شذى الجباعي
الحوار المتمدن-العدد: 8504 - 2025 / 10 / 23 - 15:00
المحور:
الادب والفن
منذ نشأة النقد والبلاغة في التراث العربي، احتلت الصورة البيانية مكانة مركزية في تحليل النصوص الأدبية، إذ عُدّت مظهراً من مظاهر الإبداع وجمال الخطاب. إلا أنّ البلاغيين القدامى — من الجرجاني إلى السكاكي — ركّزوا على كيفية بناء الصورة أكثر من كيفية استقبالها.
أما النقد الحديث، ولا سيما في إطار نظرية التلقي (Reception Theory)، فقد وجّه البوصلة نحو القارئ بوصفه شريكاً في إنتاج المعنى.
هنا تنشأ مساحة خصبة للتأمل:
هل يمكن إعادة قراءة البلاغة العربية بعيون التلقي؟ وهل تبقى الصورة مجرّد تركيب لغوي أم تصبح حدثاً نفسياً وجمالياً متجدداً في وعي المتلقي؟
أولاً: الصورة البلاغية في التراث العربي
يرى عبد القاهر الجرجاني في دلائل الإعجاز أنّ سرّ الإعجاز يكمن في نظم الكلام، أي في العلاقات بين الألفاظ والمعاني، لا في الألفاظ منفصلة. فالصورة البلاغية عنده فعل تركيبيّ ينشئ دلالة جديدة، وليست مجرد تشبيه أو استعارة.
لكن الجرجاني، رغم عبقريته، ظلّ أسير النظرة المنتِجة للخطاب، أي نظر الكاتب إلى نصّه، ولم يُفرد حيّزاً كافياً لتفاعل القارئ مع الصورة.
بينما وسّع حازم القرطاجني في منهاج البلغاء هذا الأفق عندما ربط الصورة بالفعل النفسي للمتلقي، مؤكداً أن “التخييل” هو ما يثير اللذة في نفس السامع. هنا تومض أول إشارة عربية مبكرة لفكرة التلقي الجمالي.
ثانياً: من البلاغة إلى الجماليات الحديثة
في القرن العشرين، أعادت نظرية التلقي الألمانية، ممثلة في أعمال هانس روبرت ياوس (Toward an Aesthetic of Reception, 1982) وفولفغانغ إيزر (The Act of Reading, 1978)، تعريف العملية الأدبية بوصفها علاقة دينامية بين النص والقارئ.
فالصورة، وفق هذا التصور، لا تمتلك معناها كاملاً إلا حين يملؤها القارئ بتجربته وخياله.
هذا يتقاطع بعمق مع ما أشار إليه السكاكي في مفتاح العلوم حين تحدّث عن “القوة المتخيّلة” التي تُحدث التأثير في نفس السامع.
إذن، ما يبدو عند السكاكي والجرجاني “بياناً” يصبح عند ياوس وإيزر “تجربة تلقٍّ”، وما كان “بلاغة” يصبح “جماليات تفاعل”.
ثالثاً: الصورة كحدث إدراكي
يمكن القول إن الصورة البلاغية تمرّ بثلاث لحظات:
1. لحظة الإبداع: حين يصوغها الكاتب وفق وعيه اللغوي والجمالي.
2. لحظة النص: حيث تتحوّل إلى بنية لغوية مفتوحة على التأويل.
3. لحظة التلقي: حيث يعيد القارئ بناءها وفق خبرته وثقافته.
وهنا نكتشف أنّ البلاغة ليست في “القول الجميل” فحسب، بل في الاستجابة الجمالية التي يثيرها القول.
فحين يقول الشاعر:
> كأنّ قلبي في الظلام مصباحُ
فإن الجمال لا يتحقق في التشبيه ذاته، بل في تجربة القارئ حين يتخيّل النور ينبثق من الألم.
رابعاً: نحو بلاغة تفاعلية
إنّ إعادة قراءة البلاغة التراثية في ضوء نظريات التلقي تمكّننا من بناء بلاغة تفاعلية جديدة، تتجاوز ثنائية المرسل والرسالة، لتصل إلى بلاغة العلاقة.
فالبلاغة، في صورتها المستقبلية، ليست فقط فنّ القول، بل فنّ الإنصات والتأويل.
وهذا يفتح أفقاً لنقد أدبي عربي حديث يزاوج بين التراث والحداثة دون قطيعة، بل بحوار خلاق.
الخاتمة:
تبيّن هذه المقاربة أن الصورة البلاغية لا تكتمل إلا حين يعيشها المتلقي، وأن البلاغة العربية الكلاسيكية — رغم تركيزها على البناء اللغوي — تمتلك في عمقها بذور نظريات التلقي الحديثة.
إنّ الربط بين “النظم” و”التفاعل” يتيح لنا أن نعيد للبلاغة دورها الحيوي في تشكيل الوعي الجمالي المعاصر، لتصبح أداة فهم الإنسان للعالم، لا مجرد وصف لجمال القول.
المراجع:
المراجع العربية:
1. عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، تحقيق محمود شاكر، دار المدني، جدة، 1992.
2. حازم القرطاجني، منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تحقيق محمد الحبيب بن الخوجة، تونس، 1972.
3. السكاكي، مفتاح العلوم، دار الكتب العلمية، بيروت، 1987.
4. عبد السلام المسدي، اللسانيات وأسسها المعرفية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1991.
5. صلاح فضل، بلاغة الخطاب وعلم النص، دار سعاد الصباح، الكويت، 1992.
المراجع الأجنبية:
1. Jauss, Hans Robert. Toward an Aesthetic of Reception. University of Minnesota Press, 1982.
2. Iser, Wolfgang. The Act of Reading: A Theory of Aesthetic Response. Johns Hopkins University Press, 1978.
3. Fish, Stanley. Is There a Text in This Class? The Authority of Interpretive Communities. Harvard University Press, 1980.
4. Ricoeur, Paul. The Rule of Metaphor: Multi-disciplinary Studies of the Creation of Meaning in Language. Routledge, 1977.
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟