سمير عزو
الحوار المتمدن-العدد: 8506 - 2025 / 10 / 25 - 01:01
المحور:
قضايا ثقافية
تراوحَث آراء المسلمين بخُصوص ثُراتِهم الدّيني؛ بيْن التّقْديس المُطْلَق و التّحْقيق العِلْمي، و لِذلك ٱختلَفت مَرْوِيّاتُ طوائِفهم؛ حتّى في شأْن شخْصِ النّبيِّ محمّد ذاته، فَمِن قائلٍ أنّه كان "أُمِيّاً" بالمعْنى الإجتماعي؛ أي لا يقْرأ و لا يكْتب؛ و أنّ عِصْمتَه محْصورةٌ في تبْليغِِه للدّين، في حين يعْتبره آخرون "أُمّيّاً نِسْبةً لِمكّة أمِّ القرى؛ و أنّه بلّغ الرّسالة كاملةً؛ و عِصْمتُه مُطْلقة.
لكنّ اللّافِت للنّظر مُؤَخّرا؛ هو ذلك الإِنْتِقال الذي عرَفه المسلمون؛ مِن العَتَب على الصُّحف الغربيّة؛ التي تتناوَل شخْص النّبي محمّد؛ إلى مُناقشة و تحْقيق مَرْويات التّراث الإسلامي.
في ظلّ هذه الأجْواء؛ خرج في الآونة الأخيرة؛ الشّيخ محمّد الحسن الدّدو الشّنقيطي؛ خرْجةً إعْلاميّة أثارت لغَطاً كبيرا؛ بين مَن يَلْتمِس له العُذْر؛ و مَن يرْفض طرْحَه؛ الرّامي إلى أنّ الأمّة المُحمّديّة "نُكِبت ستّ نكَبات؛ حرَفَتْها عن مدارِهآ؛ لنّكْبة الأولى كانت : وفاةُ الرّسول صلّى اللّه عليه و سلّم؛ في أوْج قُوَّته و نشاطِه؛ فلَم يكْتُب لنا دُسْتوراً؛ و لم يُبيّن لنا طريقةَ ٱخْتيار الحاكِم؛ و لم يُعيّن لنا حاكِماً؛ فكانت أزْمةً إرْتدَّ بها جُمْهور الإسلام...".
هذا ما يدْعونا للتّساؤُل : ألَم يكْتمِل الدّين قبْل ٱرْتقاء النّبي؛ حتّى تكون الشُّورى بديلاً لِفراغٍ "دستوري" ؟ و هل أصْلا تُعتبر خِلافة النّبيِّ من صميمِ الدّين ؟
هل بإِمْكانِنا ٱعْتبار عدَم التّحديد؛ مُرادِفاً للفَراغ؛ أمْ هناك حِكْمة من وراء ذلك ؟
لقد كانت الوفاة حتْميّةً؛ إذِ ٱرْتقى خيرُ البريّة صلّى الله عليه و آله و سلّم؛ في ربيع الأوّل؛ مِن السّنة الحادية عشرة للهجرة؛ إسْتجابة للموْلى عزّ و جلّ القائل في كتابه : "إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ؛ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ" سورة الزّمر 31، فكانتِ "النّكْبة" كما قال الشّيخ الدّدو؛ و كانت "الرّزيّة" بٍتعْبير حِبْر الأمّة ٱبن عبّاس مِن قبْلِه (1).
بذلك غادَر النّبيٌّ، بعدما علّمَ قومَه كلَّ شيء؛ "دون تحْديد كيفيّة ٱختيار خليفته مِن بعْدِه" على حدّ قوْل الشّيخ الدّدو، غيرَ أنّ الطّرف الآخر مِن المسْلمين؛ يحْشُد أحاديث مَرْوِيّة في أُمّهات الكتب السُّنّية؛ تدْعَم طرْحَهُم بتعْيين رسولِ الله صلّى الله عليه و آِه و سلّم؛ لٱبن عمِّه الإمام عليّ ٱبن أبي طالب، مِن قبيل حديث غَدِير خُم؛ المشْهور لدى كِلْتا جناحَيْ الإسلام؛ سُنّةً و شيعة، و فيه قال رسول الله صلّى الله عليه و آلِه و سلّم : "مَن كُنتُ موْلاه فهذا عليٌّ موْلاه، اللّهمّ والِ مَن والاه، و عادِ مَن عاداه، و ٱنْصُر مَن نصَره، و ٱخْذُل مَن خذَله، و أَدِرْ الحقَّ معَه حيثُما دَار، اللّهمّ هلْ بلَّغْتُ"(2).
احديث الذي يُفسِّر مضمونََه؛ عُلماء المدْرسة السُّنّية؛ على أنّه جاء في سِياق دعْوة النّبيِّ؛ صحابتَه لِتَوْقيرِ عليٍّ و محبّتِه. ثمّ يمْضي الشّيخ الدّدو؛ لِلقوْل "برِدّة جُمْهور الإسْلام"؛ بعْد وفاةِ رسول الله صلّى الله عليه و آلِه و سلّم؛ مُعَدِّداً في ذلك؛ "سَجاح؛ العَنْزي و مالك بن نُوَيْرة.."؛ دونَ الإِشارة إلى بعضٍ مِن الصَّحابة؛ الذين جاءَ فِيهم صرِيحُ القرآن الكريم : "وَ مَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ؛ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ٱنقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ؛ وَ مَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا؛ وَ سَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ" سورة آل عمران 144، ما ُيُعزِّزُه حديثُ الحَوْض؛ الذي رواه البخاري؛ عن أنس بن مالك عن النّبي صلى الله عليه و آلِه و سلّم؛ قال : "لَيَرِدنّ علَيَّ ناسٌ مِن أصْحابِي الحَوْضَ، حتَّى إذا عَرفْتُهُمُ ٱخْتُلِجُوا دُونِي؛ فأقُول : أُصَيْحابِي، فيَقُول : لا تَدْري ما أَحْدَثُوا بَعْدَك"(3).
لا شَكّ أنّ مسْألة الحُكم أو "الخِلافة" عند المسلمين؛ بقِيت تعْكِس خِلافاً شديداً مُنذ تكوُّن بيْضة الإسلام؛ حيث بقِيَ بابُ الإجتهاد مفْتوحاً؛ أمّا بخصوص ثُنائية الدِّين و الشّريعة، فقد قال الشّيخ مصطفى عبد الرّزّاق : "أمّا الدّين فقد إسْتوْفاه الله كُلُّه في كِتابه الكريم؛ و لَم يَكِل النّاس إلى عُقولِهم في شيءٍ مِنْه، و أمّا الشّريعَة فقَد ٱسْتوْفى أُصُولَها و ترَكَ لِلإِجْتهاد تفَاصِيلَها".
إِجْتهادٌ أوْصَلَ المُسلمين في البَدْء إلى آلِيَة الشُّورى؛ عَمَلا بقوْلِه تعالى : "وَ الَّذِينَ ٱسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَ أَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ" سورة الشورى 38؛ شورى لربّما لم تكْتمِل بِغِياب عليٌّ؛ و هو يُجَهِّز جنازة النّبِيِّ إلى مَثْواه الأخير.
د. سمير عزو
هامش
(1) روى البخاري و مسلم و غيرهما من حديث ٱبن عباس قال : "لمّا حُضِر رسول الله صلّى الله عليه و آله وسلّم؛ و في البيت رجال فقال النبي صلى الله عليه و آله و سلّم : هلُمُّوا أكْتب لكم كتاباً لا تضِلُّوا بعده، فقال بعضهم : إنّ رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم (قد غلَبه الوجَع، و عِنْدكم القرآن، حسْبُنا كتاب الله)، فٱختلف أهل البيت و ٱخْتصموا، فمِنهم من يقول : قرِّبوا يكتب لكم كتاباً لا تضلُّوا بعده، و منهم من يقول غير ذلك، فلمّا ٱختلفوا، قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم : قوموا عنّي. قال عبيد الله : فكان ٱبن عبّاس يقول : إنّ الرّزيّة كلُُّ الرّزيّة ما حال بين رسولِ الله صلى الله عليه و آله و سلّم؛ و بين أن يكْ
تب لهم ذلك الكتاب لٱخْتلافهم و لَغَطِهم.
(2) يقول ٱبن تيمية : "و ثبت في صحيح مسلم عن زيد بن أرقم أنّه قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم بغدير يدعى "خم" بين مكّة و المدينة" إبن تيمية : حقوق آل البيت؛ ص 13.
و يقول ٱبن حجر : "إنّ حديث الغدير صحيح لا مِرْية فيه و لا ٱلْتِفات لِمن قدَح في صِحّته و لا لمن ردّه، و قد أخْرجه جماعة؛ كالتِّرمذي و النّسائي و أحمد و طُرُقه كثيرة جدا، و من ثم رواه ستّة عشر صحابيا؛ و شهِدوا به لعليٍّ لمّا نُوزِع أيّام خلافته؛ و كثير من أسانيدِها صِحاح و حِسان" إبن حجَر الهيْثمي : الصواعق المُحْرقة؛ ص 42 و 44.
يقول ٱبن كثير في تفسيره : "و قد ثبت في الصّحيح أنّ رسول الله صلى الله عليه و آله وسلّم قال في خُطبته بِغدير "خُم" إبن كثير : تفسير القرآن العظيم؛ ج 4؛ ص 113.
يقول ٱبن حزم الأندلسي في فصله : "و أمّا مَن كُنتُ موْلاه فعليٌّ موْلاه، فلا يصِحّ عن طريق الثِّقات أصلاً؛ و أمّا سائِر الأحاديث التي تتعلّق بها الرّافِضة؛ فموْضوعة يَعْرف ذلك مَن له أدْنى عِلم بالأَخْبار و نقْلتها" إبن حزم : الفصل؛ ج 4؛ ص 148.
(3) عن أبي حازم عن سهْل بن سعْد قال : قال النّبي صلّى الله عليه و آله و سلّّم : "إنِّّي فرْطُكم على الحوْض، مَن مرَّ عليَّ شرِب، و من شرِب لم يظْمأ أبداً، لَيَرِدَنّ عليَّ أقوامٌ أعْرِفُهم و يعْرِفونَني، ثمّ يُحال بيْني و بينَهم. قال أبو حازم : فسمعني النُّعمان بن أبي عيّاش فقال : هكذا سمعتَ مِن سهْل ؟ فقلتُ : نعم. فقال : أشهَدُ على أبي سعيد الخُدري لسمعتُهُ و هو يزيد فيها : فأقول: إنّهم منّي. فيُقال : إنّك لا تدْري ما أحْدثوا بعْدك. فأقول : سُحْقاً سحقاً لمن غيّر بعدي".
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟