عادل المغربي
الحوار المتمدن-العدد: 8496 - 2025 / 10 / 15 - 01:49
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
رأى كارل ماركس أن الرأسمال ليس أداة في يد صاحبه، بل قوة تستعبده، قوة تفرض عليه أن يدور في فلكها بلا رحمة. فالرأسمالي، مهما بدا متحكمًا، هو في الحقيقة مجرد ترس في ماكينة التراكم، خاضع لديناميكية الربح والتوسع التي لا تعرف سوى منطقاً واحداً: الربح أولاً، والإنسان آخرًا.
وقد صاغ ماركس هذا بمنتهى الدقة حين قال إن رأس المال ينفر من فقدان الربح كما تنفر الطبيعة من الفراغ؛ فهو في سبيل 10٪ من الربح يقبل بالمخاطرة، وفي سبيل 20٪ يرتكب الفظائع، أما عند 50٪ فيتحول إلى مجرمٍ متهور، وعند 100٪ يدوس القوانين والدساتير، يقتل ويُفني، ولو قاده ذلك إلى حبل المشنقة.
من هنا، حين يصف بعض المحللين دونالد ترامب بأنه رجل متقلب المزاج، لا يُقرأ إلا بعلم النفس، فإنهم في الحقيقة يُغفلون جوهره الطبقي.
ترامب ليس “ظاهرة شخصية” بقدر ما هو تجسيد حيّ للرأسمال الإمبريالي في أنصع صوره وأكثرها فجاجة.
هو الابن المطيع للرأسمال، وخادمه الأمين الذي حمل منطق السوق والصفقة إلى عتبة البيت الأبيض، فحوّل السياسة إلى تجارة، والدبلوماسية إلى مساومة، والإنسان إلى بند في ميزان الأرباح والخسائر.
ترامب لا يتحدث بلغة “الجنون” كما يزعمون، بل بلغة الربح.
حين يرفع شعاره “السلام من خلال القوة”، فهو لا ينشد السلام بل الاستسلام، تماماً كما تفعل الشركات الاحتكارية الكبرى حين تُغرق الأسواق وتُحاصر المنافسين الصغار، قائلة لهم ببرود:
“بع ما تشاء، لكن اشترِ مني كل ما تبيع.”
إنه المنطق نفسه، منطق السوق وقد تسلّل إلى ميدان السياسة، منطق الجشع وقد لبس عباءة “الدبلوماسية”، منطق الصفقات وقد أزاح من طريقه كل ما هو إنساني أو أخلاقي.
إنها لغة الاحتكار ذاتها، ترجمتها السياسية على لسان رجل لا يرى في العالم سوى سوق ضخمة، تُدار بالعقوبات والتهديد والهيمنة.
إن ترامب هو رأس المال حين يخلع قناعه، حين يتحدث بلا تزييف ولا أقنعة ليقول للعالم:
السلام لن يتحقق إلا عندما تستسلم، والحرية لن تُمنح إلا بثمنٍ يُدفع لنا، والقانون لا يُطبّق إلا إذا خدم مصالحنا.
بهذا المعنى، فترامب ليس انحرافاً عن النظام الرأسمالي، بل تجليه الأصدق والأوضح؛ هو رأس المال وقد صار إنسانًا، يمشي على قدمين، يبتسم في وجهك وهو يُفلسف جشعه، ويُقنّن طغيانه باسم “الصفقة”، و“القوة”، و“السلام”
فترامب ليس جنوناً فردياً، بل عقل الرأسمالية وقد تجسّد في هيئة رجل، رجلٍ خرج من رحم السوق، يحمل في دمه رائحة المضاربات والبورصات، ويتحدث بلسان الصفقات والعقود.
هو الابن الشرعي للرأسمال الإمبريالي، والمرآة التي تعكس وجهه الحقيقي دون مساحيق ولا أقنعة.
ترامب، ببدلته الفاخرة ولسانه الفظّ، ليس سوى رأس المال وهو يمشي على قدمين، رأس المال حين يعلن عن نفسه بلا خجل،
أنا لا أؤمن بالسلام إلا إذا كان يدرّ الربح، ولا أؤمن بالقانون إلا إذا خدم مصالح السوق.”
فترامب لم يُدخل السوق إلى البيت الأبيض، بل كشف أن البيت الأبيض نفسه سوقٌ كبرى تُدار فيها مصائر الشعوب كما تُدار الأسهم في البورصات، تُباع فيها المواقف وتُشترى، ويُحدّد فيها ثمن الدم بحسب مكاسبه في التداول العالمي.
ولعل أعظم ما فعله ترامب أنه أسقط القناع عن وجه الإمبريالية الحديثة؛ لم يعد ثمة حاجة لخطاباتٍ منمقة عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، فبالنسبة له :
“القوة هي السلام، ومن لا يخضع لقوتنا لا يستحق الحياة في نظامنا العالمي.”
إن ترامب، في النهاية، ليس انحرافاً عن النظام الرأسمالي، بل هو تمامه واكتماله، هو ذروته الفلسفية والسياسية، هو الرأسمال وقد صار خطيباً في الأمم المتحدة، وتاجراً في مجلس الأمن، ومحتكراً في هيئة رجلٍ واحد.
إنه لا يمثل شذوذاً عن القاعدة، بل هو القاعدة وقد نطقت باسمها:
“أنا الرأسمال… ولست أملك شيئاً سوى أن أربح، ولو على رماد العالم.
تلك هي فلسفة ترامب في السياسة:
إما أن تكون تابعاً في السوق، أو هدفاً في الميدان.
إنها نفس معادلة ماركس التي فضحت منطق الرأسمال:
أن يعيش القويّ من دم الضعيف، وأن تُدار البشرية كلها وفق جدول أرباحٍ وخسائر.
ترامب لم يُبدع جديدًا، بل أزال الحجاب عن وجه الإمبريالية.
لم يعد الغرب بحاجة إلى خطابات ناعمة عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، فترامب يقولها بوضوح فاضح:
القانون الدولي يُحترم حين يخدمنا، ويُنسى حين يقيدنا.
وهكذا، تعرى البيت الأبيض في عهده وأبان عن وجهه الحقيقي: بورصة كبرى للنفط والسلاح والسياسة،
يُباع فيها الولاء بالدولار، وتُشترى فيها المواقف بالحصار، وتُدار الحروب كما تُدار الإعلانات التجارية، وفق منطق السوق لا منطق الإنسان
هكذا يتجلّى كلام ماركس من جديد في صورة رجلٍ برتقالي الشعر، يبتسم ببرود أمام الكاميرات، فيما يدور خلفه رأس المال ضاحكاً، وقد وجد في ترامب أفضل من يخدم منطقه العاري: منطق الربح مهما كان الثمن.
في زمن ترامب، لم تكن الإمبريالية بحاجة إلى فلسفة لتبرير وجودها؛ فقد أصبحت التكنولوجيا، والإعلام، والشركات العابرة للقارات أدواتها الجديدة.
لقد ورثت الإمبريالية المعاصرة من سلفها الحديدي منطق الهيمنة، لكنها أضافت إليه سرعة الخوارزميات ونعومة الشاشات.
فالحرب اليوم تُخاض بالدرون كما تُخاض بالإشاعة، والاحتلال يُفرض بالعقوبات كما يُفرض بالدبابات.
وفي قلب هذا المشهد يقف ترامب رمزًا لـ عصر رأس المال العاري،
عصرٍ تُسحق فيه القيم تحت أقدام الأسهم، وتُختصر فيه السياسة كلها في معادلة واحدة:
من لا يربح… لا يحق له أن يعيش.
إنه ليس مجنونًا، بل منطقيٌّ إلى أقصى حدود الجنون؛
إنه ماركس وقد نهض من قبره ليرى نبوءته تمشي على الأرض بوجهٍ برتقاليٍ مبتسم،
يُدير العالم كما يُدار متجر ضخم،
ويعلن أن الرأسمالية لم تعد نظامًا اقتصاديًا فحسب، بل دينًا جديدًا، إلهه الربح، وجه ترامب.
هو وجهها الحقيقي حين تخلع قناعها الليبرالي وتُظهر أنيابها الإمبريالية،
هو صوتها حين تصرخ بلا حرج:
“أنا السوق… وأنا الحكم، وأنا القانون.”
قد يسقط ترامب كما سقط من قبله كثيرون،
لكن ما يمثله لن يسقط، لأن الرأسمال لا يموت، بل يتقمص الوجوه ويعيد إنتاج نفسه.
سيسمّون القادم ديمقراطيًا أو يساريًا أو تكنوقراطيًا،
لكن خلف الأسماء والابتسامات ستظل الماكينة ذاتها تدور،
تطحن الإنسان باسم الحرية، وتنهب الشعوب باسم النظام العالمي.
ومع ذلك، فإن للتاريخ مكرًا،
فكلّما بلغ الجشع ذروته، يبدأ التصدّع في قلب الإمبراطورية.
وحين يظن رأس المال أنه أبدي، تكون البذرة الأولى لسقوطه قد نبتت في تربة المقهورين.
فكما قال ماركس: “الرأسمالية تحمل في أحشائها بذور فنائها.”
ولعلّ ترامب، من حيث لا يدري، كان أول مَن بشّر بولادتها الأخيرة
#عادل_المغربي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟