محمد السايس
الحوار المتمدن-العدد: 8501 - 2025 / 10 / 20 - 09:59
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
في النقاشات التي دارت خلال العامين الماضيين وبالأخص بعد الإعلان عن بدء جلسات الحوار الوطني بيني وبين الرفاق داخل تيار الثورة الاشتراكية، كانت تتكرر الأسئلة حول المسائل التي ينتظر فيها ردٌّ من السلطة ، هل يمكن للنظام أن يسمح ببعض المبادرات السياسية المحدودة؟ هل يمكن أن تُفتح نافذة محدودة للحوار؟ هل سيُفرج عن عدد من المعتقلين؟ هل ستتمكن المعارضة من انتزاع هذا المكسب أو ذاك؟ هل سيتم السماح للعمل الشعبي في تلك القضية ؟
تباينت آراء الرفاق كثيرا فبعضها رأى أن النظام قد يتساهل في بعض الملفات التي لا تشكّل خطرًا عليه، أو أنه ربما يتبنّى خطوات محسوبة لتخفيف الضغط الخارجي، أو تجميل وجهه داخليًا. لكنني، وعلى الدوام، لم يخلف النظام يومًا رهاناتي فيه، فهو دائمًا ما يختار الأبشع والأكثر قسوة، وينتصر لغرائزه الأمنية التي تكره الناس وتخشى وعيهم. فجوهره القمعي المتحالف مع الصهيونية لا ينفعه اصطفافٌ وطني ولا يصلحه تجميل، إنها سلطة تحتاج إلى القهر والسلاح والمال أكثر من حاجتها إلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي، لأن وجودها ذاته مرهون بإدامة العجز الجمعي والخضوع الشعبي.
نظام يحارب الإصلاح
منذ تولي عبد الفتاح السيسي السلطة، لم تتخذ الدولة خطوة واحدة يمكن تسميتها “إصلاحًا سياسيًا”، إلا بالمعنى الدعائي. كل ما رُفع من شعارات الانفراجة لم يكن سوى إعادة تدوير القمع بعبارات ناعمة.
حين نحلّل طبيعة النظام المصري، لا يمكننا الاكتفاء بوصفه بالاستبداد أو القمع، فالقمع هنا ليس سياسة بل وظيفة، الدولة ليست حكمًا فوق الطبقات بل أداةٌ في يد طبقة محددة طبقة تكونت نتيجة تحالف من العسكريين و الرأسماليين الطفيليين، وتستند إلى أجهزة الأمن، ورأس المال المحلي المتطفل، والتمويل الخليجي، والاستدانة، والوصاية الأمريكية.
هذا التحالف الطبقي لا يحتاج إلى الحرية، لأن الحرية تهدد مصالحه؛ ولا يحتاج إلى الديمقراطية، لأن الديمقراطية تُظهر التناقض بين مصالح الأغنياء والفقراء.
الحوار الوطني الذي رُوّج له بوصفه خطوة نحو التعددية تحول إلى منصة مغلقة لترديد خطاب الدولة وتوصيات للإصلاح لم يعمل بها يوما، وانتهى بلا نتائج حقيقية.
ملف المعتقلين السياسيين ما زال شاهدًا حيًا على أن الدولة لا تفرج إلا لتعتقل من جديد فتترك علاء بيد وتأخذ إسماعيل باليد الأخرى، ولا تسمح بالعمل العام إلا في الحدود التي تضمن فيها ولاء الجميع.
أما مجلس النواب فقد صار مجرد غرفة تصديقٍ على قرارات السلطة التنفيذية، تمر عبره القوانين بلا نقاش ولا تعديل، كما حدث في قانون الإيجار القديم الذي تجاهل مصالح الملايين من المستأجرين، وقانون التصالح في مخالفات البناء الذي حمّل الشعب كلفة فساد الجهاز الإداري للدولة ، وقانون الجمعيات الأهلية الذي قيد المجتمع المدني إلى حدّ الشلل.
هذه القوانين وغيرها تم تمريرها رغم معارضة الشارع، بفعل غياب التمثيل الشعبي الحقيقي في البرلمان، حيث لا وجود لمعارضة فعلية قادرة على الاعتراض أو اقتراح بدائل. الأحزاب والنقابات والحركة الطلابية والجمعيات التي كانت يومًا تعبّر عن شرائح اجتماعية تحولت إلى جزر معزولة، لا تملك من أمرها شيئًا، وبعضها اكتفى بالتصفيق والتذلل للسلطة طمعًا في “دور رمزي” داخل مشهدٍ بلا سياسة.
واحدة من مظاهر رفض النظام لأي صوت آخر، وتبني سياسة الصوت الواحد التي يفرضها، تتجلى في الانتخابات الأخيرة لمجلس النواب.
تم تصميم العملية الانتخابية بطريقة تضمن قائمة انتخابية موحدة تضم كل الأحزاب خلف الدولة المصرية خلف صورة الرئيس، بينما تُفرض قيود يصعب معها المنافسة على المقاعد الفردية، ويتجلى العبس بمنع برلماني سابقة من الترشح بسبب مواقفه من التجنيد.
النائب السابق هيثم الحريري، الذي حاول تقديم نفسه كمعارض وطني صاحب خطاب معتدل لا يتسم بالتطرف أو العدوانية، يؤكد دائما حرصه على الاصطفاف الوطني، وانه وأفكاره لا يشكل تهديدًا للنظام بل حرص أكثر من مرة علي التأكيد انه انفع للنظام أن يكون البرلمان به عدد من المعارضين الوطنيين كما يسميهم الحريري.
لكن من كان يرتب لإجراء الانتخابات وضع عراقيل محددة تمنع ترشحه تحديدا، لأن وجوده، حتى باعتباره “معارضًا وطنيًا متماهيا مع السياسات الخارجية ”، قد يمثل تهديدًا لسيادة القمع داخل البرلمان، خاصة أنه يحظى بالتفاف شعبي وتضامن من الأهالي يؤهله لخوض معركة انتخابية جادة.
هذا المثال يكشف منطق النظام في تحويل العملية الانتخابية إلى آلية للتحكم السياسي الكامل، بحيث يتم حرمان أي شخصية مهما كان خطابه متماهي، ويُفرض على الشعب اختيار مرشحين خاضعين بالكامل أو محسوبين مسبقًا على السلطة.
معارضة بلا مشروع
السلطة لم تكتفِ بإغلاق المجال العام، بل نجحت في تدجين الجزء الأكبر من المعارضة، وتحويلها إلى ملحقٍ من ملحقات النظام. صار كثير من رموزها يتحدثون بلغة الأجهزة الأمنية نراهم يطلقون النداءات والاستغاثات بحثا عن “رجل رشيد” يصلح لهم الحال لكن دون جدوى.
لكن أي إصلاح يُنتظر من نظام يعتبر المجتمع عدوًا محتملًا؟
هذه المعارضة – التي أطلقت على نفسها “العاقلة” – لم تطرح بدائل اقتصادية أو سياسية حقيقية، بل اكتفت بتكرار خطاب “تخفيف القبضة” و”المطالبة بالإصلاح من داخل الدولة”. وهي بهذا، شاءت أم أبت، صارت جزءًا من ماكينة الهيمنة التي تُفرغ السياسة من مضمونها، وتحيل كل صراع اجتماعي إلى مناشدة أخلاقية للسلطة.
إن غياب الطرح المعارضة كبديل هو ما سمح للنظام بإعادة تعريف الوطنية على مقاسه ، صارت تعني الصمت والاصطفاف خلف الخطة والخطاب الرسمي، أما المعارضة والنقد الحر صار “تآمرًا”، والمطالبة بالحرية صارت “إضرارًا بالمصلحة العامة”. وحتى المبادرات الضعيفة التي حاولت إيجاد مساحة رمادية بين الولاء والفعل وتجنبت الاحتجاج أو حتى مجرد الخلاف كبعض المبادرات المدنية مثل أسطول الصمود المصري وغيرها من محاولات التماهي مع خطاب الدولة ، جرى خنقها حتى الموت.
النظام لا يتحمل العمل المستقل، ولو كان مهادنًا؛ لأنه يفهم أن كل استقلال، ولو رمزي، هو بذرة مقاومة.
جوهر لا يُصلَح
النظام المصري اليوم لا يعاني من أزمة في الأشخاص، بل من جوهر قمعي متكامل ،قمعه ليس حادثًا طارئًا بل ضرورة لبقائه؛ وهو يدرك أن أي مساحة حرية، مهما كانت صغيرة، تهدد تماسكه الداخلي.
النظام المصري، في بنيته الحالية، ليس فقط قمعيًا تجاه الداخل، بل تابعٌ للخارج في وظائفه الأمنية والاقتصادية، التحالف مع الصهيونية لم يعد سرًّا، بل صار سياسة مُعلنة عبر التنسيق الأمني والاقتصادي في قضايا غزة وسيناء وشرق المتوسط.
القمع في الداخل هو الوجه الآخر للوصاية الخارجية وأحد أشكال الهيمنة فمن يقمع شعبه لا يمكن أن يتحرر من تبعيته، ومن يخشى وعي الجماهير لا يمكن أن يواجه الإمبريالية.
السلطة هنا ليست عدوًا للديمقراطية فحسب، بل عدوًّا للسيادة ذاتها.
لا إصلاح بلا صراع
الإصلاح لا يُستجدى من السلطة، بل يُنتزع منها، الرهان الحقيقي ليس على وعود الانفراجة، بل على عودة الناس إلى الفعل، إلى الشارع والنقابات والمبادرات المستقلة، خارج منطق “الاصطفاف الوطني” الزائف.
إن جوهر الأزمة في مصر يكمن في غياب الحوار، وغياب الإرادة في مواجهة النظام الذي صادر السياسة باسم الأمن والوطن.
لن يأتي الإصلاح من الداخل، لأن الداخل ذاته مسموم.
وإذا كان هذا النظام لا يحتمل حتى أصوات المهادنين، فكيف يمكن إصلاحه؟
البديل الوحيد هو بناء حركة سياسية واجتماعية جديدة تؤمن أن التغيير لا يبدأ بالانتظار، بل بالكسر، كسر الصمت والانتقال من مناشدة السلطة إلى مخاطبة الناس، وكسر الوهم، وكسر كل ما جعلنا نصدق أن الإصلاح ممكن استجدائه تحت ظلال القمع.
إننا أكثر حرصنا على الإصلاح من كل مدعي الإصلاحية لكن الإصلاح لا يولد من رحم سلطة ترفضه، بل من صراع يفرض واقعًا جديدًا.
#محمد_السايس (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟