سيف فلح حسن
الحوار المتمدن-العدد: 8496 - 2025 / 10 / 15 - 08:45
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
سواء وُصِفت ب إبادة جماعية (في رأيي، هو الوصف الصحيح) أو حربًا مبرَّرة ذات «أضرار جانبية لا مفرّ منها»، فقد تصاعدت الأحداث في غزة إلى أزمة إنسانية غير مسبوقة منذ الحرب العالمية الثانية.
يُقدَّر أن نحو 60000 شخص – أي ما يقارب 3٪ من سكان غزة – قد فقدوا حياتهم. وللتوضيح، فإن ذلك يعادل تقريبًا 1.2 مليون وفاة لو حدث في الولايات المتحدة. تم تدمير البنية التحتية للمنطقة و تمزيق المجتمع.
لكن ما يتجاوز الدمار المادي هو ما وصفه ألبير كامو ذات مرة بـ «الأزمة الإنسانية». ففي محاضرة ألقاها بجامعة كولومبيا عام 1946، متأملاً العالم بعد الحرب العالمية الثانية، قال كامو:
«نعم، هناك أزمة إنسانية، لأننا اليوم نستطيع أن نتأمل موت إنسان أو تعذيبه بشعور من اللامبالاة، أو الاهتمام الودّي، أو الفضول العلمي، أو السلبية الباردة.»
وأضاف:
«لم يعد العذاب الإنساني يُعتَبر فضيحة.»
بعد ما يقرب من ثمانين عامًا، لا يزال هذا الشعور حيًّا. ففي عالمٍ يغمره سيل من المعلومات والصور الفورية للحروب والمعاناة، بات كثير منا يتفاعل ببرود – أو بأدنى درجات التعاطف.
من الضروري أن نفهم لماذا تحدث كارثة بهذا الحجم في زمنٍ يُوصف غالبًا بأنه الأكثر ازدهارًا وسلامًا في التاريخ البشري. ومن المهم بالقدر نفسه أن ندرك أن التغيير الحقيقي لا يحدث دون وعيٍ تاريخي. فغياب السياق يجعلنا نُسيء فهم الأحداث الجارية – أو ما هو أسوأ، نُعيد ارتكاب الأخطاء ذاتها. وكما حذّر كامو، فإننا نخاطر بأن نصبح «منافقين وحوشًا».
يقدّم إيلان بابِه، المؤرخ اليهودي الإسرائيلي، رؤية جريئة وعميقة البحث في كتابه عشر خرافات عن إسرائيل. يتحدى الكتاب السرديات الشائعة حول تأسيس إسرائيل وجذور الصراع الإسرائيلي–الفلسطيني.
يقود بابِه القرّاء عبر مواضيع مثل الصهيونية المسيحية في أوروبا القرن التاسع عشر، وتطور الصهيونية اليهودية العلمانية والدينية، والدوافع السياسية واللاهوتية وراء إقامة وطن لليهود. كما يتناول الكتاب دور علم الآثار التوراتي في اختلاق تاريخ بديل.
غالبًا ما يتهمه منتقدوه بالتحيز أو يُرفض باعتباره «يهوديًّا يكره نفسه»، لكن حتى المتشككين قد يستفيدون من قراءة عشر خرافات عن إسرائيل. ولتحقيق التوازن، يمكن العودة إلى كتاب الدولة اليهودية لـ ثيودور هرتزل، النص المؤسس للحركة الصهيونية.
سعى هرتزل إلى حلّ ما أسماه «المسألة اليهودية»، لكن القراءة الدقيقة تكشف أن المشكلة كانت أوروبية الأصل – متجذرة في الاضطهاد المعادي لليهود. دعا إلى إنشاء دولة يهودية بالتعاون مع القوى العظمى، لكن كثيرًا من تلك القوى لم تدعم الفكرة بدافع التضامن، بل بدوافع معادية لليهود أو لاهوتية.
من بين هؤلاء الصهاينة المسيحيون الأوروبيون الذين اعتقدوا أن قيام دولة إسرائيل شرط لعودة المسيح الثانية – وهو إيمان يرى أن اليهود إمّا سيعتنقون المسيحية أو يواجهون العقاب الأبدي.
وعلى عكس الاعتقاد الشائع، لم يحدد هرتزل فلسطين تحديدًا كموقع للدولة اليهودية؛ فقد نظر أيضًا في بدائل مثل أوغندا والأرجنتين.
إن فهم هذا السياق التاريخي أمر جوهري، فبدونه نبقى أسرى الخرافات التي تحجب الصورة الكاملة. إن إدراك جذور الأزمة الحالية شرط أساسي لأي سعي نحو العدالة أو الحل.
لكن حتى هذا السياق لا يفسّر بالكامل كيف يمكن لمجموعة من البشر أن تقتل الآلاف من الآخرين.
⸻
نزع الإنسانية وعلم نفس العنف الجماعي
لفهم كيف يصبح قتل أعداد هائلة من المدنيين – رجالًا ونساءً وأطفالًا – أمرًا ممكنًا، علينا مواجهة قوى نزع الإنسانية وطمس الفردية.
فهذه القوى لا تقتصر على الجنود الذين يضغطون على الزناد أو القادة الذين يصدرون الأوامر، بل تشمل أيضًا المتفرجين الصامتين الذين يواصلون حياتهم وهم يعلمون تمامًا أن القتل الجماعي يحدث ويمكن وقفه – لأنه، في جوهره، من صنع الإنسان.
يُظهر التاريخ أن كل إبادة جماعية أو حرب غير متكافئة تقوم على أساس من نزع الإنسانية. وكما يشرح الفيلسوف ديفيد ليفينغستون سميث في كتابه أقل من إنسان، فإن الفظائع نادرًا ما تكون عفوية؛ بل تسبقها وتبررها حملات دعائية تُصوّر الضحايا ككائنات دون البشر – لا تستحق التعاطف أو الحقوق أو الحماية.
ولربط هذا بالمأساة الراهنة، يمكن النظر إلى تصريحات مسؤولين إسرائيليين عبر السنوات.
ففي خطاب أمام الكنيست عام 1982، وصف مناحيم بيغن (رئيس الوزراء آنذاك) الفلسطينيين بأنهم «حيوانات تمشي على قدمين».
وفي عام 1988، قال إسحق شامير (رئيس الوزراء) إن «الفلسطينيين سيُسحقون كأنهم جراد… تُحطّم رؤوسهم على الصخور والجدران».
وفي مقابلة عام 2001، قال بنيامين نتنياهو (رئيس الوزراء الحالي): «الطريقة الوحيدة للتعامل مع الفلسطينيين هي ضربهم، ليس مرة واحدة بل مرارًا، ضربهم بقسوة حتى يصبح الأمر لا يُحتمل.»
ليست هذه التصريحات حوادث معزولة، بل هي جزء من خطاب طويل الأمد يصوّر الفلسطينيين لا كبشر ذوي كرامة وحقوق، بل كأعداء أو حيوانات أو تهديدات مجردة.
لكن الدعاية وحدها لا تكفي.
في بحثٍ نُشر عام 2011 بعنوان الجانب المظلم من التفاعل الاجتماعي، يشرح العالمان ريمان وفيليب زيمباردو كيف أن طمس الفردية (Deindividuation) يضاعف أثر نزع الإنسانية.
فإذا جعلت نزع الإنسانية القتل أسهل، فإن طمس الفردية يحمي الجناة من الشعور بالذنب.
فعندما يرى الإنسان نفسه لا كفردٍ مسؤول، بل كجزءٍ مجهول من جماعة، يسهل عليه تبرير الجرائم على أنها «واجب» أو «بقاء».
هذه السيكولوجية المظلمة هي التي تجعل البشر العاديين قادرين على ارتكاب جرائم استثنائية. ولهذا فإن الصمت أمام نزع الإنسانية ليس حيادًا – بل هو تواطؤ.
⸻
كثير من المدافعين عن فلسطين يتساءلون كيف سنبرّر أفعالنا – أو تقاعسنا – أمام الأجيال القادمة.
لكنني أرى أن سؤالًا آخر لا يقل أهمية هو: لماذا حدث هذا أصلًا؟
لماذا قُتل الدكتور مروان سلطان، طبيب القلب البارز ومدير المستشفى الإندونيسي في غزة؟
لماذا قُتل سعد عيسى أثناء حضوره القدّاس في كنيسة العائلة المقدسة الكاثوليكية؟
ولماذا تُركت الطفلة هند رجب، البالغة من العمر ست سنوات، تموت – محاصرة داخل سيارة بجانب جثث ستة من أفراد أسرتها، تمضي ساعاتها الأخيرة تستغيث عبر الهاتف في انتظار إنقاذٍ لم يأتِ؟
عندما نسأل أنفسنا لماذا حدث هذا الظلم العظيم أمام أعيننا، فلنأمل ألا يكون الجواب ببساطة:
«كل شيء بدأ في السابع من أكتوبر.
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟