها تلك الحالة الملعونة التي تجعلنا نخاف من السقوط أكثر مما نرغب في النجاح.
إن مجرّد الغوص في هذا الشعور — شعور الخوف من الفشل المفروض علينا منذ مقاعد الدراسة — كفيل بأن يجعلنا ندرك كم استوطن القمع داخلنا.لقد تربينا على الخوف من الخطأ أكثر من شغفنا بالصواب، وعشنا نُقيّم أنفسنا بعين المراقب لا بعين الحالم.
لهذا، ربما لا أريد أن أعود إلى الطفولة، بل أريد أن أُكمل رحلتي إلى الأمام، طفلًا حرًّا هذه المرّة، بلا خوف…وبعقلٍ يتعلّم لأن المعرفة حياة، لا امتحان.
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟