فرهاد دريعي
الحوار المتمدن-العدد: 8504 - 2025 / 10 / 23 - 09:54
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ثنائية العجز : الوطن والمنفى
--------------------
إن أشد ما يقصم الظهر هو الاغتراب ثم يأتي ما يكمل عليه من الاشتياق والحنين .
موطن جديد ، موطن نظيف ، منظم ، تحكمه القوانين ويحفّه الأمان ، هنا يجد اللاجئ المغترب ملاذاً جسدياً من وطأة الحرب والفوضى والقسوة والمهانة المعيشية التي فرّ منها ، وهنا ، في هذا المهجر تتوفر سبل العيش الكريم ببحبوحة قد لم يحلم بها قط في وطنه .
في هذا المهجر النبيل رعاية صحية متكاملة ، دعم مالي جيد ، سكن مخدم لائق ، بنية تحتية لا تشوبها شائبة، وقبل كل شيء الأمان الذي يتيح النوم دون فزع .
هذا هو المشهد الخارجي للحياة في المهجر ، إنها لوحة كاملة الأركان تَعِد بالاستقرار والاطمئنان.
لكن خلف هذا المشهد المنظّم والساكن تعشعش غصّة دائمة في الحلق.. في الصدر.. في القلب والروح ، شعور لا تملك اللغة قدرة على صياغته ، يكمن فيه سر اغتراب أعمق من مجرد البعد الجغرافي .
فالاغتراب في جوهره كسر داخلي ، وبالرغم من الأمان المادي والدعم الاجتماعي الذي توفره الدولة المضيفة( المانيا أنموذجاً) كفيلان بضماد جراح الجسد وظروف الحياة لكنهما يقفان عاجزين أمام "كسر الروح" ان جاز التعبير ، فالاغتراب ليس نقصاً في الخدمات أو غياباً للأمان، بل هو فقدان للتطابق الروحي مع المحيط الجديد . الروح المبرمجة على ترددات بيئتها الأولى تجد نفسها في عالم آخر يعمل بترددات مختلفة كلياً عما ألفته ونمت عليه .
إن محاولات الاندماج رغم جديتها وسعي الدولة الدؤوب لتوفير أسبابها تصطدم بجدار خفي ، فالمرء لا يندمج بالوثائق أو اللغة فقط، بل يندمج بالذاكرة الجمعية ، بالنكتة العابرة، بالنظرة المتبادلة التي تفهم التاريخ المشترك و دون الحاجة إلى شرح ، وهنا يظل اللاجئ يرتدي ثوب الغريب مهما فعل، ثوب منسوج من الشعور بالهامشية ومن كون كل إنجاز هو إنجاز لـ الوافد لا لـ ابن المكان .
هذا الإحساس يورث شعوراً دائماً بأن الجذور معلقة في الهواء مما يجعل القلب متألما ومكسوراً .
تتجلى المفارقة الموجعة في المقارنة الواعية والمنطقية التي يجريها العقل :
ففي الكفة الأولى بلادنا الأصل حيث النفايات والأمراض النفسية والفساد والعصابات والجرائم والغبار واليباس والفوضى في كل شيء.
وفي الكفة الثانية: بلاد اللجوء حيث الأمان والخدمات والرعاية والأجواء النظيفة واحترام الانسان وسيادة القانون والتشريعات التي هي فوق الجميع فعلا- وليس مجرد شعارات وكتابات على الكرتون او الجدران كما هي عليه في بلداننا الاصلية - في مجتمع متحاب عنوانه العمل والتعايش والالتزام بالنظام لايميز بين دين ودين ، وعرق وعرق ، ولون ولون .
منطق العقل في بيئة كهذه يفرض علينا أن يكون الشعور بالامتنان والراحة هو السائد بلا منازع ومع ذلك فإن الاشتياق والحنين إلى الارض الأم يحفر الجرح عميقاً في النفس .
إذن لماذا يصرّ القلب على التمسك بأرض العذاب التي نُفِيَ منها الجسد؟
لماذا تهون كل تلك المزايا أمام نداء حجر كان مهملا ، في زاوية كانت مهملة ؟
مالسر إذن ؟
أهو في خلجات الأرض ومراتع ومرابع ذاكرته مثلاً ؟
ام يكمن في ان هذا الشعور ليس مجرد عاطفة سطحية، بل هو فطرة إنسانية عميقة تكوّن جزءاً من غريزة البقاء لديه ، فالجذور البيولوجية للذاكرة تثبت ان الأرض ليست مجرد مساحة جغرافية، إنما مستودع ضخم للذاكرة الحسّية . فرائحة التراب المبلل ، نكهة خبز الأم، صوت الباعة المتجولين في الحارات الشعبية ، طرز وأنماط البناء في الأرياف والمدن حتى شكل الاشجار في الباحات وعلى الطرقات هذه واشياء كثيرة أخرى هي نقاط ارتكاز للروح . وعندما يبتعد أحدنا عنها يفتقد ليس مكاناً فحسب بل يفتقد قطعاً من ذاته ، من تاريخه الملموس ، والحنين هو ذلك الألم الناتج عن بتر هذه الوصلات الحسية والوجدانية .
هنا تبرز حتمية الهوية التي تتشكل من البيئة ( اللغة الأم، العادات، طرائق التعاطي مع المناسبات الخاصة كالاعراس او العامة كالاعياد ، حتى طريقة الغضب والحزن) كلها جزء من الوعاء الثقافي الأول ، وعندما ينتقل اللاجئ إلى بيئة جديدة يُطلب منه ضمنياً أن يعيد تشكيل هويته ليتناسب مع قالب الدولة المضيفة او كما نسميه الاندماج ، لكن هذا التشكيل الجديد لا يلغي القديم ، مما يؤدي الى التصادم بينهما وغالباً ما قد لا يعي احدنا ذلك بوضوح .
من هنا نستطيع ان نعرّف الحنين بانه صرخة الهوية الأصلية التي ترفض الفناء والذوبان التام في بوتقة الإنصهار .
وبالعودة الى الوطن فهو كائن حي و ليس مجرد فكرة سطحية او عبثية و هو في المخيلة ليس فقط الجغرافيا الفاسدة التي فرّ أبناؤها منها ولا هو الأم التي خانت، أو الحبيبة المريضة التي لا يمكن التخلي عنها، إنما هو المساحة الوحيدة التي يكون فيها المرء غير مُعرَّف بصفة لاجئ أو مغترب ، بل بصفة الابن أو المواطن الأصيل وهذا الشعور بالانتساب المطلق هو ما يقصم الظهر عند فقدانه ، وفي المحصلة يظل الاغتراب غصّة لا يمكن شفاءها بالمال أو الأمان .
إنها ضريبة النجاة ، ضريبة اختيار الجسد للبقاء على حساب راحة الروح ، وهذا الإحساس بالاشتياق ليس ضعفاً أو نكراناً للجميل، بل هو إقرار بكرامة الجذور وحتمية الانتماء .
السر ليس في نقص مزايا بلد اللجوء، بل في طبيعة الإنسان التي لا تستطيع أن تقايض رائحة التراب وشواهد الطفولة مهما كانت معفرة بالفساد والفوضى بأجمل حدائق الدنيا هندسة ورونقا وتنظيما .
وهذا ما يجعلنا ندرك أن أشد أنواع العذاب ليس فقدان الأمان، بل فقدان المكان الذي لا يرى فينا سوى أنفسنا دون تصنيف .
في المقابل يواجه المغترب نداءً متكرراً، سواء من الضمير أو من القائل الخارجي: لماذا لا تعود إلى وطنك (سوريا ) مع التأكيد على وضعها بين قوسين ، ما دام الشوق يحرقك هكذا ؟
هذا التساؤل الساذج ، في عمقه يختزل المعضلة الإنسانية ويطرحه في هيئة معادلة بسيطة تخلو من فهم السياق الوجودي والسياسي للمأساة ، ولا يجب ان تكون الاجابة عاطفية كالسؤال .
فالوطن الذي فُرّ منه إنما هو بنية مُتصدّعة تفتقر إلى الحد الأدنى من مقومات الحياة الكريمة والآمنة .
وفيه كل الهشاشة وغياب السند ، ثم يكمن المانع الأكبر في أن الوضع ما زال قابلاً للانفجار في أي لحظة . و الحكم الانتقالي و بكل مساؤه وانجراره الى تحالفات اقليمية تعادي مكونا أصيلا من الشعب ، يظل قلقاً ومتأرجحاً لما يحمله من طابع عقائدي متزمت وطائفي استبدادي ممنهج ، يعمل على أرضية مشبعة بالخراب والضغائن والمصالح المتضاربة وهو جزء وإن كان ينفي ذلك .
العودة هنا لا تعني استئناف الحياة إذن، بل العودة إلى الهاوية . و بنتيجة كل من صادفتهم هنا ممن يتمتعون بهامش من الادراك والوعي توصلت بأن المغترب لا يخشى الموت بالقدر الذي يخشى العودة إلى اللايقين ، يرفض العودة الى حالة الترقب المستمر التي سلبت منه سنوات كثيرة من عمره .
ثم ان الكرامة هي القيمة العليا التي لا يمكن تكميمها لا بالاشتياق ولا بالرفاهية المادية في المهجر ، والوطن الذي عمل فيه الخراب ما عمل لا يفتقر فقط إلى البنية التحتية فحسب ، بل يفتقر إلى ما هو أعمق ، يفتقر الى ما يكفل كرامة أبنائه و مواطنيه .
إن سيادة الفوضى بدلاً من القانون في ظل غياب دولة المؤسسات المدنية يعني أن حياة المواطن مرهونة بالمزاجية في وطن يتم تغليب الولاءات على الكفاءات و ترفع من لا يستحق ، وتضعف من يملك المؤهلات العلمية أو الإختصاص فيجعل النجاح مرهوناً بالارتهان لا بالإنجاز .
وعندما يصبح السعي وراء لقمة العيش معركة يومية قاسية ، فإن الروح المعطوبة بالاشتياق لن تجد عزاءً بل ستجد إهانة جديدة تُضاف إلى جراحها القديمة .
إن العودة إلى وطن بهذه الصفات تعني تبديد الأمان الذي تم تحصيله بجهد روحي ونفسي قاسٍ في بلاد المهجر . والمغترب يجد نفسه عالقاً بين وضعين من العجز ، عجز المنفى حيث الأمان المادي لكن الغصّة الروحية وشعور الكسر الداخلي ، و عجز الوطن حيث الجذور لكن غياب الأمان المادي والمعنوي وكرامة المواطن مما يعني الكسر الخارجي والداخلي معاً .
وهنا يصبح البقاء في المهجر رغم ثقل الحنين قراراً عقلانياً يغلب على نداء العاطفة .
إنه اختيار لـ "العيش بكسر روحي واحد" على العودة إلى نظام يهدد الحياة بكسور متعددة لا يمكن جبرها .
وعليه فإن تحدي العودة لا ينبع من الخوف، بل من الإدراك الواعي بأن الكرامة الإنسانية هي الأغلى على الإطلاق .
المانيا
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟