أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رضا علي حسن - ألم الوعي في أعمال صنع الله إبراهيم















المزيد.....


ألم الوعي في أعمال صنع الله إبراهيم


رضا علي حسن

الحوار المتمدن-العدد: 8493 - 2025 / 10 / 12 - 19:18
المحور: الادب والفن
    


ربما تبدو الطريقة التي كتب بها صنع الله إبراهيم رواياته صعبة الفهم، خاصةً عند قراءة الصفحات الأولى من هذه الروايات، لكنها تسرقك فجأة من عالمك، وتجذبك إلى عالمه رغماً عنك. إنها تعيد برمجة عقلك بأفكاره الخاصة التي أراد توصيلها بحرفية قد تكون غير مفهومة في بادئ الأمر أحياناً، قاسية أو صادمة أو كئيبة أحياناً أخرى. هي طريقة يُسقط بها صنع الله الحدَّ الفاصل بينه وبين القارئ، ليجد القارئ نفسه بعد دقائق من القراءة منغمساً في عالمٍ خاص، عالمٍ مسيطرٍ ومتسلطٍ على عقل القارئ رغم قسوته أو كآبته. ولن يستطيع القارئ الفكاك منه، حتى إذا اتخذ قراره بالتوقف عن القراءة، ولا يملك القارئ إلا العودة من جديد ليقذف بنفسه في آتون صنع الله.

بدايات صادمة
يواجهك صنع الله إبراهيم في معظم بدايات رواياته بحالة مُقبِضَة للروح؛ فهو يصدمك في عمله الأول "تلك الرائحة" بإملاء الضابط على المتهم الذي أُفرِج عنه للتو من السجن، بعبارة من كلمتين فقط: "قال الضابط"، ويعقبها سؤاله: "ما هو عنوانك؟".
ويضللك بالجملة الأولى من روايته الطويلة "شرف"، عندما ينفي بها أن "الحذاء" مسؤول عن مصير "شرف" بطل الرواية، ثم يطلق في وجهك رائحة الكوتشي البالي التي لا تُطاق. ويوقعك في تلك الحالة المُربِكة، التي ينقلك إليها عمدًا، بجملة واحدة متناقضة وموحشة يبدأ بها رواية "وردة"، يقول فيها: "عندما أزمعت السفر، كفّت عن المجيء إلى أحلامي". ثم يؤكد هذا التناقض الذي يخلق الشعور بالوحشة، عندما يجول مع فتاة أحلامه كأنه في الجنة، وتقترب منه ليلامسها، وتصل نشوته إلى حدّ الفوران، ليستفيق من حلمه "مبللًا، متوهجًا، راضيًا. كل ذلك عبّر عنه في فقرة واحدة، بدأها بجملة متناقضة محيّرة، ثم ينقلك من جنة إغواء الحبيبة والشعور بالنشوة إلى استفاقة من الحلم بطريقة مخزية لرجل في الستين من عمره. ويصدمك أيضًا بكلمتين: "فتشوني مرتين"، في بداية رواية "بيروت بيروت"، ثم يبدأ في وصفه المُقيت لطريقة التفتيش قبل السماح بدخول الطائرة. ولا مفرّ من ذكر البداية الطبيعية لقصة "ذات"، عندما أخرجها إلى الدنيا في جملتين ملوّثتين بالدماء في بداية الرواية، ليصدم بهذه البداية قارئه الذليل، ويلقي عليه شعورًا مُقززًا يتملكه به، ليدفعه إلى العودة إلى القراءة ليُكمل اكتشاف الفكرة من وراء المشاعر الصادمة، ويتابع القراءة مُرغمًا، تحدوه رغبة عارمة للتخلص من الرواية بقراءتها سريعًا، والتحرر من سطوة الكاتب وسلطته المُقيتة. وكذلك لا مفرّ من وصف حالة السُكر والعبث في الفقرة الأولى من افتتاح روايته القصيرة "67"، التي يُفقدك صنع الله بها عقلك قبل أن تُكمل قراءة ما هو قادم وقاسٍ في السطور من مرارة الفشل والإحباط. وتتجلى حالة الإحباط في بداية "اللجنة"، بلغة سهلة ساخرة، يصف بها منظر الحارس العجوز في زيه الأصفر، كأنه يرفع راية الاستسلام، عندما كان البطل في طريقه لمقابلة اللجنة التي تأخرت كثيرًا عن الموعد الذي حددته اللجنة نفسها لانعقادها!
وفي رواية "أمريكاني"، يشغلنا صنع الله بإفراغ مخلفات وعاء القهوة في وعاء القمامة، بعد أن وضعه في الحوض، وتابع افتتاحية السرد بتفاصيل دقيقة متشككة، يصف بها إزالة فتات الخبز وتنظيف المطبخ، ثم إحكام أبواب الغرف وإغلاق الراديو، قبل أن يلقي بكيس القمامة في الصندوق المخصص له خارج المنزل. انشغل الراوي بالتركيز على سرد تفاصيل مملة عن جمع القمامة وإلقائها، وتفاصيل متشككة عن غلق الأبواب والنوافذ، ووصف الأقفال التي يُحكم بها غلق باب مسكنه، ثم وصف نظافة صندوق القمامة في الشارع. إلا أنه تغاضى عن التعبير عن إحساسه بجمال المنزل الذي وصفه باقتضاب، والشارع الجميل الذي تحفه الورود والأشجار بلا مارة أو سيارات، ونسمات المحيط التي حولت شهر أغسطس إلى ربيع. وقد صوّر هذه اللمحات الجميلة في عبارات قليلة مقتضبة، جاءت تائهة ومتناثرة بين سطور تُكثّف الملل وتوشي بالتشكك والنقمة، وكأن عينه لا تلتقط إلا عيوب الجسد، ولا تصف إلا طرق أكل الطعام المُقزّزة، ولا تشم أنفه إلا الروائح الكريهة المُنفّرة.
وفي رواية "الجليد"، يصدمنا صنع الله مجددًا بوصفه في السطور الأولى للقومندانة الروسية السمينة، المشرفة على غرف الطلاب، ذات الوجه المستدير المتجهم والشعر الرمادي، التي تكاد تسد الباب بجسدها البدين. ثم يجادلها الراوي ويخسر الجدال بجملة واحدة صدرت منها، كأنها قائد حرب منتصر ينهي الحرب بضربة قاضية. وبدأ روايته "برلين 69" بتذكير القارئ بتسلل الشباب المصري إلى أوروبا عبر البحر، الذي ابتلعهم في بداية التسعينيات من القرن الماضي، وفي بدايات هذا القرن. ثم يقارن هذا الوضع البائس للشباب الباحث عن العمل والحياة الكريمة خارج البلاد، بوضع الشباب سنة 69، رغم الآثار التي خلّفها وراءه العدوان الإسرائيلي في 67. وينقلنا صنع الله فجأة، بعد فقرة واحدة، إلى أجواء من التوتر والريبة والخوف من ضابط الجوازات، عند دخول "صادق الحلواني" إلى مطار "شونفيلد" في برلين الشرقية. وبلغت افتتاحيات روايته ذروتها الصاخبة والعنيفة في "العمامة والقبعة"، بمشهد مهيب للراوي الهارب من شدة الخوف تحت الشمس الملتهبة، وحرارة الجو الخانقة، وسط الغبار الكثيف، كأنه يوم القيامة، وهو يشق طريقه هاربًا وسط الجموع الغفيرة، خوفًا من اعتداء الفرنسيس بعد سماعهم بهزيمة "مراد بك"، واستعداد "عمر مكرم" نقيب الأشراف لملاقاتهم.
ويغرّرنا صنع الله ببداية رواية "نجمة أغسطس"، حتى نستثنيها من افتتاحياته الكئيبة القاسية، حيثُ تُصوّر بدايتها الواقعية الراوي وهو يضع حقيبته فوق الرفّ الخالي مثله كمثل الآخرين، لكن البداية لا تسلم من صنع الله، الذي يصوّر المشهد بعين الراوي المتجه بالقطار من القاهرة إلى السدّ العالي، مخلفًا وراءه المساكن الشعبية بلونها الأصفر الباهت التي تتراكم حولها القاذورات، ويتبعها العشش البائسة، حتى يُفاجئنا ببارقة أمل نادرة في أعماله، حيث الخُضرة الكاملة على جانبي القطار. ويُعاود الراوي – صنع الله – تسلّطه باختطاف عين القارئ من جديد، مع تصويره لعامل غرف النوم بالقطار كأنه حارسٌ صامتٌ بزيّه الأصفر، حيث لا يتفوّه الحارس بكلمة واحدة عندما دخل عليه قمرته دون استئذان، ليدلّه على مكان الغطاء. وما كان من الراوي إلا الانصياع له عندما قال: "حاضر يا فندم"، قبل أن يقوم وراءه ليغلق باب القمرة بسلسلةٍ حديدية. وهذه بداية واقعية لا تخلو من لغة صنع الله في تصوير البؤس والإحساس الداخلي بالخوف من القهر.
وفي رواية "التلصص"، تبدو البداية ناعمة، يُصوّر فيها الابنُ أباه وهو يتمهّل قبل الخروج من باب البيت، يُعدّل شاربه، ويُطفئ سيجارته، ثم يُزيح غبارها عن صدر معطفه الأسود الثقيل، والابتسامةُ على وجهه. لكن الطفل الراوي يُفاجئنا في جملتين قصيرتين ومتتاليتين، يُبدّد وقعهما على النفس في نهاية الفقرة الأولى من افتتاحية الرواية تلك الصورةَ الناعمة التي رسمها الطفل لأبيه، حيث قال باقتضاب: "يقبض على يدي اليسرى. نتلمّس طريقنا في ضوء الغروب". وهو يعني أباه الذي "يرسم ابتسامةً على شفتيه" بعد أن "يبسط أساريره ليُبدّد تجاعيد جبهته"، ليراه الناس على هذه الهيئة. وكأن الطفل يعي أن أباه يرسم ابتسامةً على وجهه، بينما يقبض على يده اليسرى، وكلاهما لا يرى طريقهما بوضوح في ضوء الغروب، في افتتاحيةٍ رمزيةٍ تُنبئ القارئ بأن العلاقة القادمة بينهما آفلةٌ لا محالة.
وفي يومياته التلغرافية في رواية "1970"، يلتقط القارئ تناقض الأخبار بسهولة من الصفحة الأولى، وهو تناقضٌ يُثير السخرية، ويُفجّر ألم الإحباط، لأنه يصف الداء المصري، وينكأ بأظافره الجرحَ القديم الذي يستنزف البلاد بطريقةٍ صريحةٍ كاشفةٍ ومخيبةٍ للآمال. يبدأ الرواية بقصاصاتٍ متتاليةٍ لأخبار أول يناير سنة "1970"، أخبارٍ مجرّدةٍ لا تفصلها خطوطٌ أو تعليقاتٌ للكاتب، لكنها مؤلمةٌ تُثير الوعي، وتنكأ الجرح: قتلى غاراتٍ إسرائيليةٍ على "إربد"، وإعلان القيادة الأمريكية عن خسائرها بالآلاف في فيتنام. ويعقب هذين الخبرين مباشرةً خبرٌ عن الراقصة المصرية "ناهد صبري"، التي لم تتمكن من الوفاء بتعهداتها بالرقص ليلة رأس السنة، لأنها أُصيبت في مشط قدمها اليسرى، وسيُجري لها الدكتور "يحيى الكاتب" غرزتين اليوم لتواصل الرقص بالاعتماد على قدمها اليمنى. ثم يأتي خبران آخران عن ضربات المقاومة الفلسطينية العنيفة في بداية العام، وخطرِ تجدد الأزمة بين السلطات اللبنانية والمقاومة الفلسطينية، ويلي ذلك مباشرةً خبرُ إعلان شركة أسطوانات صوت القاهرة عن أغنية "ليلى نظمي" الجديدة "ادلع يا عريس"، لتتراكم السخرية في الملهاة التي يحاول صنع الله أن يوقظ بها قراءه.
وفي "يوميات الواحات"، التي تُعدّ سيرته الذاتية في سجن الواحات لمدة عامين، من عام 62 إلى 64 من القرن الماضي، يُصرّح صنع الله بلا مواربةٍ أو خجلٍ بأن السجن هو جامعته، التي عايش فيه القهرَ والموت، حيث رأى فيه بعضَ الوجوه النادرة للإنسان. ويبدأ صنع الله في كتابة يومياته في سجن الواحات، بدايةً من 1 إبريل 1962، بالطريقة التلغرافية نفسها التي اتبعها في رواية "1970"، ليفضح بأسلوبٍ مقتضبٍ الحياةَ المؤلمة في السجن، ويُعرّي التناقضَ البشري في سردٍ لاهثٍ للأخبار والملاحظات اليومية، التي تبدو غيرَ مرتبة، وتفتقد للتورية والحسّ الأدبي. وهذه طريقةٌ مقصودةٌ متعمّدة، يُبيّن بها صنع الله مدى التوتر الذهني للمسجون، ويَرسُم بها تفاصيلَ حالته النفسية المتردّية، ومدى تشتّته الذهني الذي وصل إليه في السجن.
وهو يريد أن يقول للقارئ إنّ تسجيلَ حقيقةِ الأحداث، مهما كانت فجاجتها وقبحها، هو الطريقةُ الأبدى والأهمّ في تدوين القهر، وإثبات الألم، لإيقاظ الوعي.

الانتقال إلى وطأة الألم
ينقلك صنع الله فجأةً وبلا رحمة إلى أجوائه الباطنية، ليصف لك شعوره بالألم ووطأته الشديدة على نفسه. جاء هذا الانتقال بعد الافتتاحيات الصادمة والقاسية في معظم رواياته، تلك الافتتاحيات التي ابتلعت القارئ وألقته في آبارٍ من التيه. ومن نماذج هذا الانتقال وصفُه للواقع الفعلي في لحظة خروج البطل من السجن في "تلك الرائحة"، وهي لحظة يُفترض فيها السعادة، لكنه وصف شعوره بالألم النفسي والجسدي، وضيق المكان، وقذارته، وقيوده الكئيبة. وراح يُعمِّق وصف مشاعر ضيقه وعجزه، بوصف أنماط مشاعر المسجونين وإحساسهم بالعجز والضآلة من وراء قضبانٍ تتدنى بإنسانيتهم، وتُقيِّد أبسط رغباتهم البشرية، فتظن أنهم حيواناتٌ حبيسة الأقفاص، بل تشعر أنهم دون المرتبة الحيوانية.
وبعد افتتاحية الحذاء والكوتشي ذي الرائحة المقززة في رواية "شرف"، ينتقل صنع الله إلى تصوير حالة مؤلمة من الملل والضياع تتملك "شرف"، الشابَ العاطلَ عن العمل، ذلك الشابَ الذي انسحق مثل باقي شباب عصره بغلاء الأسعار بعد الانفتاح. وهو عاطلٌ بلا عملٍ رغم إجادته للغة الإنجليزية، يتسكع في الشوارع وهو ينفث بعينيه جوعه الجنسي، وقد ضاقت خيارات الترفيه والشراء لضيق ذات اليد، حتى قابل "جون" الأجنبي المثلي الذي دعاه إلى السينما ثم إلى شقته، فقتله "شرف" بعد ذلك لأن "جون" أراد أن يعتدي على شرفه. وأدت به هذه الجريمة إلى دخوله السجن، ومعه جميع من قرأ هذه الرواية الكئيبة، الذين صاروا بعد ساعة من القراءة شركاء حقيقيين لـ"شرف" في سجنه، وصاروا هم أيضًا ضحايا لصنع الله إبراهيم، تلطمهم بشدة آلام السجناء كلما أوغلوا في القراءة، من دقة وصف أجواء السجن وأحوال السجناء الضعفاء، وبراعة تصوير المهانة النفسية والجسدية التي يلاقونها من الحراس ومن أقوياء المساجين من عتاة المجرمين. وأجواء أخرى مقززة للقهر والاضطهاد تقطر وجعًا، لا يبرز منها إلا الشعور بالانسحاق والدونية، وموت إنسانية المسجون والسجان.
جاء الفصل الأول من رواية "وردة" مقتضبًا في فقرتين قصيرتين، دوَّن فيهما الراوي حلمه الصادم أثناء سفره من القاهرة إلى مسقط، لتبدأ الرواية الفعلية من الفصل الثاني عند وصوله إلى وجهته، واستقبال "فتحي" للراوي عندما أقله في سيارته إلى سكنه. ويبدأ الراوي المقارنة بين النظام والحسم والأمان والجمال في مسقط، ونقيضها في مصر، حيث يخبره صديقه "فتحي" بأن يضع حزام السيارة، وأن "المرور هنا صارم وليس كما في بلدكم"، فيجيبه الراوي – صنع الله –: "أردت أن أقول إنه لم يعد بلدنا، لكني لم أشأ أن أكون البادئ بنقاش عقيم." ويستأنف صنع الله استحضار مخزونه السلبي عن بلاده كلما رأى نقيضه الجميل، حتى يُنسي القارئ ذلك الجمال والانضباط والاتساق في البلاد التي ذهب إليها، ويجعله لا يعي إلا بالألم الناتج عن المقارنة بين عُمان الحديثة ومصر الضاربة في القدم والفساد، والندم على جمال بلاده الذي كان. وتنقلب تلك المقارنة لصالح بيروت أيضًا في روايته "بيروت بيروت"، رغم الخطورة البالغة في شوارعها وحالة القلق والاضطراب السائدة، حين صرّح صديق الراوي "وديع مسيحه" بأنه لا يرغب في العودة إلى مصر، مثله في ذلك مثل المصريين الذين يفدون إلى بيروت رغم خطورة الحياة فيها. ثم يتنقل بالقارئ، من خلال طريقته في السرد وتوثيق الأحداث، إلى الأوجاع المحلية في بيروت، والإقليمية في فلسطين والدول العربية، ثم يعود إلى ذكريات الألم الأول في السجن الذي خرج منه بعد العفو العام سنة 1964.
وتشتد وطأة الوعي بالألم الجسدي والنفسي في ذكريات "ذات" عند ختانها، ثم بلوغها وزواجها. وفي"67" تنفجر الحقيقة الوطنية المؤلمة في وجه جميع أبطال الرواية، عندما تيقنوا من الهزيمة بعد فرحة إعلان النصر الزائف. وتتجلى الحقيقة في النهاية الرمزية للرواية، عندما ودّع الراوي زوجة أخيه الخائنة بعد أن قضى معها ساعة حب محرم، حيث قالت له إنها تشعر بأنها لن تراه مرة أخرى، فقال لها إنها مخطئة، ويستمران في الخيانة – سبب الهزيمة – وتحمل آلامها المخزية.
وعلى هذا المنوال، يسلك صنع الله مسلكه المعتاد في افتتاحياته الصادمة والمقززة أحيانا في رواياته، لينتقل منها إلى تصوير آلامه النفسية، تارةً بالسرد المباشر للراوي في بعض رواياته، وتارةً أخرى بالسرد غير المباشر من خلال آلام أبطال رواياته وتكثيفها بتفاصيلها الدقيقة. وتعكس هذه التفاصيل الدقيقة المكثفة آلام الإحباط، والقهر، والتسلط، وانتهاك الكرامة الإنسانية، والعجز، والفشل الشخصي والعام، والنهم الجنسي، والضعف الجسدي، والمزاج المضطرب، والحاجة إلى المال، والخيانة، واللجوء إلى السُكر للنسيان أو لتلمُّس لحظة سعادة، والرغبة في التطهر الجسدي والنفسي من كل ما هو مقزز ومزري، والرغبة الواعية المُلحّة في الخلاص والتحرر من كل ذلك.
وتُشكّل تلك التفاصيل الدقيقة المكثفة لغته الروائية، بألفاظٍ وعباراتٍ وجملٍ تنبض بالآلام والأوجاع، وتكاد تكون مكررة في معظم رواياته، حتى أصبحت سِمةً دامغةً في أسلوبه السردي، كما في روايات "شرف"، و"تلك الرائحة"، و"وردة"، و"ذات"، و"67"، و"برلين 69"، و"الجليد"، أو في أسلوبه التوثيقي التلغرافي في روايات مثل "1970"، و"النيل مآسي"، و"يوميات الواحات". وقد جمع بين الأسلوبين في معظم رواياته، دون أن يؤثر ذلك التبادل بين السردي والتوثيقي في طريقته الطاغية لإبراز التفاصيل الدقيقة والمكثفة لأنواع الألم السابقة.
وتُشكّل أيضًا بداياته الصادمة، ثم انتقاله المفاجئ إلى وصف الحالة الشعورية البائسة التي تُكثّف آلامه، طرقاتِ مطرقةٍ سريعةٍ مباغتةٍ رغم ثقلها، لا تُنقِص سرعتُها من شدتها على رأس القارئ، ليفقد القارئ وعيه بذاته، ويُكمل القراءة رغم كآبة المحتوى، حتى يقع في النهاية أسيرًا لإرادة صنع الله، بل شريكًا له أحيانًا، مثل تحوّل القارئ، مع كثافة وصف أجواء السجن ووطأته وأحوال المسجونين القاسية، إلى شريكٍ معه في السجن، ليكره ما يكرهه، ويألف ما يألفه، ويكون في النهاية طَوْعَ إملاءاته القاسية وسطوته في الكتابة.
إن رغبة الراوي في جلد القارئ بتكثيف وصف الأجواء البائسة والمقززة، وتكثيف الملل الكريه للنفس البشرية، هي ذاتها رغبة صنع الله الذي تعمّد هذا التكثيف، لينقل القارئ معه إلى أجواء رواياته، فيشاركه الشعور بالألم. ليس هذا استجداءً للتعاطف مع الراوي، بل جلبًا لوعي القارئ واستنهاضًا لمشاعره التي أماتتها ألفة الحياة اليومية، والبعد عن الأجواء البائسة غير المألوفة، مثل سجن السلطة أو سجن النفس، حين يُقيَّد الإنسان بوهم الخوف وأغلال القهر والتسلط والعادات والتقاليد، وحين لا يشعر ببعض اللحظات التي يرى فيها جمالًا ظاهرًا ولا يستمتع به. إن هذا الجمال هو مكمنُ الألم، ذلك الجمالُ الحبيسُ في نفس صنع الله، الذي يتركه حبيسًا في داخله، حيث يستبدله أو يغطي عليه سريعًا بلغته التي تستدعي ذكريات الألم والقهر والتقزّز والفجاجة في معظم رواياته.

الجسد والمكان، والإنسان
تتشابك ثلاثة خيوط في روايات صنع الله، تتعقّد أحيانًا، وتنسحب أو يطول بعضها أحيانًا أخرى، ليصف بها الحالة الشعورية للإنسان، والجسد، والمكان. وتُشكّل هذه الخيوط الثلاثة أعمدته الرئيسية للسرد الروائي، في فوضويةٍ وتلقائيةٍ إنسانيةٍ يصوغ بها طريقته الروائية، ويمنح بها لنفسه حقّ النقد التفصيلي لكلّ ما لا يعجبه في الإنسان وجسده والمكان الذي يعيش فيه. ويخلق بصدماته المتتالية حالةً من الوعي يُصيب بها القارئ، وعيًا بالألم أراد أن ينقله إلى قرّائه بطريقةٍ حرفيةٍ طاغية، يُعرّي بها الإنسان المتجبّر، ويُعلن بها عن الإنسان الضحية المنكسر، حبيس جسده المُنتهَك أو المُنهَك بالألم، ومكان معيشته المُقيَّد بالسجن أو بسكنٍ كالسجن، أو ضلوعٍ إنسانيةٍ تنحبس فيها المشاعر الإنسانية الطبيعية.
ربما يصف الراوي – صنع الله – بعض الأماكن في رواياته بدقة، ويذكر جمالها واتساقها، خاصةً في رواياته التي تدور أحداثها خارج مصر، ليس بغرض وصف الجمال أو نقله إلى القارئ وإبهاره بنتاج المدنية والحضارة التي تقف وراءها، بل بغرض المقارنة، واستدعاء الفشل الإداري، والانتكاس الحضاري، لاستحضار الإحساس الوطني بالخيبة والحزن، والانكسار على الذي صار. وقد امتد هذا الأسلوب في المقارنة إلى انتقاد البشر الذين يعيشون في تلك الأماكن الجميلة، كأنه يقول إن الحضارة ليست في مظاهر أبنيتها، بل في النظام العادل، وأبنيتها النظيفة المُوظَّفة لخدمة الإنسان ورفاهيته. لقد انتقد روسيا وألمانيا الشرقية في روايتيه "الجليد" و"برلين 69"، رغم انتمائه اليساري، ليؤكد حقيقة توظيف المدنية اليسارية، بأماكنها الجميلة وشوارعها المتسقة المنظمة، في خدمة السلطة والتسلط. كما انتقد أيضًا مدنية الليبرالية الأمريكية في روايته "أمريكانا"، التي تتحدث عن مدينة سان فرانسيسكو، بأماكنها وشوارعها الجميلة المنظمة، لكنها مدينةٌ تخلو من الأمان وتمتلئ بالمجرمين.
ويغلب على طريقة صنع الله وصف "الجسد" ليسلب منه حركة "الجسم"، حيث تكررت صفات جسدية بعينها في معظم رواياته، مثل "البدانة"، وربطها بالسلوك الإنساني غير السوي، و"اكتناز المؤخرة"، وربطها بالرغبات الذكورية غير السوية، و"ترهل الجسد الأنثوي والذكوري"، ليسلب بها اتساق الجسم والسلوك، ويصف بها ترهل الروح. وقد صار الجسد مكانًا، كالأماكن غير النظيفة والمقززة التي برع في تصويرها، وأثرًا رمزيًا للقهر والسجن في معظم رواياته، ولا سيما في رواياته التي وصفت السجون، مثل "شرف"، و"تلك الرائحة"، و"يوميات الواحات"، ورمزًا للخيانة كما في "76"، أو للدونية كما في "ذات".
واستغل الراوي – صنع الله – الجسد في ثنائية تقابلية كاستغلاله للمكان: جسدٌ بلا روح، وجسدٌ منتهكٌ مُهانٌ في السجن، يقابله سلوكٌ منضبطٌ ومنسحبٌ حتى لا يتعرض صاحبه للأذى، وجسدٌ أنثويٌّ جميلٌ فاسدٌ أو خائن، أو أجسادٌ ذكوريةٌ تُستَهم برغباتٍ مِثلية. ويستوي الجسد عند صنع الله بالأماكن الجميلة التي تنعدم فيها روح السكينة أو الأمان أو الحرية. وهو يُوظّف الجسد في رواياته كما يُوظّف المكان؛ فكلاهما مصدران لقلق الإنسان ومشاعره المقيّدة، وهما أداتان للسجن، والقهر، وعنف التسلط، يُوظّفهما لإيقاظ الوعي بانكسار الإنسان المعاصر، وتكثيف وطأة شعوره بالألم.
أضعف صنع الله حبكات رواياته بتركيزه على ثلاثية الجسد والمكان والإنسان، التي خنقت خيوطُها العنكبوتية المتشابكة القارئَ المسكين، الذي سرعان ما استسلم لها، كما أضعفت هذه الثلاثية المتشابكة أدوارَ شخصياته في حبكاته الناعمة. وبدت حبكاته الروائية باهتةً مع الراوي – صنع الله – الطاغي بأسلوبه المتعمد، الذي يُكثّف به الألم ويكرره من خلال افتتاحياته الصادمة، ثم وصفه لألمه النفسي من خلال شعوره الذاتي الذي يُسقطه على شخصيات رواياته. لذلك ضعفت حبكاته الروائية عندما تعمّد إضعاف أدوار معظم شخصيات رواياته مقارنةً بشخصية الراوي الطاغي، كأنه استحضرهم ليُعبّر بهم عن شعوره بالألم والمعاناة، ثم يلفظهم، ويستبدلهم بغيرهم، أو يستغني عنهم. وظهر ذلك في تعدد الشخصيات العابرة في روايته دون أسماء، مثل الناس الذين يراهم في الشوارع، وفي المركبات والأماكن العامة، دون أن يكون لهم دور يُذكر، إلا إسقاط أفكاره التي تدور في رأسه لحظة رؤيتهم، ثم ينتقل إلى شخوصٍ غيرهم ليمارس بهم الدور نفسه.
واستبدل ذروةَ الحبكةِ المعتادةِ في فنِّ كتابةِ الرواية، بذرواتٍ متعددةٍ لا تُحصى، ذرواتٍ متسارعةٍ ولاهثةٍ، ليُصوِّر بها أنواعَ الألم ووطأتَه على النفسِ البشرية. وتبدأ الذروةُ الواحدةُ منها ربما بكلمةٍ وتنتهي بكلمةٍ، أو تبدأ بجملةٍ وتنتهي بجملةٍ أو فقرةٍ، ثم يُسارع بالذروةِ الثانيةِ والثالثةِ حتى نهايةِ الرواية. ويعقب معظمَ هذه الذرواتِ المتسارعةِ والمُنضغِطةِ لغويًّا تفكُّكٌ أو أفولٌ سريعٌ للصراعِ النفسيِّ للراوي، الذي لا يُريح القارئَ في نهايةِ الذروةِ الواحدة، ليبدأ منها ذروةً جديدةً أخرى. وظهر ذلك جليًّا في طريقته التلغرافية التي يُوثِّق بها الأحداثَ المتتابعة. وكلما يستفيق القارئ، يجد نفسه أمام ذروةٍ تاليةٍ تُرهق نفسَه وتُنهكها، والغرضُ من ذلك استنفارُ الوعي ومشاركتُه عن طريقِ تصويرِه لوطأةِ الألم، حتى يرى القارئُ الجانبَ المفقودَ من حياةِ الآخرِ المقهور، ذلك الجانبَ المخفيَّ من حياةِ الإنسانِ الرافضِ، الذي كان يتوق إلى الحريةِ والتغيير، هو الإنسانُ الشجاعُ بالفطرة، عاشقُ الحريةِ، الذي انكسر وتحطَّم تحت وطأةِ الألم، والذي أصبح في سجنِه منسيًّا حتى بعد خروجه منه، ولا يدرِي عنه بنو جنسِه من المستكينين في بيوتهم وفي نفوسهم شيئًا.






ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- رحيل نجمة ثلاثية «العرّاب»... الممثلة الأميركية ديان كيتون
- السليمانية تحتضن مهرجان السينما الدولي بنسخته الخامسة بمشارك ...
- هيام عباس تحصد -الهرم الذهبي-.. مهرجان القاهرة السينمائي يكش ...
- صورة من غزة.. نزوح بعد إخلاء
- نظرية الفوضى في الشعر العباسي.. مقاربة نصيّة في شعر أبي نواس ...
- من بينهم الفنّان خالد النبوي.. مهرجان -القاهرة السينمائي- ال ...
- شاركت في -العراب- وتألقـت في أفلام وودي آلن .. نجوم هوليوود ...
- -تانيت إكس آر-: منصة غير ربحية توثق التراث التونسي رقميا
- اكتشاف قلعة عسكرية على طريق حورس الحربي في شمال سيناء
- انطلاق الدورة السادسة لمهرجان بغداد الدولي للمسرح


المزيد.....

- شهريار / كمال التاغوتي
- مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا / حسين جداونه
- شهريار / كمال التاغوتي
- فرس تتعثر بظلال الغيوم / د. خالد زغريت
- سميحة أيوب وإشكالية التمثيل بين لعامية والفصحي / أبو الحسن سلام
- الرملة 4000 / رانية مرجية
- هبنّقة / كمال التاغوتي
- يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025 / السيد حافظ
- للجرح شكل الوتر / د. خالد زغريت
- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رضا علي حسن - ألم الوعي في أعمال صنع الله إبراهيم