حخيرالله قاسم المالكي
الحوار المتمدن-العدد: 8519 - 2025 / 11 / 7 - 01:21
المحور:
الادب والفن
الفصل الأول: صدى المعركة ومرارة الخسارة
في معركة “تحرير الأرض المحتلة الكبرى”، التي انتهت كما تبدأ كل المعارك في هذا الشرق العتيق: بدخان كثيف يختنق بهجة النصر، وبرائحة الملح والحديد والدم التي تعبق في أزقة البصرة القديمة، لم يكن صادق الحافي مجرد خاسر، بل كان الخاسر الأكبر. لم تكن هذه المعركة، في جوهرها، صراعًا على مغانم مادية، أو فرض قوة عسكرية، أو بسط سلطة سياسية. كان الصراع كله يدور حول “الولاية”، ذلك المرض المستشري الذي نخر في جسد الوطن المحتل والممزق، وحوّله إلى رقعة شطرنج تتقاذفها الأهواء، مثلما تتقاذف أمواج شط العرب جثث الغرقى في ليالي الشتاء العاصفة.
الولاية، بالنسبة لصادق، لم تكن مجرد منصب أو لقب، بل كانت تجسيدًا حيًا لامرأة، لكيان أثيري يمتلكه ويسلبه في آن واحد. كانت “هي” التي تظهر بهيبتها فجأة، كظهور نجم سهيل فجأة في سماء البصرة الحالكة، لتسحب منه كل ما بناه، وتختفي لتتركه في حالة من الانطفاء الروحي، أشبه بسكون القيعان المهجورة في أهوارها بعد رحيل طيورها. كانت عيناه تبرقان بلمعة جنونية كلما ذكر اسمها، ويدخل في حالة أشبه بالتجلي الصوفي، لا لشيء إلا لأن حبه لها لم يكن حبًا طبيعيًا، كحب إبراهيم لسارة – حب فطري، هادئ، ومبرر. حب صادق كان عبارة عن تراكمات من الهوس واللذة والاعتراف غير المبرر بالهزيمة المسبقة، كمن يحفر قبره بيديه وهو يظن أنه يبني قصراً.
كان صادق، وهو يعبر عن افتتانه وتعلقه بها منذ فجر وعيه، يخاطب ذاته بمرارة، وهو واقف على شاطئ شط العرب، حيث تلتقي مياه العذبة بالمالحة في عناق أزلي مميت: “كنتِ فاتنة، وجسمك زهر قبل أوانه، يا ولايتي المستحيلة”. كانت هذه الجملة، التي يكررها في سرّه، تلخيصًا لهوسه. هوس يتجاوز الجسد إلى الروح، إلى فكرة الاستحواذ على ما لا يمكن امتلاكه، مثل امتلاك النهر لليابسة، أو امتلاك الشمس للظل.
الفصل الثاني: الولاية كسرطان ينهش الجسد
كانت الولاية، أو “هي”، شامخة الطول، ترسم المستحيل الحالم في أفق صادق. كان هوسه بشخصيتها، وبفكرة استعصائها عليه، هو الوقود الذي يحرق روحه. كانت المسافة بينهما شاسعة، لا تقاس بالأميال، بل بالطبقات الوجودية. هو، الرجل الذي بدأ يدخل مرحلة ما قبل الشيخوخة، بكل ما تحمله من ضعف ووهن، وهي، الفكرة الأزلية، الشابة دائمًا، المتجددة أبدًا، كالنخيل الذي يظل شامخاً وهو يحمل على جذعه ندوب السنين.
كل هذا الهوس تحول إلى سرطان ينهش في جسد رجل طاعن. لم يكن صادق قادرًا على مقاومته، ولا قادرًا على علاجه. كان انكساره أمامها يصل إلى مرحلة الإذلال، وهو ما يتناقض تمامًا مع طبيعته الفظة والدموية التي عرفها بها الجميع في أزقة المشراق وفي مقاهي الجزيرة. كان يحاول أن يلبس هذا الإذلال ثوب الحكمة، ثوب التضحية من أجل المبدأ، لكن الحقيقة كانت أعمق وأكثر مرارة، كطعم ماء الشط في آخره.
كان صادق يضرب من حوله ضربات مؤلمة وقاسية، لا يشفع لها حتى الموت. كان يقتل، أو يكاد يقتل، لمجرد مخالفة أمر بسيط. كان يمارس سلطته المطلقة على الجميع، إلا عليها. في المقابل، كانت “أوهامه” – التي هي تجسيد للولاية في عقله – تفعل كل ما تريده دون أن يصدر منه أدنى اعتراض. كانت تغيب فجأة، فينطفئ صادق الحافي، ويصبح مجرد ظل لرجل يتسكع في سوق الحناطين المهجور، حيث تروي حيطان المتاجر المغلقة حكايات تجار اللؤلؤ الذين رحلوا. وعندما تعود، يكون رجوعها أشبه بعودة الروح لجسد ميت، فينهض من سباته كالمارد الجبار.
الفصل الثالث: إبراهيم وسارة.. الحب الهادئ في مواجهة الهوس
في زاوية أخرى من هذا الصراع، عند منعطف نهر العشار حيث تتزين البيوت القديمة بمشربياتها التي تشبه عيون النساء الخائفات، كان هناك إبراهيم وسارة. كانا يمثلان النقيض التام لصادق والولاية. حبهما كان هادئًا، طبيعيًا، ومبررًا. إبراهيم، الشاب الذي يمثل الجيل الجديد، جيل التحرير الحقيقي، الذي تربى على حكايات جده عن رحالة البصرة العظام مثل الجاحظ الذي سخّر قلمه للحياة، والفراهيدي الذي وضع موازين الشعر، لم يكن يرى في الولاية سوى واجب وطني، مسؤولية ثقيلة يجب حملها، لا معشوقة يجب امتلاكها. وسارة، كانت تمثل الأرض الحقيقية، الدفء، والسكينة، كانت كشجرة الرمان في بستان العائلة، تمنح الثمر الحلو دون أن تطلب شيئاً.
كان صادق يدرك هذا التناقض. كان يعلم أن الولاية، أو “هي”، تقف في جانب آخر بعيد عنه، لا تحبه، ولا يمكن أن تحبه أبدًا. لكنه كان يتعلق بها على أمل أن يكسب جسدها على الأقل، أن يخرج بأي انتصار من معركته عليها. لم يكن فارقًا لديه في المطلق أن تحبه هي، أو حتى أن تحب سارة. كان كل ما يهمه هو أن يثبت لنفسه أنه قادر على امتلاكها، على إخضاعها لسلطته، كما أخضع كل من حوله.
كانت سطوة هوسها عليه قد جعلته لا يستطيع التفكير بغير مرض حبه لها. هذا الهوس كان بمثابة حجاب كثيف يحجب عنه رؤية الواقع، رؤية الخطر القادم من إبراهيم، ومن كل من يمثلون فكرة التحرير الحقيقي. كان يرى في إبراهيم مجرد عقبة مادية، لا منافسًا وجوديًا. كان إبراهيم ذلك الشاب الذي يتنفس برئتين مليئتين بهواء البصرة النقي، بينما كان صادق يختنق بدخان أوهامه.
الفصل الرابع: ليلة الانكسار.. مشهد النهاية
في مشهد النهاية، عند شاطئ الفاو، حيث تلتقي مياه الخليج المالحة بصمت الصحراء، لم يختلف لدى صادق إن كان إبراهيم سيعيش أو يموت. عينه كانت عليها هي فقط، على الولاية. كان إبراهيم مجرد وسيلة، أو ضحية جانبية في معركته الكبرى. كانت الولاية تقف شامخة، كعادتها، في مواجهة صادق الذي وصل إلى ذروة انكساره، كسفينة غارقة ترفض الغرق تماماً.
في تلك اللحظة، عندما رفع صادق سلاحه ليطلق النار عليها، لم يكن يطلق النار على امرأة، بل كان يطلق النار على سرطانه الخاص. كانت نظرة الغل التي خرجت من عينيه، وهو يضغط على الزناد، تحمل معها كل انكساراته، كل ذله، وكل انسحاق ذاته أمامها. كانت لحظة تفريغ وجودي، لحظة اعتراف بالهزيمة المطلقة، كاعتراف النهر بأنه لن يصل إلى البحر أبداً.
تبع هذه اللحظة ثوانٍ من الصمت المطبق، لا يكسرها إلا صوت أمواج الخليج التي تلامس الشاطئ بصبر أزلي، ثم انهمرت دموعه. لم تكن دموع ندم على ما فعل، بل كانت دموع هزيمة. هزيمة صادق الحافي الكبرى أمام الوهم الذي فاز بكل شيء: فاز بقلبها، وفاز بجسدها، وفاز بمشهد موت ملحمي في أحضان هزيمته.
الفصل الخامس: تشريح الهزيمة.. الولاية كفكرة أزلية
كانت الولاية، في حقيقتها، فكرة أزلية، لا يمكن امتلاكها. كانت تجسيدًا للوطن الذي لا يمكن تحريره إلا بالتضحية المطلقة، التضحية بالذات وبالأوهام. صادق الحافي، بكل جبروته ودمويته، كان مجرد أداة في يد هذه الفكرة. كان يظن أنه يسيطر، بينما كان مسيطرًا عليه، كتلك الدمى التي كانت تُعرض في مسرح قشلة البصرة القديم، تتحرك بخيوط لا تراها.
كانت الولاية تدرك أن صادق لن يتركها إلا ميتة، ولن يمتلكها إلا وهي فكرة مجردة. لذلك، كانت تقف في وجهه، تستفزه، وتذله، حتى يصل إلى نقطة الانفجار. كانت تعرف أن موتها على يديه هو التحرير الحقيقي لها، وللأرض التي تمثلها، فالفكرة لا تموت بموت جسد، بل تتحرر منه.
إبراهيم، الذي نجا بأعجوبة، لم يكن يدرك عمق هذا الصراع. كان يرى في صادق مجرد طاغية يجب إزاحته. لكنه لم يكن يعلم أن صادق كان يقاتل شبحًا، يقاتل نفسه في جسد الولاية، في معركة كان مصيرها محتوماً قبل أن تبدأ.
الفصل السادس: ما بعد الطلقة.. وراثة الوهم
بعد الطلقة، سقطت الولاية، وسقط معها صادق. لم يكن سقوطه جسديًا، بل روحيًا. كان جسده لا يزال واقفًا، لكن روحه كانت قد فارقت الحياة. لقد ماتت الولاية، ومات معها هوسه. وقف شبحاً في أرض مصيره، بينما كان جثمان "هي" يرقد على رمال الفاو، كأنها إحدى حوريات البحر في الأساطير التي كان يرويها صيادو المنطقة.
إبراهيم، الذي ورث الولاية بعد موت صادق، وجد نفسه أمام تحدٍ جديد. لم يعد الصراع صراعًا على التحرير، بل صراعًا على فهم الولاية. هل هي منصب؟ أم مسؤولية؟ أم شبح يطارد كل من يحاول امتلاكه؟ كان يسير في شوارع البصرة ليلاً، فتخيلها تراقبه من كل مشربية، من كل زقاق مظلم، من تحت جسور المدينة العتيقة.
بدأ إبراهيم يرى في سارة، حبه الهادئ، انعكاسًا للولاية. بدأ يشعر بالهوس ذاته الذي شعر به صادق. كانت الولاية قد انتقلت من جسد إلى جسد، ومن روح إلى روح. كانت لعنة أزلية، لا يمكن التخلص منها، كالملاريا التي كانت تنتشر في أهوار الجنوب.
الفصل السابع: الولاية.. اللعنة الأزلية
كانت الولاية هي الوطن، والوطن هو الولاية. لا يمكن امتلاك الوطن، بل يمكن خدمته. صادق حاول امتلاكها، فمات. إبراهيم يحاول خدمتها، لكنه يخشى أن ينتهي به المطاف إلى محاولة امتلاكها. كان يحاول أن يجد عزاءً في تاريخ البصرة، فيقف عند تمثال الشاعر بدر شاكر السياب في الجعيفر، محاولاً فهم كيف يمكن للكلمات أن تروض المستحيل، بينما فشلت القوة في ذلك.
في النهاية، كانت الهزيمة الكبرى هي هزيمة كل من يظن أنه قادر على امتلاك فكرة، أو السيطرة على روح. كانت الولاية هي الفائزة، لأنها أثبتت أنها لا تُمتلك، بل تُعاش، كالهواء، وكالماء، وكذاكرة المدينة التي ترفض النسيان.
الفصل الثامن: الهزيمة في عيون سارة
سارة، التي كانت تقف على الهامش، عند أطراف البستان حيث تزرع نساء العائلة النعناع والياسمين، كانت الشاهد الوحيد على هذه المأساة. كانت ترى في صادق رجلًا مريضًا، قتله هوسه كما قتلت الأملة (الملاريا) أهلها في الماضي، وفي إبراهيم رجلًا مهددًا بنفس الداء. كانت تعرف أن الولاية هي لعنة، وأن الحب الحقيقي هو الملاذ الوحيد، كالبيت البصري القديم الذي تحميه جدرانه السميكة من حر الصيف وبرد الشتاء.
في عينيها، كانت الهزيمة الكبرى هي هزيمة الحب أمام الهوس، هزيمة الحياة أمام الموت. كانت تعرف أن الولاية ستظل شبحًا يطارد كل من يحاول امتلاكها، وأن الحب الهادئ، كحبها لإبراهيم، هو الانتصار الوحيد الذي يستحق العناء. كانت تتذكر مقولة للجاحظ سمعتها من جدها: "المرء بأصغريه: قلبه ولسانه". صادق استمع لقلبه المريض فقط، ونسي لسانه الذي كان بوسعه أن ينطق بالحب لا بالأوامر.
الفصل التاسع: الولاية.. بين الماضي والحاضر
كانت الولاية في الماضي تجسيدًا للسيطرة، كما في أيام ولاة البصرة الأوائل في العصر العباسي، الذين كانوا يبنون القصور ويشيدون القنوات، وفي الحاضر تجسيدًا للمسؤولية. لكنها في كلتا الحالتين، كانت فكرة أزلية، لا يمكن امتلاكها. كانت الولاية هي الوطن، والوطن هو الولاية، يتنفس من خلال نخيلها، ويجري في أنهارها، ويحلم في لياليها المقمرة.
إبراهيم، وهو يجلس في مقهى "أبو نؤاس" البصري على شاطئ شط العرب، ينظر إلى المراكب التى تعبر، تذكرها بمراكب السفر البخورية التي كانت تنقل الناس من البصرة إلى الكويت وإلى الهند، فكر في كل من حاول امتلاك هذه المدينة: السومريون، الفرس، العرب، العثمانيون، البريطانيون. كلهم رحلوا، وبقيت البصرة، كالنخلة، تمنح ظلاً وتمراً لمن يأتيها بالخير، وتنفض عن نفسها من يأتيها بالشر.
في النهاية، كانت الهزيمة الكبرى هي هزيمة صادق الحافي أمام نفسه، أمام هوسه، وأمام الولاية التي لم يمتلكها أبدًا. كانت الولاية هي الفائزة، لأنها أثبتت أنها لا تُمتلك، بل تُعاش.
الفصل العاشر: الخاتمة.. الولاية كفكرة أزلية
في النهاية، كانت الولاية هي الفكرة الأزلية التي لا يمكن امتلاكها. كانت تجسيدًا للوطن الذي لا يمكن تحريره إلا بالتضحية المطلقة، التضحية بالذات وبالأوهام. صادق حاول امتلاكها، فمات. إبراهيم يحاول خدمتها، وهو يخشى كل يوم أن ينتهي به المطاف إلى محاولة امتلاكها، فيصبح صادقاً آخر في سلسلة لا تنتهي.
كانت الهزيمة الكبرى هي هزيمة كل من يظن أنه قادر على امتلاك فكرة، أو السيطرة على روح. كانت الولاية هي الفائزة، لأنها أثبتت أنها لا تُمتلك، بل تُعاش. وتعيش البصرة، بشط العرب وأهوارها ونخيلها وأبنائها من الجاحظ والسياب إلى إبراهيم وسارة، تروي لكل قادم حكاية الهزيمة والانتصار، حكاية الولاية المستحيلة.
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟