مرياني عبد المجيد
الحوار المتمدن-العدد: 8509 - 2025 / 10 / 28 - 16:42
المحور:
الادب والفن
الكاتب المغربيّ مرياني عبد المجيد:
كتبت الأديبة صباح بشير:
لست أدّعي رتبة الشّاعرة، ولكن.. لي مع القريض محاولات خفيّة وجدانيّة تبقى أسيرة مدوّناتي الخاصّة، لا تغادر سِربَها إلى النّشر، لذلك.. أبقي على هذه المحاولات الشّعريّة طيَّ الكتمان؛ إذ أجد روحي تستفيض في النّثر ببيانٍ أبهى، وعمق أرسخ، وما هذا التّقدير لنتاجي النّثريّ إلّا إيمان راسخ بما يخطّه يراعي، لا غرورا، بل ثقة فيما أودعه من معانٍ.
ومع اعترافي بأنّني لست شاعرة، فإنّني أهديكم هذه النّفحة من القوافي، الّتي لم تُكتَب إلّا بعد أن تجسّدت في روحي صدقا باذخا، وامتلاءً وجدانيّا خالصا، وإحساسا متأصّلا وشعورا مفعما.
هي نفحة لامست جوهر روحي، فاستحالت قرارا بالنّشر، وبكلّ رجاء، آمل أن تجد في قلوبكم مقاما لائقا، وأن تلامس ذائقتكم الرّفيعة.
"وداعٌ على رمالِ تشرين"
حُروفي ما تهنَّتْ من وصالٍ
وسهدي في الدُّجى خلٌّ سميرُ
أَقَمنَا اللَّيلَ وَالْأَفكَارُ تَقضِي
وَمَا وَافَى ضِيَا شَمسٍ بَشِيرُ
ولم يبرح خيالي عصف بُعْدٍ
وَفِي عَيْنَيَّ دَمعٌ يستجيرُ
وَلَم يلطِف بِقَولٍ مَن هَوَيْنا
عَلَى شَطٍّ شَجَا عِشْقٌ مَرِيرُ
وَظِلُّ الموجِ أرهقنا وداعًا
لِأَحْرُفِنَا، وَتِشْرِينٌ قَدِيرُ
بِصَدرِ الصَّبِّ ألْحانٌ تُرَوَّى
وفي نَبْضِ الهوى جمرٌ خَطِيرُ
لَقَدْ مَسَّت عُروقَ الرُّوح ذكْرى
لدى هبَّاتها قَلبِي أَسِيرُ
أنا كَلِمٌ أَجوبُ تُخومَ روحٍ
يُرَدِّدُ نبرَهُ سِرٌّ كَسِيرُ
يقيني وَحْدتي قدرٌ مُطاعٌ
وَإِنَّ الانسِحَابَ هُوَ المَصِيرُ.
كتب مرياني عبد المجيد:
مدخل عام لقراءة النصّ:
النص الذي بين أيدينا يُمثِّل تجربة وجدانية متأملة، تتقاطع فيها الذات الأنثوية مع فضاء الحنين والوداع، في تفاعل بين الشعر والنثر، وبين الوعي بالكتابة والوعي بالذات. تقول الكاتبة في مقدمتها إنها لا تدّعي الشعر، لكنها تكتب بدافع وجدانيّ صادق، وهذا الوعي المسبق بالكتابة يجعل النص منفتحًا على النقد الحديث من مداخل متعددة (التفكيكية، البنيوية، الأسلوبية، النسوية، الجمالية..)
من الناحية البنيويية، يُلاحظ في القصيدة:
البنية الإيقاعية: التزام الوزن والقافية يوحي بانضباط موسيقي يوازن بين الوجدان والانفعال. القافية الموحدة (ـيرُ) تمنح النص نغمة حزينة متكرّرة تتماشى مع موضوع الوداع والانكسار.
الإيقاع الداخلي (تكرار الأصوات الرخوة: س، ش، ر) يعمّق الإحساس بالحنين والانسياب.
المعجم الشعري: يتكوّن المعجم من حقول دلالية متجانسة: (الليل، البعد، الدمع، الشط، الموج، الوداع، تشرين)، وهي ألفاظ تلتقي جميعها في دائرة الحزن والانفصال والزمن الخريفي، أي زمن الأفول.
البنية الدلالية: القصيدة تنبني على ثنائية مركزية: الوصل/الانفصال، الحضور/الغياب، الأمل/القدر.
فـ"وداع تشرين" ليس مجرد وداع شخصي، بل هو رمز لمرحلة زمنية من الذبول الداخلي، تمامًا كما يرمز تشرين إلى الخريف وانتهاء دورة الحياة
من ناحية الأسلوب:
الضمير الغالب: ضمير المتكلم (أنا) يهيمن على النص: أنا كَلِمٌ أجوب تُخومَ روحٍ، مما يعزز طابع الاعتراف والانكشاف الوجداني.
التشخيص (التجسيد): تحويل المعاني المجردة إلى كائنات حية: الليل يقضي، الدمع يستجير، الذكرى تمسّ عروق الروح؛ وهي أساليب تُشيع الحركة في النص وتكسر جمود الصورة.
التركيب: الجمل متوازنة، يغلب عليها الطابع التقريري الشاعري، أي أن الكاتبة تمزج بين وضوح النثر وإيقاع الشعر، وهذا يعبّر عن المرحلة الانتقالية بين النثرية والشعرية التي أشارت إليها في مقدمتها.
من منظور التحليل النفسي، القصيدة تعكس صراعًا داخليًا بين الرغبة في التواصل والخوف من الانكشاف.
الدموع والليل والوداع رموز لانطواء الذات: تكرار ألفاظ "الوحدة، الانسحاب، المصير" يوحي بحالة من القبول الحزين للقدر العاطفي، وكأن الذات وجدت راحة في التسليم للألم.
قراءة نسوية: الخطاب الشعري هنا أنثويّ بامتياز، ليس من جهة الجنس البيولوجي للكاتبة، بل من جهة حساسية التعبير وعمق الشعور.
تتبدّى الذات الأنثوية الواعية بذاتها حين تقول في المقدمة:
"أجد روحي تستفيض في النثر ببيانٍ أبهى، وعمق أرسخ."
فهي لا تستسلم لمعيار الذكورة الشعري التقليدي الذي يحصر الإبداع في القريض، بل تعلن استقلالها الأدبي واختيارها للنثر كفضاء حرّ.
في القصيدة، تتجلّى الأنوثة الواعية بالوجع، لا بوصفها ضعفًا، بل طاقة تعبيرية سامية: "بِصَدرِ الصَّبِّ ألحانٌ تُرَوَّى / وفي نَبض الهوى جمرٌ خطير."
قراءة التفكيكية:
من منظور التفكيك، يمكن ملاحظة أن النص ينقض نفسه من داخله:
الكاتبة تقول إنها ليست شاعرة، لكنها تكتب شعرًا ناضجًا في إيقاعه وصوره، مما يخلق تناقضًا مقصودًا يكشف وعيًا بالكتابة بوصفها "تجربة لا تُعرّف".
مفردة الوداع لا تعني النهاية المطلقة، بل تولد في داخلها إمكانات العودة، إذ "تشرين" الخريفي هو ذاته الذي يسبق "كانون" الشتاء، أي لحظة التجدد.
التقييم الجمالي : تتجلى في النص لغة راقية وصور طافحة بالوجدان، مع حضور واضح للصدق العاطفي الذي يغلب على أي تكلّف لفظي.
الكاتبة تملك حسًّا لغويًا راقيًا وإدراكًا فنيًا لجوهر الشعر حتى وهي تزعم العكس.
قصيدتها تجمع بين الشفافية الوجدانية والدقة الموسيقية، وتُترجم إحساسًا خريفيًا شاملاً يجعل الوداع رمزا لحياةٍ تتكرر فيها الدورات بين اللقاء والانفصال.
خلاصة نقدية: قصيدة "وداع على رمال تشرين"، هي نصّ حداثيّ في روحه، وإن اتّخذ الشكل الكلاسيكي في الوزن والقافية؛ فهو يجسّد تجربة أنثوية متأملة، متصالحة مع الألم، واعية بالذات والكتابة.
إنه نصّ يكتب الشعر من موقع الوعي لا الادّعاء، ويُبرز كيف يمكن للحسّ النثري أن يتجلّى في بنية شعرية متينة، في تزاوج جميل بين الصدق والعذوبة.
شكرا للأديبة صباح بشير على كلّ هذا الجمال.
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟