|
الوجود والعدم
احمد شاكر
الحوار المتمدن-العدد: 8495 - 2025 / 10 / 14 - 07:59
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
المبدأ العقلي الأول الذي حكم به الإنسان منذ البدء كان هو مبدأ السببية أو مبدأ العلة والمعلول، أي أنه لكل حادث سبب، ولكل نتيجة علة، وأن الوجود لا يجري اعتباطًا، بل في نسق مترابط تحكمه قوانين صارمة. ولعل هذا المبدأ هو حجر الزاوية في بنية العقل البشري؛ إذ بدونه يفقد العقل منطقه وانتظامه، ولظل الوجود بالنسبة للإنسان فوضى بلا معنى ولا إمكانية للفهم أو التفسير أو السيطرة. غير أن هذا المبدأ في أصل ظهوره لم يكن نظريًا مجردًا، بل كان مبدأً عمليًا حيويًا ارتبط بصراع الإنسان البدائي مع الطبيعة من أجل البقاء. كان لا بد له أن يلاحظ أن النار قد تشتعل إذا اصطك حجران، وأن المطر لا يهطل إلا إذا تراكمت السحب، وأن الجوع لا يزول إلا إذا تناول الطعام، وأن الموت لا يحدث إلا إذا أصيب الجسد بضربة أو جرح أو مرض. ومن هذه الملاحظات البسيطة بدأ العقل يلتقط خيوط الترابط بين الظواهر، فصاغها تدريجيًا في صورة قانون سببي: لا أثر بلا مؤثر، ولا معلول بلا علة. لكن مع تطور الفكر، وقع الفلاسفة واللاهوتيون القدامى – منذ أرسطو وحتى الغزالي – في خلط خطير بين مصطلحين لكل منهما دلالته المختلفة عن دلالة الآخر، فخلطوا بين العلة والفعل (أو الصنع أو العمل)، وبين المعلول والمفعول (أو المصنوع أو المعمول). ونتيجة هذين الخلطين خلطوا معهما خلطاً ثالثاً بين أمرين، لا يمكن أن يلتقيا ناهيك عن أن يختلطا، وهما: الإرادة والحتمية، مع أن كليهما يختلف جوهريًا عن الآخر ولا يمكن اجتماعهما في معنى واحد. ذلك أن الفعل لا يتحقق إلا بوجود إرادة لمُريد يختار أن يفعل أو لا يفعل. فأنا أقرر وأختار أن أزرع أو لا أزرع، أن أمشي أو لا أمشي. الفعل إذا مجال الحرية والاختيار، مجال الكائن الحي الذي يقيس بعقله ويختار بإرادته. أما علاقة العلة والمعلول فهي علاقة حتمية جبرية لا فكاك منها. نعم، لكل صنعة صانع، لكن ذلك لا يعني أن مفهوم الصنعة يساوي مفهوم العلة؛ لأن الصنعة تتطلب إرادة، بينما العلة علاقة موضوعية ضرورية لا تملك أن تفعل أو أن تمتنع. ولذلك، فإن جميع كواكب المجموعة الشمسية وأقمارها تخلو من الفعل والصنعة والإرادة، وبالتالي من مفهومي الخير والشر، لكنها ليست خالية من مبدأ العلة والمعلول. فحين يضرب نيزك سطح القمر ويترك حفرة، فإننا أمام علاقة علية حتمية: العلة هي اصطدام النيزك، والمعلول هو الفجوة. لا يمكن للماء أن يرفض الغليان على النار، ولا للمغنيسيوم أن يمتنع عن الاشتعال في الأوكسجين. أما الأسد الجائع، فهو يملك حرية أن يختار الصيد أو أن يمتنع، وأن يحدد أي فريسة يصطاد؛ وهنا تظهر الإرادة والاختيار حيث يوجد الوعي والعقل. وفوق ذلك، فإن الفعل أو العمل أو الصنع كأفعال إرادية، لا تلغي العلل الكونية بل توظفها. فقبل ظهور الوعي لم يكن هناك صانع ولا مصنوع، ولا فاعل ولا مفعول. القمر ظلّ بلا فعل حتى وطئه الإنسان، بينما العلل الطبيعية كانت وما زالت تعمل في تشكيل تضاريسه بصرامة حتمية، غير مرتبطة بإرادة أو اختيار. من هنا وقع اللبس عند الفلاسفة: إذ خلطوا بين "العلة" التي هي علاقة ضرورية لا اختيار فيها، و"الفعل" الذي هو فعل إرادة توظّف تلك العلل لإحداث نتائج. فالوعي عبر التجربة والخطأ اكتشف كيف يوظّف قوانين العلية لصالحه، ثم نسب إليها عنصر الإرادة. فحين يهز الفيل جذع الشجرة ليسقط الثمار، فإنه يزاوج بين فعله الإرادي وبين قانون الجاذبية الذي هو علة حتمية لسقوط الثمار. فالعلل كونية أزلية، أما الأفعال فطارئة اختيارية. وبفضل هذا التزاوج شيد الإنسان الحضارات، لكنها حضارات قابلة للزوال، بينما قوانين العلة والمعلول أزلية غير قابلة للانطفاء. ولو توقفت علاقة العلة بالمعلول لانعدم الوجود ذاته بانهيار قوانين الفيزياء. إذا، وجب تصحيح خطأ الفلاسفة القدماء: فالصانع غير العلة، والمصنوع غير المعلول. العلة لا خيار لها أن تفعل أو لا تفعل؛ لأنها لا تملك عقلًا ولا إرادة تثنيها عن الفعل. هي تعلل معلولها بالجبر والحتم، من دون أن تعرف خيرًا أو شرًا أو وجوبًا أو تحريمًا. هذه قضايا تخص الكائن العاقل الإرادي، الذي يفعل بحريته ويصنع بقراره. النجار قد يصنع كرسيًا أو سريرًا أو لا يصنع شيئًا، بينما الحديد في فرن الصهر ينصهر حتمًا، وخسوف القمر وكسوف الشمس يقعان وجوبًا متى تهيأت عللهما الفلكية. فالحتمي يُقاس ويُتنبأ به بدقة، أما الفعل الإرادي فلا يخضع لمثل هذا التنبؤ. العلة والمعلول إذا وجهان لعملة واحدة، متلازمان وجودًا وزمانًا، لا يسبق أحدهما الآخر. فالعلة لا تُتصوَّر إلا بوجود المعلول، كما أن المعلول لا يكون إلا بعلته. ومن هنا، فإن القول بأن العلة تتقدم المعلول بالزمن قول لا معنى له؛ لأن العلاقة بينهما علاقة اقتران وجودي، وليست علاقة تتابع زماني. إنك لا تستطيع أن تفصل النار عن الحرارة، أو الشمس عن الضوء، أو العقل عن التفكير؛ فكل منهما قائم بالآخر، ووجود أحدهما عين وجود الآخر. فالعلة ليست شيئًا يقع أولًا، ثم يأتي المعلول لاحقًا، بل هما معًا في لحظة واحدة. وهذا يهدم التصورات الكلامية القديمة التي افترضت علة أولى متقدمة في الزمن هي الله، بينما الواقع العقلي والوجودي لا يدل على ذلك، بل على اقتران لا انفكاك فيه بين ما نسميه علة وما نسميه معلولًا. إنّه نظام الوجود الحتمي، الذي لا يريد ولا يختار، بل يُنتج معلوله بوجود علته وجودًا متعاصرًا، لا يسبقه ولا يتأخر عنه. أما عن العلاقة بين الوجود والعدم، فهي من أعمق الجدليات. فالوجود لا يمكن فهمه دون العدم، والعدم لا معنى له دون الوجود. إذا قلنا إن "الوجود هو علة العدم"، نكون قد افترضنا أن العدم شيء مستقل يحتاج إلى سبب كي يظهر. بينما العدم ليس شيئًا أصلًا، بل هو غياب الشيء، الإطار السلبي الذي يسمح بتمييز الكينونة، مثلما لا ندرك الضوء إلا بفضل الظلام. وبالمقابل، إذا قلنا إن "العدم علة الوجود" نكون قد جعلنا من الفراغ مولِّدًا للوجود، وهذا بدوره ينقلنا إلى افتراض ميتافيزيقي يفتقر إلى منطق داخلي. الحقيقة أن الوجود هو الذي يهب معنى للعدم، إذ بدونه لا نستطيع الحديث عن غياب أو فقدان، والعدم لا يفهم إلا بالمقارنة معه. فالوجود والعدم ليسا خطين متقابلين بل قطبان متداخلان: كل منهما مرآة الآخر. وإذا حاولنا تعريف "العدم المطلق" وجدناه تناقضًا منطقيًا: P1 العدم المطلق = (∅) غياب مطلق لكل شيء: لا مادة، لا زمان، لا قوانين. P2 إذا كان (∅) "موجودًا" كموضوع للتفكير، صار شيئًا يمكن الإشارة إليه. C1 بمجرد الإشارة إليه فهو لم يعد عدمًا بل صار موجودًا كفكرة. P3 الانتقال من (∅) إلى أي وجود (W) يفترض قانونًا أو قوة. C2 بما أن (∅) بلا خصائص، فهو لا يقدر على إنتاج شيء. إذا العدم المطلق ليس سابقا للوجود، لأنه – بحكم طبيعته – عاجز عن توليده، كما أن الوجود لا يمكن أن يكون سابقًا للعدم، لان افتراض العدم المطلق ذاته أمر مستحيل منطقًا. وبذلك يتضح أن العلاقة بين الوجود والعدم ليست علاقة سببية خطية، بل علاقة جدلية دائرية: كل واحد منهما يكتسب معناه من الآخر. وقد عبّر هيغل عن هذه الحقيقة حين قال إن الوجود الخالص = العدم الخالص. فهو يبدأ من أبسط فكرة يمكن للعقل أن يتصورها عن الوجود: الوجود الخالص (Sein)، أي محض حضور صرف، مجرد "هناك"، لا يَتّصف بصفة، ولا يتحدد بحدّ، ولا يُقال عنه أبيض أو أسود، صلب أو سائل، جميل أو قبيح؛ إنه محض كونٍ خالٍ من أي محتوى. مقابله نجد العدم الخالص (Nichts)، هو "اللاوجود" التام، الغياب الكامل المطلق لكل حضور أو تعيّن. وكلاهما في جوهره، فراغ محض، لا يمكن أن يُقال عنهما شيء سوى أنهما هما. غير أن الجدلية تنشأ حين يتأمل الفكر في هذين القطبين: فإذا كان الوجود فارغًا من كل مضمون، فإن التفكير فيه ينقلب بنا إلى العدم، وإذا كان العدم هو الغياب المطلق، فإن مجرد تصورنا له يفرض علينا الاعتراف بوجوده كفكرة. وهنا تظهر المفارقة: كلاهما فارغ من التعيين، وكلاهما متساويان في درجة التجريد. فالوجود بلا مضمون لا يختلف عن العدم، والعدم لا يمكن التفكير فيه إلا بوصفه "موجودًا" كفكرة. ومن هنا، فالوجود والعدم ليسا ضدين منفصلين، بل هما متساويان في التجريد، يذوب أحدهما في الآخر. لكن هذا التساوي لا يعني سكونًا، بل يولّد حركة: إلى الصيرورة (Werden)، أي التحول المستمر من الوجود إلى العدم، ومن العدم إلى الوجود. فالواقع الحي ليس وجودًا صرفًا ولا عدمًا صرفًا، بل هو جدلية الصيرورة التي تنبثق من تفاعلهما. ومع اتساع النظر في جدلية الوجود والعدم، يتبيّن أن القول بسبق العدم المطلق على الوجود محال، لأن العدم لا قدرة له على الإيجاد، كما أن القول بسبق الوجود على العدم يظل بلا برهان. وهنا ينهض أمام الفكر مستوى ثالث يتجاوز هذه الثنائية، هو الإمكان: (Ψ) ليس وجودًا متعيّنًا (W) ولا عدمًا مطلقًا (∅)، بل هو الحقل الأصلي الذي تنبثق منه جدلية الوجود والعدم معًا. إنه حالة اللا-تعيين التي تحتضن في طيّاتها إمكانية الظهور كما تحتضن إمكانية الغياب. إنه المهاد الذي يمد الصيرورة بديمومتها ويغذي الحركة بلا انقطاع. غير أن ما ندعوه "وجودًا حاضرًا" ليس سوى انبثاق جزئي من هذا الحقل؛ ومضة خاطفة تتشكل داخل "الآن"، ثم تنزلق سريعًا إلى الإمكان الماضي فيما يتقدم الإمكان المستقبلي ليتحوّل هو نفسه إلى حاضر منظور. فاللحظة التي نسمّيها "الآن" ليست إطارًا ثابتًا يحتوي الأحداث، بل نقطة تماس ديناميكية تتحرك عبرها طاقات الإمكان: ما ينقضي يصير إمكانًا مضى، وما يتقدّم يصير إمكانًا آتٍ، وما بينهما لا يبقى إلا لحظة متدفقة من التحقق. الوجود إذا ليس جوهرًا ساكنًا يمكن القبض عليه، بل حركة الإمكان داخل اللحظة نفسها، كالشريط الذي لا يظهر منه للمشاهِد سوى موضع الإبرة في جهاز القراءة، بينما يظل باقي الشريط ماضياً أو مستقبلاً كامناً في الإمكان كأفق أرحب، يحتوي الماضي والحاضر والمستقبل لا كأزمنة منفصلة، بل كطاقات متدفقة مفتوحة على التحقّق والانقضاء. هكذا، يصبح "الآن" مثل إبرة القراءة التي تتحرك فوق شريط لا نهائي: لا ترى العين إلا موضعها الآني، بينما يبقى ما سبق مطويًا في الإمكان الماضي، وما سيأتي محتجبًا في الإمكان المستقبلي. إننا لا نعيش "الوجود" بوصفه جوهرًا ساكنًا، بل بوصفه حركة الإمكان داخل اللحظة، حركة لا تقبل الثبات، لأن كل محاولة لتثبيتها تحوّلها إلى ماضٍ، وتفتح في المقابل بابًا لإمكان آخر كي ينفذ إلى الحاضر. وبهذا يمكن القول إن الإمكان ليس مجرد إطار محايد كخلفية للوجود، بل هو نفسه فاعلية أصيلة، الإيقاع الخفي الذي يمد اللحظات بتواليها، والفراغ الديناميكي الذي تتولد منه الصور والأحداث، والنهر الذي لا ينفك يغمرنا بمياهه دون أن نتمكن يومًا من الإمساك بقطرة واحدة منه. إنه ليس وجودًا متعيّنًا، وليس عدمًا مطلقًا، بل هو الحقل الذي يسبق التحقّق والغياب معًا: حالة الاحتمال الأصلية التي تتيح إمكان ظهور الوجود. إنه "القوة قبل الفعل" كما عند أرسطو، وهو "الفراغ الكمومي" الذي تخرج منه الاهتزازات الأولية كما تقرأه الفيزياء الحديثة، وهو ما وصفه المتصوفة بحالة "اللا-تعين" التي تحتضن كل الصور قبل انبثاقها. لكن ينبغي أن ننتبه هنا: حين نقول "إمكان ماضٍ" و"إمكان مستقبلي"، فإنما نلجأ إلى مجازٍ يبسّط الفهم، لا إلى حقيقة في ذاتها. ذلك أن الإمكان (Ψ) لا يعرف ماضيًا ولا مستقبلًا، لأنه سابق على الزمن نفسه. الزمن ليس إطارًا يحتوي الإمكان، بل هو انبثاقٌ متدرّج من حركة الفعلنة داخل الإمكان. فالماضي والمستقبل ليسا سوى طريقتين بشريتين في تسمية ما تحقق بالفعل وما لم يتحقق بعد، بينما الجوهر واحد لا يتجزأ: إمكان محض. ولتوضيح هذا، تخيّل نفسك فوتونًا. الفوتون لا يختبر مرور الزمن؛ بالنسبة له، لحظة انبثاقه من الثقب الأبيض هي عينها لحظة امتصاصه في الثقب الأسود. نحن من نتصوّر بينهما مسافة وزمنًا، لكن من منظور الفوتون ذاته لا وجود للفاصل؛ إنهما حدث واحد. ومن هنا يمكن القول إن حالتي التفرد — الثقب الأبيض والثقب الأسود — هما في الحقيقة وجهان للحظة مطلقة واحدة، لا يفصل بينهما زمن، بل زاوية النظر وحدها هي ما يوهمنا بالاختلاف. نحن، بوعينا البشري البطيء، لا ندرك هذه الوحدة اللحظية، بل نعيش أثرها التراكمي، كأننا نرى حركة متواصلة متقطعة عبر الزمن. ما نسميه "رحلة" أو "صيرورة" ليس سوى انعكاس للتقلب الأصلي بين التحقق والعودة إلى التفرد، حين يتوزّع على إيقاع بطيء يناسب وعينا. فالوجود الذي نختبره ليس جوهرًا ساكنًا، بل هو ظل الحركة المطلقة للإمكان، وقد تجلّت أمامنا في هيئة تسلسل زمني. هكذا يتبيّن أن الإمكان ليس مجرد خلفية محايدة للوجود، بل هو ذاته الحدث الكلي: الحاضر المطلق الذي يتقلب في ذاته بلا بداية ولا نهاية، بلا قبل ولا بعد، بلا ماضٍ ولا مستقبل. الماضي والمستقبل هما إسقاطان إدراكيان على هذا الحقل الكلي، مثلما تكون الألوان إسقاطًا بصريًا على الطيف الكهرومغناطيسي. فالإمكان هو الأصل، والزمن أثر جانبي من آلية قراءتنا لفيضه المستمر. إن الفيض بين الوجود والعدم ليس حدثًا طارئًا، بل إيقاع أزلي يتقلب في ذاته بلا انقطاع. فالإمكان لا يحتاج إلى ما يغذّيه من خارج، لأنه هو عين التغذية وهو عين الفيض؛ إنه النبع الذي لا ينضب لأنه لا يفيض إلا من ذاته وفي ذاته. ومن هنا، فالماضي لا ينقضي في انتظار مستقبل يأتي، ولا المستقبل يقف بعيدًا في أفق لم يبلغ بعد، بل كلاهما انطواءان للآن نفسه، انحناءتان لحركة واحدة متصلة. فالمستقبل الذي نظنه متوارٍ في ثقب أسود، ليس إلا هو نفسه الماضي المنبجس من ثقب أبيض؛ كلاهما يتحدان في نقطة التفرد، حيث تنمحي الحدود بين الانبثاق والانطواء، بين البدء والانتهاء. ما نسميه "الرحلة" ليس سوى تكرارٍ لهذا التقلب الأزلي: انبثاقٌ يعود إلى ذاته، وعودةٌ تتفجر من ذاتها. أما "الآن" الذي نحياه، فليس لحظة ثابتة، بل اتساع دائم لذلك الأفق المتقلب. كل ومضة تتحقق تفتح المجال لأخرى، وكلما تكاثرت الومضات، اتسع النسيج الذي نسميه "الحاضر". إننا لا نضيف لحظات إلى الزمن، بل نوسّع أفق "الآن" الذي يتغذى من إمكانه الأبدي. هكذا يصبح الوجود كله أشبه بنبض سرمدي، لا يضيع منه الماضي ولا ينتظر المستقبل، بل كلاهما قائم في ذات اللحظة، في تفرد واحد يتقلب بلا نهاية. إننا لا نحيا "الآن" كموضع عابر في خط زمني، بل كحركة دائمة تُعيد رسم ذاتها في كل ومضة، لتجعل الحاضر دائم الاتساع، مفتوحًا على لانهائية الإمكان. الوجود ليس جوهرًا جامدًا، بل هو وعي يتنامى من ذاته، يراكم في كل ومضة أثره، ويستمر في الاتساع كفضاء حيّ من الإمكان. إن الإمكان لا يمدّ الوجود بالمادة فقط، بل يمدّه بالقدرة على تجاوز ذاته باستمرار؛ فكل تحقق يولّد ذاكرة، وكل ذاكرة تفتح أفقًا جديدًا، وبذلك يتحوّل الوعي إلى حركة تراكمية لا نهائية. فالوعي ليس مجرد انعكاس لحظة عابرة، بل هو النسيج الذي تنسج فيه اللحظات ذاتها: نسيج يتسع مع كل خفقة، كأن الإمكان يصغي إلى نفسه، ويعيد تموضع حضوره في صور أعمق وأغنى. وكلما اتسعت دائرة الحضور، اتسع "الآن"، وتحوّل من لحظة ضيقة إلى مجال لا نهائي من التجلي. هكذا يغدو الوجود وعيًا يراكم ذاته في لا نهائية الإمكان: نهرًا لا يكرّر مياهه، لكنه في كل لحظة يفيض على ضفاف أوسع. والوعي في جوهره ليس كائنًا مكتملًا، بل صيرورة تُوسّع إمكانها بلا انقطاع، حركة منفتحة على لانهائية من جميع الجهات، تستمد دوامها من سرّ الإمكان الذي لا يفنى ولا يتناهى.
#احمد_شاكر (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مفهوم الخطأ والصواب
المزيد.....
-
حمد بن جاسم: يجب على إسرائيل أن تتحمّل جزءًا كبيرًا من إعادة
...
-
-صديق خاص- و-معنا بروحه-.. تفاعل مع ما قاله ترامب عن ولي الع
...
-
حكايات 4 محررين من ذوي الأحكام المؤبدة أُبعدوا إلى غزة
-
%40 منهم أطفال ونساء.. قصص مؤلمة عن ضحايا ألغام حرب اليمن
-
السر في مطبخك.. 6 أطعمة تمنح عظامك قوة الشباب
-
إثيوبيا ترد على تصريحات السيسي بشأن سد النهضة
-
130 قتيلا ومفقودا جراء الأمطار الغزيرة والفيضانات في المكسيك
...
-
اقتحامات للاحتلال في نابلس وطوباس
-
ترامب: أردوغان يمكن أن يسهم في حل الأزمة بين روسيا وأوكرانيا
...
-
قطر: الخطوات القادمة بشأن تنفيذ -اتفاق غزة- ستكون -صعبة-
المزيد.....
-
الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي
...
/ فارس كمال نظمي
-
الآثار العامة للبطالة
/ حيدر جواد السهلاني
-
سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي
/ محمود محمد رياض عبدالعال
-
-تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو
...
/ ياسين احمادون وفاطمة البكاري
-
المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة
/ حسنين آل دايخ
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
المزيد.....
|