أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - سعود قبيلات - أزمة اليسار وحركة التَّحرُّر العربيّ.. إلى أين؟ وما الحلّ؟















المزيد.....


أزمة اليسار وحركة التَّحرُّر العربيّ.. إلى أين؟ وما الحلّ؟


سعود قبيلات

الحوار المتمدن-العدد: 8519 - 2025 / 11 / 7 - 13:59
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


(مساهمتي في الحواريَّة، الَّتي أقامها "منتدى الفكر الاشتراكيّ"، تحت عنوان: كيف نتخطَّى الأزمة؟، في مقرِّه المركزيّ في عمَّان، قبل أشهر)

كيف نتخطّى الأزمة؟

هذا سؤال كبير ومركزي وَرَدَ في عنوان هذه الحواريّة؛ وقد اخترت أن أجيب عنه من زاوية أزمة اليسار وحركة التَّحرُّر العربيّ؛ لأنَّ أزمة اليسار هي من أهم المفاتيح لفهم الأزمة الَّتي تعيشها بلادنا والبلاد العربيَّة؛ إذ يُفترض باليسار، موضوعيًا، أن يكون صاحب الحل، لكنه اليوم عاجز عن القيام بدوره لأسباب سأتحدث عنها لاحقًا؛ وبالنَّتيجة، فنحن في حالة انسداد تاريخيّ، بسبب عجز اليسار عن القيام بالدّور المنوط به تاريخيّاً.

اليسار والتَّحرُّر الوطنيّ
لفهم أبعاد هذه الأزمة، لا بد أن نحدّد، أوّلًا، موقعَ اليسار في سياق حركة التَّحرُّر الوطنيّ والقوميّ. بلادنا العربيّة، مثل كثير من البلدان المهمَّشة، إنَّما هي جزءٌ من أطراف النِّظام الرَّأسمالي الدَّولي.

هذا الموقع التَّابع، يولِّدُ سلسلةً من التَّبعيَّات السِّياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة الَّتي تُحوِّل الدَّولةَ إلى أداةٍ لخدمة مصالح الشّركات متعدِّدة (ومتعدِّية) الجنسيَّة، سواء أكان ذلك بشكلٍ مباشرٍ أم عبر الطَّبقات المحليَّة الكمبرادورية.

وبناءً عليه، يصبح التَّحرُّر الوطنيّ والقوميّ عنوانًا رئيساً لأيّ مشروعٍ تغييريٍ حقيقيّ.

وهنا، أُنوّه بأنَّني لا أميل إلى اختزال هذه المسألة في شعار «فك التبعية» الدَّارج في خطاب العديد من قوى اليسار التَّقليديّ، لأنَّ التَّبعيَّة بُنية متكاملة، سياسيّة، اقتصاديّة، اجتماعية، وثقافيّة، لها بنيانٌ فوقيٌّ من جنسها، وتعتمدُ على طبقاتٍ محليَّة طُفيليّة مستفيدةً منها، وليست مجرَّد سلسلة علاقات يمكن فكُّها بجملةٍ من القرارات الإداريَّة أو السياسيّة.

التَّحرُّر الوطنيّ، إذاً، يتطلَّبُ نقضَ هذه البُنية، بمجملها ومن أساسها، وإعادة بناء الدَّولة على أُسُسٍ جديدةٍ: اقتصاديَّة، اجتماعيَّة، ثقافيَّة، وسياسيَّة.

أمَّا لماذا قرنتُ بين حركة التَّحرُّر واليسار؟ فذلك لأنَّني أرى أن برنامج التَّحرُّر الوطنيّ هو برنامج يساريّ، وأدعِّم ذلك بما يلي:
1. أنَّه لا يمكن إنجاز مهمَّات التَّحرر الوطنيّ من دون تفكيك بُنية التَّبعية وإعادة توزيع الدَّخل والثَّروة لصالح الطَّبقات الشَّعبيَّة، وإعادة تسليم مقاليد السُّلطة إلى الشَّعب.
2. أنَّ النِّظام الرَّأسماليّ الدّولي يتَّسم بحالة استقطابٍ حادَّةٍ بين مراكزه وبين أطرافه، تهيمن فيها المراكزُ على الأطراف وتستغلُّها، الأمر الَّذي يجعل التَّحرُّرَ الوطنيَّ نمطاً من أنماط الصّراع الطَّبقيّ يدور على مستوى النِّظام الرَّأسماليّ الدَّولي ككُل.
3. أنَّه مع تمدُّد الشّركات متعدِّية (ومتعدّدة) الجنسيَّة إلى مختلف بلدان الأطراف في العقود الأخيرة، ووضع يدها بشكلٍ مباشرٍ على ثروات تلك البلدان، واستيلائها على فائضِ قيمةِ العمل فيها بشكلٍ مباشرٍ أيضاً وليس من خلال وكلائها الكمبرادوريين فقط كما كان الأمر في السابق، لم يعد الاستغلال الطَّبقيّ يتمُّ عبر وكلاءٍ محليين فقط، بل مباشرةً، ما يُحوِّل الصّراعَ الوطنيَّ إلى صراعٍ طبقيٍّ مباشرٍ مع المراكز الرأسماليَّة.
4. أنَّه، بناءً على ذلك كلّه، لا يمكن تحقيق مهامّ التَّحرُّر الوطنيّ إلا بالتَّصادم مع المراكز الرَّأسماليَّة الدَّولية، الأمر الَّذي يتطلَّب أن يكون برنامج التَّحرُّر الوطنيّ بأُفُقٍ اشتراكيّ. وقد ثبت بالتَّجربة أن جميع محاولات التَّحرُّر الوطنيّ الَّتي لم تكن بأُفُقٍ اشتراكيٍّ حقيقيّ فشلت في النِّهاية، وعادت البلدان الَّتي طبقتها إلى نوعٍ من التَّبعيَّة أشد مضاضة وجوراً.

وبالخلاصة، فإنّه لا يمكن إنجاز برنامج التَّحرُّر الوطنيّ إلا بقوى يساريّة حقيقيّة، ما يجعل اليسار موضوعيًا هو عماد حركة التَّحرُّر الوطنيّ والقوميّ، لكن اليسار القائم عاجز عن القيام بمهمّته التَّاريخيَّة؛ وهذا هو جوهر الأزمة العامَّة الَّتي نتحدَّث عنها.

مظاهر أزمة اليسار
لقد بدأ الحديث عن أزمة اليسار منذ سبعينيَّات القرن الماضي، وأحيانًا كان يُقال «أزمة حركة التَّحرُّر العربيّ». وبناءً على ما سبق أن أوضحته، فإنَّني أجد التَّسميتين مترادفتين تقريبًا. آنذاك، بدأت تظهر علامات التَّحوُّل في هويَّة اليسار ودوره؛ فمن حاملٍ لمشروع التَّحرُّر الوطنيّ والقوميّ، تحوّل اليسار تدريجيًا إلى تيَّار ليبرالي يكتفي بالمطالبة بإصلاحات ديمقراطيّة في الإطار البورجوازيّ، متخلِّيًا عن مهمَّاته الأصليَّة. هذا التَّحول، أفقده، تدريجيّاً، موقعه في قيادة الجماهير، وفي صوغ المشروع البديل.

وأجد من الضّروريّ أن أوضِّح هنا أنَّ أزمة أحزاب اليسار وقواه ليست أزمة اليسار بمجمله، حيث إنَّ مفهوم اليسار يشمل المبادئ والأفكار والبرامج والعاملين من أجل تحقيقها، وأساليب العمل الرَّامية إلى تحقيقها. أمَّا أحزاب اليسار وقواه، فهي فرعٌ من هذا المفهوم وليست المفهوم كلَّه كما هو شائع؛ إنَّها أداةٌ فقط لتحقيق أهداف اليسار؛ وهذه الأداة، عانت من القصور الذَّاتي، في النِّهاية، وتراجعت قدرتُها على الحركة.

أمَّا فيما يخصّ مفهوم الأزمة، فأقترح، هنا، بدلًا من ذلك، مفهومَيْ «الحدود التَّاريخيَّة» و«الموجات التَّاريخيَّة». هذا، أدقُّ وأقرب إلى التَّحليل العلميّ.

وفي هذا السِّياق، فأزمة اليسار، في بلادنا العربيَّة، هي أزمة موجةٍ يساريَّة بلغت حدودَها التاريخية وماتت وشبعت موتاً، ولم يظهر بديلُها الضّروريّ بعد. وعدم ظهور البديل الضّروريّ هو جوهر الأزمة.

وهنا، أتذكَّر قصَّةً لي من نمط القصص المكثَّفة، وهي بعنوان «جثة»، وتقول: «مشى الرَّجل طويلًا، وبينما هو ينقل خطواته مات؛ غير أنَّه لم يفطن لموته، كما أنه لم يعرف كيف يأوي إلى قبره. وأخذت جثّتُه تتحلَّل؛ فلم يعرف ماذا يفعل بها؛ فحملها وواصل المشي؛ وعندئذٍ، مات، مرَّةً أخرى، وأمعن في الموتِ، بينما هو لا يزال يواصل المشي».

وبينما نحن نتحدَّث، الآن، عن أزمة اليسار العربيّ التَّقليديّ، نجد موجةً جديدةً من اليسار تنطلق في أماكن مختلفة من العالم؛ حيث تنبثق، من الواقع، أحزاب يساريَّة، وحركات يساريَّة؛ وتزدهر، وتتَّسع قاعدتها الاجتماعية، وتصل إلى السُّلطة محمولَةً على أكتاف الجماهير.

يحدث هذا في أميركا اللاتينيَّة وفي بعض أنحاء أوروبا..

وهكذا لا نستطيع أن نتحدث أيضًا بالمطلق عن أزمة الفاعلين اليساريين وفي كلّ مكان. إذاً، هي أزمة يسار في مكانٍ معين وفي ظرفٍ تاريخي معين.

يسار موجود بذاته فقط
فيما يخصّ اليسار التَّقليديّ في الأردن وفي معظم البلاد العربية، فأنا أعتقد أنه أصلًا لم يتجاوز حالة الوجود بذاته، أعني أنَّه مارس وجودَه كانعكاسٍ موضوعيٍّ شكليٍّ فقط لمظالم النِّظام الرَّأسمالي الدَّولي، ولم يرتقِ إلى مستوى الوجود لذاته، الوجود الفاعل والَّذي يشمل الرَّدَّ الجدّيّ الملموس على هذه المظالم.

وشرط الانتقال من حالة الوجود بذاته إلى حالة الوجود لذاته هو الوعي الَّذي يقود إلى الفعل المبنيّ على هذا الوعي. أعني وعيَ الذَّات، وإدراك مصالحها، والعمل بإخلاص من أجلها.

وجود اليسار التَّقليديّ، في بلادنا، في مستوى الوجود بذاته، وعدم ارتقائه إلى مستوى الوجود لذاته، أدَّى إلى اعتماده، في جانب الوعي والنَّظر السِّياسيّ الماركسي، إلى حدٍّ كبير، على ما كان يُنتَج منهما في الاتِّحاد السُّوفييتي، ضمن ظروف الدَّولة السّوفييتيّة وتقلُّبات أحوالها ومصالحها.

وهكذا، بدلًا من إعادة إنتاج الفكر الماركسي والنَّظر الماركسي من مفردات البيئة العربيَّة والظُّروف العربيَّة والمصالح العربيَّة، تمَّت استعارة هذا الفكر، وهذه النَّظرات، من الاتِّحاد السُّوفييتي.

وهنا، غاب عن الأحزاب اليساريَّة والشُّيوعيّة العربيَّة شرطٌ أساسيٌّ، من شروط وجود الحزب الثّوريّ، وهو شرط النَّظريَّة الثَّوريَّة المتَّصلة بالواقع المحدَّد وبالظَّرف التَّاريخيّ المعيَّن؛ وهذا، بخلاف ما كان عليه الحال مع اللينينيّة في الثّورة السّوفييتيّة، والماويّة في الثّورة الصِّينيّة، ونظرات كاسترو وجيفارا فيما يخصّ الثَّورة الكوبيّة. كل هذه الثّورات قادها ماركسيّون كبار، اجتهدوا بما يتلاءم مع أوضاع بلدانهم، واجتهدوا في فهم الماركسيّة، وطوّروا الماركسية بما يتلاءم مع بلدانهم، وأوّلهم لينين.

وهنا أُنوّه إلى المفارقة التَّالية: في فهمٍ مغلوطٍ للّينينيّة، كثيرٌ من الأحزاب الشُّيوعيَّة تخلَّى عن اللينينيّة، بعد انهيار الاتِّحاد السُّوفييتي، واعتبرها جمودًا!

في الحقيقة، اللينينية هي الديالكتيك، هي التغيير المستَنِد إلى النَّظر العلميّ، هي الفكر الَّذي يتناسب مع الواقع الملموس والظرف الملموس والمرحلة التَّاريخيَّة المحدَّدة؛ هذا الذي فعله لينين. لكنّ هؤلاء، الَّذين يحسبون أنفسَهم على الشُّيوعيَّة، فهموا الأمر بالشّقلوب، وفعلوا العكس؛ وكشفوا أنَّهم هم الَّذين يعانون من الجمود وليس لينين واللينينيَّة.

النَّظريَّة الثَّوريَّة لا تُستورد ولا تُستعار، بل يُعاد إنتاجُها ضمن شروط المرحلة التَّاريخيّة الماثلة وواقع البلد المعنيّ. والمشكلة أنَّ اليسار العربيّ الَّذي نشأ بعد هزيمة حزيران في العام 1967 وطرح نفسه بديلًا للأحزاب الشيوعية العربية، لم ينتج هو الآخر نظريَّة ثوريَّة، بل استعار التَّجارب والتَّطبيقات الماويَّة والجيفاريَّة؛ أي أنَّه، ضمنًا، رأى أنَّ المشكلة هي في التَّطبيقات السُّوفييتيَّة، وليست في استعارة هذه التَّطبيقات، وعدم إنتاج النَّظريَّة الثَّوريَّة المطلوبة؛ لذلك، اكتفى بأن استعار من مكانٍ آخر.

مظاهر أزمة اليسار
1. انحسار نفوذ أحزاب اليسار التَّقليديّ، رغم اتِّساع القاعدة الاجتماعيَّة للبرنامج اليساريّ موضوعيًا؛ فنحن نجد أنَّ الجماهيرَ العربيَّة، الَّتي تخرج في مختلف الشَّوارع العربيَّة، تطرح عمليّاً برنامجَ اليسار؛ كلُّ المطالب الَّتي تطرحها هي برنامج اليسار؛ لكن أين اليسار؟
2. تراجُع دور أحزاب اليسار التَّقليديّ في الحياة السِّياسيَّة والاجتماعيَّة والثَّقافيَّة إلى مستوياتٍ هامشيَّة، وانشغالها بالصّراعات الدَّاخليَّة التَّنظيميَّة، على حساب الفعل الكفاحيّ المطلوب.
3. تراجُع قُدرة أحزاب اليسار التَّقليديّ على استنباط الحلول المبتكرة من واقع بلدانها ومن الظروف التاريخيَّة المحدَّدة.
4. غياب قُدرة أحزاب اليسار التَّقليديّ على إنتاج الفكر اليساريّ الثّوريّ اللازم لقراءة الواقع بشكلٍ صحيح وتقديم البرنامج البديل. أين هو، الآن، الحزب اليساريّ، أو الشُّيوعيّ، العربيّ، الَّذي ينتج فكراً يساريّاً، أو فكراً ماركسيّاً؟ لا يوجد مع الأسف.
5. غياب أيّ أفق منظور، لنهوضٍ جديدٍ، يعيد اليسارَ التَّقليديَّ، في بلادنا، إلى دفَّة قيادة النِّضال من أجل التَّحرُّر الوطنيّ والتَّحوُّل الدِّيمقراطيّ.

بالخلاصة، نحن أمام يسار لا يملك سوى تركيز جهوده على إدارة أزمته بدلًا من مواجهتها؛ إنَّه يفعل تمامًا كما تفعل الأنظمة الَّتي تدير أزماتها بدلًا من تسعى إلى حلّها.

أسباب أزمة اليسار
1. تَخلِّي أقسام عديدة من قوى اليسار التَّقليديّ، في مراحل مختلفة وبمستويات متباينة، عن شعارها السَّابق المعلن، الَّذي ينصّ على العداء للإمبرياليَّة والصّهيونيّة والرّجعيّة العربيّة. ففي ظلِّ الطَّفرة النّفطيَّة، أصبح قسمٌ من اليسار يجامل الرّجعيَّة ويراعيها باسم «التَّضامن العربيّ وتوحيد الصّفّ العربيّ» وما شابَه.
وقد أدَّى خلط الأوراق، هذا، إلى تضليل قطاعاتٍ واسعةٍ من الرَّأي العامّ العربيّ؛ الأمر الَّذي جعل الرَّجعيَّة تخرج في النِّهاية من عزلتها وتنتقل إلى الهجوم. ولقد رأينا، في فترة ما سمِّي «الربيع العربيّ» كيف صارت الرّجعيَّة العربيَّة في موقع الهجوم، سواء كأَنْظِمة أم كَتَنْظيمات.

وقد انخرط بعض أطراف اليسار العربيّ في تبنِّي خطّ التَّسويات السِّياسيَّة مع العدوّ الصّهيونيّ، وأيَّد البعض الآخر مسار التَّسويات وسكت آخرون عنها؛ الأمر الَّذي ضرب صدقيَّة موقف العداء الجذريّ للصّهيونيَّة ونتاجها القبيح (الكيان الصّهيونيّ).

وبعد انهيار الاتِّحاد السُّوفييتي، غشيت اليسار موجة الأفكار الليبراليَّة الدَّارجة فبهت عداؤه للإمبرياليَّة.

وهكذا، انطفأ الشّعار الشَّهير عن العداء للإمبرياليّة والصّهيونيّة والرّجعيّة، فخسر اليسار العربيّ هويته، وغابت سمة أساسيَّة من سمات تمييزه عن سواه.
2. فرَّطت قوى يساريَّة عديدة بمبادئ العلمانيّة والتَّنوير، وراحت، على النَّقيض من ذلك، تجامل التَّيَّارات الدِّينيَّة المنغلقة والأفكار الظَّلاميَّة الماضويَّة؛ الأمر الَّذي أفقدها سمةً أساسيّةً من سمات هويّتها الثّوريّة.
3. تخلَّت أقسامٌ كبيرةٌ من حركة التَّحرر العربيَّة، عن توجُّهاتها الاشتراكيَّة، لتتبنّى مستوياتٍ متباينةً من أفكار الليبراليّة وبرامجها. وهذا، ترك الجماهير الشَّعبيَّة العربيّة نهبًا للدِّعاية البورجوازيّة الَّتي تماهي زوراً وبهتاناً بين الليبراليّة بطبعتها الغربيّة المتوحِّشة وبين الدِّيمقراطيّة.
4. فشل حركة التَّحرُّر العربيَّة في التَّوصل إلى صيغةٍ ديمقراطيّةٍ ملائمةٍ، لتأطير عملها السِّياسيّ، وتنظيم العلاقات بين أطرافها، وتوطيد علاقتها بالجماهير.
5. بطبيعة الحال، تلك الأخطاء والنَّواقص ليست وحدها المسؤولة عن أزمة اليسار العربيّ؛ فلا يجب أن ننسى القمع الممنهج، وتجريف الحياة السِّياسيّة في العديد من البلدان العربيّة، ولا يجب أن ننسى كذلك الدّور المباشر والعدوانيّ للإمبرياليّة العالميّة، وكذلك أموال الطّفرة النّفطيّة الَّتي غيَّرت وجه العالم العربيّ وأدَّت إلى انتشار الوهابيَّة وتمكينها من تزييف وعي أوسع قطاعات الجماهير الشَّعبيَّة.

الحاجة إلى يسار جديد
رغم كلّ شيء، لا يوجد بديل عن مشروع التَّحرُّر الوطنيّ والقوميّ، ولا عن القوى اليساريّة كحامل طبيعيّ لهذا المشروع؛ لكن اليسار التَّقليديّ ثبت عجزه، ولم يعد إصلاحُه خياراً واقعيّاً. ولذلك، فالمطلوب اليوم هو اجتراح يسارٍ جديد..

يسار ينسجم مع جدول أعمال التَّاريخ، ويقوم بدوره فيه بشجاعة ووعي..

يسار مرتبط بالجماهير، يفهم مطالبها ويتحدَّث بلغتها..

يسار يعيد إنتاج الفكر الماركسي بما يتناسب مع الواقع العربيّ بعمومه، ومع الواقع المحلِّي لكلّ بلد عربيّ على حدة..

يسار ينفتح على قوى المجتمع الحيَّة، بدلًا من الانغلاق في «الجيتو» الحزبيّ الضَّيّق الخاصّ به..

يسار يتمسَّك بالعلمانيّة والتَّنوير والدِّيمقراطيّة والاشتراكيّة، كملامح أساسيَّة لهويته، ويبتعد عن أوهام المهادنة مع الليبراليّة أو التّيّارات الدّينيّة الرّجعيّة.. فاليسار موقف طبقيّ وسياسيّ وثقافيّ، ولا يمكن له أن يتخلَّى عن أيّ بُعدٍ من هذه الأبعاد من دون أن يفقد هويَّته ودوره..

يسار يَجْتَرِحُ صيغة ديمقراطيّة ذات مضمون شعبيّ واشتراكيّ، بدلًا من الوقوع في أوهام الدّيمقراطيّة البورجوازيّة..

يسار يبني تحالفاتٍ وطنيّةً وقوميّةً شعبيّةً ديمقراطيّةً، ويتمسّك بخيار الوحدة العربيّة.. على نحو يأخذ بعين الاعتبار تباينات الواقع الَّتي تشكلَّت في البلدان العربيّة المختلفة، مع التَّأكيد بأنَّ هذه الوحدة، بناءً على ما أوضحناه وفصلناه سابقاً، لا يمكن أن تقوم وتنجح إلا بالاشتراكيّة والدّيمقراطيّة، الّتي تحقّق مصالح الطّبقات الشّعبيّة، وتمنحها حقَّها في تقرير مصيرها، وتتيح لها اختيار شكل العلاقات الّتي تربط بينها، وتشركها في بناء مستقبلها المنشود.

وعلينا أن نفهم أنَّ الشَّعبَ ليس موجودًا على شكل صورة نمطيَّة مرسومة حسب الأهواء والرّغبات، بل هو واقع حيّ مليء بالتَّناقضات؛ ومن ينتظر شعبًا نموذجيّاً، سيضيع، ويفقد صلته بالواقع. ومهمّتنا هي العمل مع الشّعب كما هو، والارتقاء بوعيه؛ لا انتظار الحصول على نسخةٍ مثاليّةٍ منه؛ وإلا، فكما قال نجيب سرور يوماً: «منين نجيب ناس؟».

البرنامج اليساريّ المطلوب
البرنامج اليساريّ السّياسيّ يُشتق من الواقع وليس من الرّغبات أو الخيال. وكما سبق أن قلنا، فإنّنا نجد مفردات البرنامج اليساريّ تتردّد بلغةٍ بسيطة في شعارات (ومطالبات) الجماهير الشّعبيّة العريضة الّتي تخرج إلى الشّارع في مختلف بلدان الأطراف؛ وخصوصًا، في العالم العربيّ؛ وبالأخصّ في الأردن.

الناس ترفض الليبراليّة المتوحّشة ورموزها وحلولها؛ ترفض إملاءات البنك الدّوليّ وصندوق النّقد الدّوليّ؛ ترفض الخصخصة، وانسحاب الدّولة من الاقتصاد، خصوصاً من القطاعات الاقتصاديّة الأساسيّة الّتي تعتمد على استخراج الموادّ الخامّ الطّبيعيّة، أو القطاعات الخِدْميَّة الّتي لها علاقة وثيقة بالحاجات الأساسيّة للنَّاس: الصّحة، والتَّعليم، وتوفير الموادّ الغذائيّة والتّأمينات الاجتماعيّة.

والبرنامج السّياسيّ، لكلّ حزبٍ سياسيٍّ أردنيّ؛ وبالأخصّ، الحزب اليساريّ، يجب أن لا يتغافل عن واقع السُّلطة الفرديّة المطلقة؛ والمطلوب، بالمقابل، برنامجٌ يهدف إلى إجراءِ تغييرٍ ديمقراطيٍّ عميقٍ.. لا أقلّ، بحيث ينتهي تزييف إرادة الشّعب؛ ليصبح الشّعب، فعلًا وليس قولًا فقط، هو مصدر السُّلطات، فتكون الحكومة المنبثقة من مجلس نيابيّ منتخب انتخاباً صحيحاً هي صاحبة الولاية العامّة في الدّولة وعلى الدّولة، ولا ينازعها في ذلك أحد.

ومن المطالب الأساسيّة، أيضًا، الَّتي يجب أنْ يتبنَّاها البرنامج اليساريّ: استعادة ثروات البلاد الوطنيّة المهدورة والأموال العامّة المنهوبة والمسروقة.

مطلوب منّا أن نتبنَّى مطالب النَّاس، وأن نتقدَّم الصّفوف في الدّفاع عنهم، والعمل من أجل تحقيق مطالبهم؛ وأن نرتقي بنضالهم إلى المستوى المطلوب لإنجاز برنامج التَّحرُّر الوطنيّ.

وقبل ذلك وبعده، مطلوب أن نحلِّل الواقع تحليلًا علميّاً صحيحًا، وأن نضع النّقاط على الحروف، ونعمل على أساس هذا الفهم السّليم.

اليسار موقف تقدّميّ سياسيّ اقتصاديّ اجتماعيّ ثقافيّ تنويريّ. وإذا أصبح الحزب اليساريّ محافظاً فقد هويّته.

على أيَّة حال، هذه الأزمة ليست قدراً لا فكاك منه، بل هي حالة مؤقّتة؛ إنَّها، بالأحرى، نوعٌ من المراوحة في الفراغ الفاصل أو الواصل بين مرحلتين؛ إنَّها مرحلة التَّحضير لـ «التَّحميل»، إذا أردنا أن نستخدم مصطلحاً إلكترونيّاً حديثاً. أما الموجة الثّوريّة الّتي سيتمّ تحميلها في النّهاية، فيصعب أن نتنبأ الآن بما ستكون عليه؛ بيد أنَّ هذا لا يعني مطلقاً أنْ نجلسَ وننتظر ما يجود به التَّاريخ. التَّاريخ هو محصّلة للممارسة الجماعيّة والفرديّة أيضاً لملايين البشر؛ فإذا كانت هذه الممارسة واعية، فإنّ حركة التّاريخ ستكون راشدة، أمّا إذا كانت تفتقر للوعي، فإنّ حركته ستكون ضربًا من التَّخبّط في الظَّلام، وستكون آثارُه خبطَ عشواء.

في الختام، تقع على عاتق اليساريين الثّوريين اليوم مسؤوليةٌ ضخمة: إعادة بناء اليسار، وتجديد حركة التَّحرُّر العربيّ، والتَّمسّك بمبادئ التَّحرُّر الوطنيّ والقوميّ، والاشتراكيّة، والدِّيمقراطيَّة الشَّعبيَّة.

هذه ليست مهمّة سهلة، لكنّها ليست مستحيلة. إنّها، ببساطة، مهمّة من يريدون أن يعيشوا بكرامة ومن يجدون أنَّ من واجبهم أن يتصدّوا لمسؤوليَّاتهم التَّاريخيَّة.



#سعود_قبيلات (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في ذِكْرَى اغْتِيَالِ صَدِيقِي وَرَفِيقِي الْغَالِي نَاهِض ح ...
- مشهد مؤلم بارتدادات أكثر إيلاماً
- وَقْفُ إطلاقِ النَّارِ على وَقْعِ دَويّ الصَّواريخ
- ابنُ لنكك.. نفسٌ مليئة بالغضب ولسانٌ سليطُ
- كلمات موجزة عن سُخرية التَّاريخ
- وْسومها على خْشومها!
- تنازلاتُ حركةِ التَّحرُّرِ العربيَّةِ الأساسيَّةِ ونتائجُها ...
- قريباً.. سيعرف الَّذين فرحوا مع مَنْ فرحوا وما الَّذي فرحوا ...
- يبذلون لغزَّة الكلام فقط.. وأمَّا فعلهم ففي سوريا..
- وقف إطلاق النَّار ووحدة السَّاحات وإسناد غزَّة
- أُمَّةٌ حيَّةٌ.. أُمَّةٌ تُقاوِمُ.. كلمة في ملتقى تونس لدعم ...
- تقرير من الأمين العامّ للحزب الشُّيوعيّ الأردنيّ إلى اللجنة ...
- برنامج الحزب الشُّيوعيّ الأُردنيّ الجديد والقضيَّة الفلسطيني ...
- حوار عن توجُّهات الحزب الشُّيوعيّ الأردنيّ بعد مؤتمره الثَّا ...
- المؤتمرُ الثَّامنُ (التَّوحيديُّ) للحزبِ الشُّيوعيِّ الأردني ...
- في «مليح» عرفتُ الماركسيَّة وفي «مادبا» عرفتُ الشُّيوعين الأ ...
- تحليلٌ مغلوطٌ بقالبٍ طَبقيٍّ زائف!
- السبول وماياكوفسكي ورامبو وهيمنجواي.. ولعنةُ فائضِ العُمْرِ. ...
- ناهض حتَّر.. الاغتيال السِّياسيّ تحت ستار تكفيريّ
- الفوز في معركة خاسرة


المزيد.....




- نا ب? پ?رل?ماني ب?ه?ژارکردني ج?ماو?ر و ک?يل?کردني ژنان و س?ر ...
- فقدان الرفيق سيون أسيدون خسارة كبيرة للحركة الديمقراطية والت ...
- تركيا تدرس السماح بعودة مقاتلي حزب العمال الكردستاني من العر ...
- شعب المغرب يفقد أحد أكبر مناضليه: وفاة سيون أسيدون
- Verdict From the People: Why the Gaza Tribunal Is About Acco ...
- Nervous Breakdown Or Getting Better: To Win Is Essential
- Muridke To Gaza: How Pakistan’s Regime Sheds Blood To Prove ...
- Solidarity With the People Of Sudan, Tanzania and Cameroon
- تمديد عمل لجان الاجرة يؤكد سلق قانون طرد المستأجرين
- تركيا تدرس السماح بعودة مقاتلي حزب العمال الكردستاني من العر ...


المزيد.....

- كراسات شيوعية(نظرية -النفايات المنظمة- نيقولاي إيڤانو& ... / عبدالرؤوف بطيخ
- قضية الصحراء الغربية بين تقرير المصير والحكم الذاتي / امال الحسين
- كراسات شيوعية(الفرد والنظرة الماركسية للتاريخ) بقلم آدم بوث2 ... / عبدالرؤوف بطيخ
- كراسات شيوعية (العالم إنقلب رأسًا على عقب – النظام في أزمة)ق ... / عبدالرؤوف بطيخ
- الرؤية الرأسمالية للذكاء الاصطناعي: الربح، السلطة، والسيطرة / رزكار عقراوي
- كتاب الإقتصاد السياسي الماويّ / شادي الشماوي
- كراسات شيوعية(النمو السلبي: مبدأ يزعم أنه يحرك المجتمع إلى ا ... / عبدالرؤوف بطيخ
- كراسات شيوعية (من مايوت إلى كاليدونيا الجديدة، الإمبريالية ا ... / عبدالرؤوف بطيخ
- كراسات شيوعية (المغرب العربي: الشعوب هى من تواجه الإمبريالية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- علم الاعصاب الكمي: الماركسية (المبتذلة) والحرية! / طلال الربيعي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - سعود قبيلات - أزمة اليسار وحركة التَّحرُّر العربيّ.. إلى أين؟ وما الحلّ؟