أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - عامر الدرويش - إصلاح التعليم يبدأ من لغتك الأم















المزيد.....

إصلاح التعليم يبدأ من لغتك الأم


عامر الدرويش

الحوار المتمدن-العدد: 8494 - 2025 / 10 / 13 - 10:22
المحور: قضايا ثقافية
    


إصلاح التعليم يبدأ من لغتك الأم.

لا يمكن الحديث عن إصلاح التعليم في المغرب دون الوقوف عند المسألة الجوهرية التي تمسّ عمق العملية التعليمية: لغة التدريس. فالمغرب بلد متعدد اللغات، يعيش فيه المواطن بلغاته الأم اليومية، الأمازيغية و الدارجة المغربية، بينما تُفرض عليه في المدرسة لغة أخرى غريبة عن تداوله اليومي: العربية الفصحى.

منذ عقود، وخوفا من فقدان احتكار المعرفة والثروة، قرر الوزير العراقي الفاسي، أن يقضي تلاميذ المغرب، بخلاف أبناءه وأبناء العائلات الفاسية المفرنسة، أن يقضي تلاميذ المغرب عشرات الآلاف من الساعات لتعلم العربية الفصحى، لغة ليست هي اللغة الأم للأطفال المغاربة. ورغم هذا الجهد الضخم، تأتي التقييمات الوطنية والدولية لتكشف أن أكثر من ثمانين في المئة من تلاميذ البكالوريا لا يتقنون لغة التدريس الأساسية. بل أن الأغلبية الساحقة من خريجي التخصصات الجامعية المعربة يتلعتمون عند الحديث بها. فهل الخلل في التلميذ؟ أم في المنهاج؟ أم في المدرّس؟ أم في الاختيار اللغوي ذاته؟

الجواب واضح لكل من يقرأ التجارب التربوية العالمية: لغة التدريس ليست تفصيلاً، بل هي جوهر العدالة التعليمية وجودتها. فكل الدراسات التربوية تؤكد أن التعليم الناجع يبدأ باللغة الأم، لأنها الأداة الأولى للفهم، ولأنها تخلق علاقة طبيعية بين الطفل والمعرفة. التعليم بلغة لا يتكلمها المتعلم في بيته ولا يسمعها في الشارع يزرع فيه شعورًا عميقًا بالاغتراب، ويحوّل المدرسة إلى فضاء غريب، منفصل عن حياته اليومية.

ولفهم أهمية لغة التدريس، لابد أن نوضح أن أي نظام تربوي في العالم، كيفما كان، يقوم في جوهره على عملية مركزية تُسمّى الديداكتيك، وهي الأساس في بناء التعلمات. فالتدريس ليس نقلًا آليًا للمعارف، بل خطوات تواصلية منهجية ومعقدة يتم فيها تبسيط المفاهيم المتخصصة لتصبح في متناول المتعلم. بلغة التواصل، نحن أمام مرسل ومرسل إليه ورسالة. فإذا كانت قناة التواصل، أي لغة التدريس غير مناسبة أو مشوشة، فإن الرسالة ببساطة لن تصل. والنظام التعليمي المغربي، في واقعه اليومي، ليس إلا ملايير من هذه العمليات التي تتكرر يوميًا داخل الأقسام. وعندما تكون لغة التواصل غير مفهومة للمتعلم، فإن النتيجة الطبيعية هي الفشل الجماعي في الفهم والتواصل. فكيف ننتظر من تلميذ لا يفهم لغة الدرس أن يستوعب فحواه أو حتى أن يناقش استاذه بها. وهذا ما يجعل المدرسة فضاءً طاردًا لا جاذبًا.

من هنا نفهم الظواهر المقلقة التي تعيشها مدارسنا: النفور، الغياب، والفشل الدراسي والهدر المدرسي وما يستتبعها من ظواهر تهركاويت والانحراف والادمان والعنف والبطالة. عندما يشعر التلميذ أن لغة المدرسة ليست لغته، يصبح التعليم بالنسبة إليه عبئًا لا رغبة. وهذا ما يفسر معدلات الهدر المدرسي العالية والكبيرة في مدارسنا وبالأخص في المناطق الأمازيغية، بل حتى في بعض مدارس مدينة سلا الدارجة مثلا، تصل نسب الغياب إلى أكثر من ستين في المئة بين التلاميذ في سن المراهقة في الكثير من الأحيان. هؤلاء التلاميذ أنفسهم، عندما خرجوا إلى الشوارع في احتجاجات غاضبة مطالبين بـ«تعليم جيد»، كانوا في الواقع يحتجون على مدرسة لا تشبههم ولا تفهمهم.

لكن المشكلة لا تقف هنا. فحتى اللغة العربية نفسها التي يقضي فيها التلميذ المغربي سنوات طويلة لتعلم معجمها وتراكيبها وقواعدها وعصرها الجاهلي، أصبحت عبئًا معرفيًا لا طائل تحته تماما كما خطط لها أن تكون. فالجهد الذهني الهائل الذي يُطلب من المتعلم لإتقان لغة أدبية كالعربية كبير ومستنزف، في غياب بيئة اجتماعية تتحدث بها، وهو جهد لا يتناسب بتاتا مع العائد المهني أو المعرفي الذي قد يجنيه لاحقًا إن نجح في إتقانها. فلا أفق مهني حقيقي يفتح بإتقان العربية سوى التدريس أو الوظائف الإدارية المحدودة، بينما سوق الشغل في المغرب وحتى في الدول العربية الخليجية نفسها لم يعد عربيّ اللسان، بل إنجليزيًا أو فرنسيا في مجالات الطب، والهندسة، والتقنيات، والبحث العلمي.

إنها استثمارات لغوية خاسرة وفاشلة: آلاف الساعات من الجهد المدرسي الفردي، وعشرات ملايير الدراهم من ميزانية الدولة، تُصرف على تعليم لغة لا تُستخدم في الاقتصاد ولا في الجامعة ولا في المهن العليا والصناعة ولا حتى في مراكز التكوين المهني. في الوقت الذي يعاني فيه المغرب من خصاص كبير في قطاع الطب والعلوم والتقنيات، يدرّس التلاميذ علوم الطبيعة والحياة بالعربية، بينما كليات الطب ومهن الصحة لا تقبل إلا المفرنسين. هكذا لا نكون فقط أغلقنا الباب أمام جيل كامل من أبناء البوادي والمدارس العمومية، لأنهم لم يتعلموا بلغة السوق ولا بلغة الجامعة. بل وأيضا حكمنا على قطاع الصحة في بلادنا بالعجز وضعف الموارد البشرية لأجيال وسنوات.

ولعل التاريخ يقدم لنا درسًا بالغ الأهمية في هذا السياق: نهضة أوروبا الحديثة لم تبدأ إلا عندما تخلّت عن اللاتينية كلغة للنخبة، واعتمدت لغاتها المحلية كلغات معرفة وإدارة. فالفرنسيون عندما كتبوا بالفرنسية، والإيطاليون بالإيطالية، والإسبان بالإسبانية، حرروا الفكر من احتكار اللغة القديمة التي كانت تفصل العامة عن العلم. لم يقل أحد حينها إن الفرنسية أو الإيطالية أو الإسبانية مجرد "لهجات دارجة"، بل الاعتراف بها كلغات تدريس وثقافة هو الذي أطلق شرارة النهضة. لقد كانت تلك اللحظة تحولًا لغويًا قاد إلى نهضة فكرية وعلمية، لأنه حين يفكر الإنسان بلغته يفكر بواقعية وحرية وابداع. دعنا من فرنسا واسيانيا، مثال حي ومعاصر عن أهمية اللغة الأم في النهوض بالدولة، مالطا، الدولة التي تتحدث دارجة أقرب إلى الدارجة المغاربية، تبنت لغتها الدارجة ورسمتها في دستورها واعتمدتها لغة تدريس بحروف عالمية قبل عقود، ها هي الآن تأخذ لها مقعدا بين الدول المتقدمة متفوقة على أغنى الدول العربية النفطية.

إصلاح التعليم في المغرب لا يمكن أن يبدأ من تغيير المناهج أو إدخال التكنولوجيا فقط أو تغيير فلان بعلان، بل من تحرير التلميذ من هذا الاغتراب اللغوي المفروض عليه والجاثم على صدورنا أجمعين. يجب الاعتراف بالواقع اللغوي المغربي كما هو: أمازيغية حية، ودارجة مغاربية غنية، ولغات أجنبية عالمية علمية وعالمة ابتداء من سنوات الابتدائي الأولى بالتدريج سواء كان فرنسية أو انجليزية أو اسبانية، وفق الوصفة العالمية الناجحة لغة أم+ لغة عالمة معاصرة.

اللغة الأم ليست عائقًا كما يُروَّج، بل هي جسر نحو العلم. فحين يأتي الطفل إلى المدرسة متسلحا باتقان لغة التدريس، لغته الأولى، يصبح أكثر قدرة على تعلم اللغات الأخرى وعلى فهم المفاهيم العلمية المعقدة. أما حين يُفرض عليه منذ السنوات الأولى أن يفكر بلغة لا يحلم بها ولا يعبّر بها، فإننا نغلق أمامه باب الفهم منذ البداية، بل كل الكارثة هي عندما نتبنى لغة أجنبية جاءت لتقول للتلميذ أن لغتك الأم خطأ يجب تجاوزه والقطيعة معه، في ضرب صارخ لنظريات التعلم الحديثة والتي تعتبر فعل بناء منهجي مستمر ومتواصل مع معارف المتعلم السابقة. .

إن إصلاح لغة التعليم في المغرب هو نفسه مدخل إصلاح قطاع الصحة وآفتي البطالة وتهركاويت والفساد أيضا، فلا يعشعش الفساد إلا حيث الأمية والجهل، و لن يتحقق هذا الإصلاح إلا عندما نضع الإنسان قبل الإيديولوجيا، ونجعل المدرسة امتدادًا للحياة لا قطيعة معها.

وفي الأخير، عندما يصرح وزير الصناعة، في بلد يعاني من عطالة خريجي الجامعات، أن قطاع السيارات لوحده بحاجة إلى خمسون ألف منصب شغل مؤهل، ويصرح وزير الصحة أننا بحاجة ماسة لأكثر من ثلاثين ألف طبيب... بينما نملك عشرات الآلاف من حملة الدوكتوراه المعربة والذين لا تملك الدولة أي منصب متاح لهم... فالأكيد أن نظامنا التعليمي بعيد كل البعد أن يكون في خدمة المجتمع وتقدمه، ما عدا إن كان هدفنا الوحيد منه هو تعريب الأخضر واليابس بأي ثمن في هذا الوطن الغني والمتنوع.






ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- من القادة الذين سيحضرون قمة شرم الشيخ في مصر ومن سيغيب؟
- -سيبقى شخصان وسيكونان الأفقر-.. ترامب يتحدث عن مبالغ هائلة ل ...
- حماس تُعلن أسماء أربعة رهائن موتى تعتزم تسليم جثثهم الاثنين ...
- ما هو الشكل الأنسب لقوة حفظ السلام في غزة، وقواعدها في الاشت ...
- نتنياهو من الكنيست: السنوات المقبلة سنوات السلام.. وترامب ل ...
- فرحة ممزوجة بالتوتر: استقبال حاشد للسجناء الفلسطينيين المُفر ...
- آلاف يتجمعون في مزار فاطمة للحج الأخير لهذا العام
- ترامب والسيسي يترأسان قمة من أجل -السلام- في غزة بشرم الشيخ ...
- ترامب يؤكد من الكنيست الإسرائيلي بزوغ -فجر تاريخي لشرق أوسط ...
- لوموند: قراءة مع يزيد صايغ في نقاط قوة وضعف خطة ترامب بشأن غ ...


المزيد.....

- المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين ... / أمين أحمد ثابت
- في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي / د. خالد زغريت
- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت
- الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان / د. خالد زغريت
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - عامر الدرويش - إصلاح التعليم يبدأ من لغتك الأم