طوني فرنسيس
الحوار المتمدن-العدد: 8523 - 2025 / 11 / 11 - 12:13
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لو أزيل العنوان الفلسطيني من الاستراتيجية الإيرانية الإقليمية لن يبقى لإيران ما تقوله أو تفعله في كل المحيط العربي والدولي.
العنوان الفلسطيني كان، منذ مجيء الإمام الخميني إلى الحكم في عام 1979، مدخلاً لتبرير "تصدير الثورة" الخمينية إلى دول الجوار، وبما أن التركيبة السكانية لهذه الدول تختلف وتتنوع، فإن جسر عبور المنتج الثوري لم يكن سوى التأجيج المذهبي، استندت الصادرات الإيرانية المستحدثة إلى أتباع المذهب الشيعي في البلدان المجاورة، وسعت إلى تحويلهم قاعدة دينية - سياسية تتبع "ولاية الفقيه" الإيراني ويؤمنون بتحويل بلدانهم إلى أجرام تدور في فلك الجمهورية الإسلامية قبل أن تصبح جزءاً منها.
هذا ما قاله حسن نصرالله أبرز قادة المشروع الإيراني في الوسط العربي قبل 40 عاماً قبل أن تجبره وقائع وتوازنات بلده على الانكفاء وممارسة التقية، ومثله فعل أتباع آخرون في العراق والبحرين واليمن، الذين لم يكن لهم من مبرر للاستمرار في مواجهة بلدانهم وخيارات شعوبهم سوى القفز إلى الشعار الأكثر رواجاً، الدفاع عن الشعب الفلسطيني وتحرير القدس، لكن الأمر يحتاج مع ذلك إلى مزيد من التدقيق.
لم يكن الاستعمار القديم يحتاج نظرية أو عقيدة "إنسانية" لتبرير سيطرته على أراضي الآخرين، ومع قيام الاتحاد السوفياتي ونشوء فكرة الأممية البروليتارية تأسست قاعدة أيديولوجية بدت متينة لتوسيع نفوذ النظام الجديد، كانت تلك القاعدة الأمتن والأكثر إقناعاً، إلا أنها سرعان ما تعرضت إلى اختبارات مميتة، لقد فضلت الدولة السوفياتية مصالحها الخاصة في غالب الأحيان، وتخلت عن موجبات التضامن الأممي عندما كانت المفاضلة تدور بين حاجات الدولة ومصائر شعوب وأحزاب حليفة.
بدأ ذلك منذ توقيع المعاهدة بين هتلر وستالين (مولوتوف - ريبنتروب) عشية الحرب العالمية الثانية، ثم في مفاوضات اقتسام العالم بعد الحرب الكبرى الثانية، وخلال وقت لاحق كانت العلاقة مع أنظمة أبادت الحلفاء الشيوعيين مثل عراق صدام حسين، وسودان جعفر النميري، وإيران الخميني نموذجاً مثيراً للتفكير، في تلك البلدان جرى القضاء على الشيوعيين فيما ازدهرت علاقات موسكو معها غير متأثرة بمقتضيات التضامن الأممي المنصوص عنها في أدبيات التغيير الثوري للعالم، تجربة أخرى مماثلة حصلت في علاقة موسكو مع طهران.
وإذا كانت الدول العظمى تقوم بهذه الفعلة غير المبدئية فكيف بقوى إقليمية أصغر مثل إيران. تعامل نظام الملالي مع أتباعه بدا كاريكاتيرياً بالمقارنة مع النهج السوفياتي، فلدى احتدام المعركة واقتراب إسرائيل ومعها الولايات المتحدة الأميركية من تهديد النظام في عقر داره، انهار البناء الأممي المذهبي في مستوييه.
انكشفت لعبة الالتزام بدعم حقوق الشعب الفلسطيني من جهة، وانفضحت رواية دعم الشعوب العربية في بناء وتمتين دولها المقاومة من جهة أخرى، وانفردت إيران دائماً، إلى جانب اليمين الإسرائيلي، في رفض مشروع الدولة الفلسطينية الذي هو الآن، وبعد حرب غزة خصوصاً، الأمل الوحيد الذي يمكن ويجب العمل من أجله، وعادت إلى طرحها الخيالي السابق عن إجراء استفتاء لسكان فلسطين الأصليين، قبل عام 1948 لتقرير مصيرهم (حمل رئيس مجلس الشورى محمد باقر قاليباف هذا المشروع في زيارته الأخيرة إلى باكستان).
وفي موازاة ذلك انكفأت روايتها عن دعم صمود الدول العربية و"مقاوماتها" إلى استمرار لتعزيز عوامل الانقسام فيها، عبر السعي إلى الحفاظ على ميليشيات مذهبية تابعة تمعن في نسف أسس قيام الدولة الوطنية، وفي لبنان عززت إيران انفصال "حزب الله" عن الدولة ومشروعها في حصر السلاح وإعادة بناء المؤسسات، وفي العراق جعلت أحد ناطقيها، جعفر الحسيني (حزب الله العراق) يتحدث صراحة عن إعلان شأن "السلاح الشيعي" فوق الدولة والمجتمع، ثم جعلت من حوثيي اليمن ناطقين جدداً باسم جبهة إسناد لـ"مقاومي" لبنان والعراق الإيراني الوجهة والالتزام.
يشبه كتاب "حزب الله" في لبنان الموجه إلى رئيس الجمهورية ورئيسي مجلس النواب والحكومة خطاب المسؤول في "حزب الله" العراقي، الاثنان يعتبران نفسيهما خارج الدولة وفوقها، والاثنان يتكئان إلى عصبية مذهبية لا ينفكان عن استثارتها.
والحال أن هذا هو حصيلة المذهب الإيراني الخميني في رؤيته للبلدان المجاورة، العربية خصوصاً، وفي سعيه إلى "شيعنة" البشرية بوهم تخليد الفقيه وولايته.
لعل تجربة طرد الاحتلال من لبنان خلال عام 2000، تقدم النموذج الأكثر صراحة عن الفهم الإيراني لمعنى المقاومة وأهدافها، لقد انسحبت إسرائيل من الجنوب اللبناني في ذلك العام، بعد نحو 23 عاماً من الاحتلال، وكان يمكن لتلك اللحظة أن تتحول إلى مناسبة فرح شامل بإنهاء احتلال أول بلد عربي من خلال المقاومة ومن دون أية أثمان مقابلة، لكن تمسك إيران ونظامها في سوريا ببقاء "المقاومة" بعد التحرير نسف إمكانية تحويل فرصة انسحاب الاحتلال إلى عرس وطني جامع ونقطة انطلاق لبناء لبنان جديد، بعد أكثر من ربع قرن من الحروب والاحتلالات.
نسف التمسك الإيراني - السوري بإبقاء "حزب الله"، حزباً وحيداً مسلحاً، وتحويله لاحقاً إلى جيش إقليمي، إمكانية استعادة لبنان حياته الطبيعية، كما كان يفترض أن يحصل وحصل في كل البلدان المتحررة من الاحتلال، وضرب آمالاً كبرى لدى شعبه ومحبيه في الانتقال إلى يوم آخر.
كان الشاعر الفلسطيني محمود درويش من أفضل من عبروا عن مشاعر اللحظة في حينه، تحدث في احتفال جامعة بير زيت الفلسطينية بمناسبة تحرير الجنوب ليقول "كل ما في لبنان اليوم جميل، عودة أهل الجنوب، فجر واسع بلا احتلال، مساء آمن على الشرفة، تعميم النصر على جميع طوائف الشعب اللبناني وقواه السياسية وعلى قصر بعبدا أيضاً".
كان ذلك زمن تحقيق انتصارات فرضتها وقائع الأرض، في فلسطين أجبرت الانتفاضة إسرائيل على التراجع، وفي لبنان جعلت المقاومة اللبنانية منذ عام 1982 إسرائيل عاجزة عن البقاء، لاحقاً صارت "المقاومة" جزءاً من حسابات الإقليم، الإيرانية تحديداً، فقادت إلى خراب جديد راسخ.
صار كل شيء، منذ "طوفان الأقصى"، محكوماً بحسابات إيران وإسرائيل، وبمصير التفاوض الأميركي الإيراني حول مستقبل إيران ودورها.
لم يعد لإيران ما تفعله سوى مواصلة الدفاع عن نظامها، وفي سبيل ذلك تتراجع أدوار الأذرع إلى حدود الازعاج العام للتحالف الأميركي - الإسرائيلي كأوراق تفاوض، ولو على حساب بلدانها وشعوبها.
ربما هذا هو الواقع الذي نعيشه اليوم في انتظار تفاوض أميركي - إيراني لم تنضج ظروفه بعد، بل هو يبتعد مما قاله المرشد خامنئي قبل أيام، لقد رأى خامنئي خلال الثالث من نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري أن شرط استعادة المفاوضات هو في توقف الولايات المتحدة" عن دعم النظام الصهيوني وسحب قواعدهم العسكرية من المنطقة، لكن هذا أمر غير متوقع حالياً، ولا في المستقبل القريب".
وإزاء هذا التحليل لن يكون مستغرباً أن يقدم "حزب الله" نفسه بديلاً عن الدولة اللبنانية، ولا أن يهجس الحشد الشعبي العراقي بألوهية السلاح الشيعي ويدعو لانتخابات عراقية "تعجل في الظهور"، ثم ينبري الحوثي إلى مهمة "إسناد" تتسع من غزة إلى بيروت وبغداد.
#طوني_فرنسيس (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟