عبدالله الفكي البشير
كاتب وباحث سوداني
(Abdalla Elfakki Elbashir)
الحوار المتمدن-العدد: 8486 - 2025 / 10 / 5 - 00:12
المحور:
قضايا ثقافية
تشرفت وسعدت بتلبية دعوة كريمة من إيزيدي المهجر، للمشاركة في مؤتمر دولي نظموه بعنوان: الإيزيديون من خلال الحوار على طريق إعادة التنظيم والمأسسة، برعاية مؤسسة آسيا سيل وجمعية الدفاع عن الشعوب المهددة، في مدينة هانوفر، ألمانيا، خلال الفترة (13- 14 سبتمبر 2025). تلخصت فكرة المؤتمر في مشروع اصلاح واقع المجتمع الإيزيدي عن طريق الحوار، وشارك فيه عدد كبير من المثقفين والمثقفات، والباحثين والباحثات من الإيزيديين والإيزيديات، فضلاً عن أصدقاء المجتمع الإيزيدي من دول مختلفة في العالم. وقد شرفتني اللجنة المنظمة بأن تكون مشاركتي بتقديم كلمة في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر، إلى جانب آخرين. جاءت كلمتي بعنوان: "البيئة الإنسانية الجديدة والحاجة لتكيُّف المجتمعات"، انطلاقاً من الفهم الإنساني للإسلام الذي طرحه المفكر السوداني الإنساني محمود محمد طه (1909- 1985)، والذي يمثل عندي مشروع بحثي مفتوح ومستمر، وقد نشرت في إطاره العديد من الكتب والمقالات والمحاضرات، ولا أزال.
نحو التفاهم عبر تعارف العقول وتصاهل الأفكار وبناء الشراكات
إن مبادرة الفكر الإيزيدي بتنظيم هذا المؤتمر بحضور آخرين من دول مختلفة، اتاحت الفرصة للتفاهم من خلال تعارف العقول وتصاهل الأفكار، فضلاً عن الشراكة في التأمل والتفاكر بين تجارب متنوعة، وأصوات متعددة. ومن جانبي، وفي إطار ذلك، كنت قد هدفتُ من كلمتي التي قدمتها في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر، إلى مخاطبة عدة أمور، هي:
أولاً: الاحتفاء بفكرة المؤتمر، كونها مبادرة خلاقة تخاطب جميع المجتمعات والأديان في ظل معطيات البيئة الإنسانية الجديدة التي يشهدها عالم اليوم، حيث حتمية السلام، التي تفرضها وحدة المصير المشترك للإنسانية جمعاء. كما تدعو المبادرة وتطالب بضرورة المواكبة، ومن ثم فهي مبادرة تسوق إلى الشراكة في الهم والواجب الإنساني. وقد أشرت لذلك في كلمتي، كما هي أدناه.
ثانياً: التعبير عن محبتي واحترامي للإيزيديات والإيزيديين، فبمحتهم نحب الله، كوننا نحب الله في خلائقه، وأكرم خلائق الله، الإنسان، من حيث هو إنسان بصرف النظر عن دينه وسانه ولونه وجنسه. ذلك انطلاقاً من الفهم الإنساني للإسلامي، إلى جانب الإعلان عن الرفض التام للفهم القديم للإسلام الذي يقدمه سجناء الماضي، وما أكثرهم. ويعود الرفض للفهم القديم للإسلام، وهو السائد اليوم، إلى أنه فهم متخلف، وغير مواكب، ومفارق للقيم الإنسانية. وبهذا يكون معيقاً لتحقيق التعايش، ومهدداً لبناء السلام المحلي والعالمي، كونه ينطوي على قانون الغابة، ويدعو لاستدعاء الماضي، الذي يقود إلى ديالكتيك المتناقضين (الماضي والحاضر) فيجري فيه العنف، وفي مختلف المجالات. ومن ذلك، العنف مع الآخر، حيث رفضه، بل الدعوة لقتله، كما هو حال الفهم لدى البعض، وكذلك عند بعض الجماعات الإسلامية، وقد تأذى الإيزيديون من ذلك كثيراً. بينما يدعو طه للحياة في سبيل الله، لا للموت في سبيل الله، وقد أشرت لذلك في كلمتي، كما هي أدناه.
ثالثاً: أسعى، وبمسؤوليتي الفردية، إلى الإسهام في حماية الأجيال الجديدة من الإيزيديين، والأجيال في مختلف الديانات والثقافات في الفضاء الإسلامي والإنساني، من خلال تقديم سردية جديدة عن الإيزيديين من داخل الإسلام، تُعبر عن روحه، وتلبي مقاصده، التي هي عند طه، مقاصد إنسانية، ويلخصها في: "حق الحياة وحق الحرية وما يتفرع منهما". وتقوم هذه السردية الجديدة، التي أسعى للإسهام في تأسيسها، على العلم والفكر والأخلاق والهُوية الإنسانية، كما يطرحها المفكر محمود محمد طه.
رابعاً: الشراكة في الواجب الإنساني بتوظيف الفكر الإنساني، حيث السلام والمحبة والجمال. ذلك لأن جمال الفكر الإنساني، كما يرى طه، يكمن في التعدد والاختلاف، وتكون متعته الحقيقية في تفاوت الإدراك، أما غايته فتكون في التسامح وسعة الأفق. ولهذا فإن هذا المؤتمر هو دعوة لتصاهل الأفكار، العابرة للجغرافيا والثقافات، والمخاطبة لقضايا الراهن المحلي والكوكبي، والفاحصة في الأفق الإنساني بمعاول الفكر الإنساني.
هيكل المؤتمر (البناء المعماري للمؤتمر)
تهيكل المؤتمر في سبع جلسات، إلى جانب مناقشة المنهاج والنظام الداخلي وإقرارهما، وانتخاب أعضاء الكونغرس الايزيدي في المهجر KED، فضلاً عن الكلمة الختامية والتوصيات والنتائج. تميز المؤتمر بالتوثيق، وبالبث الفوري لكل فعالياته ومداولاته، عبر قناة ديروك 74 (--dir--ok 74). اعتمد المؤتمر أربع لغات، هي: العربية، والكردية، والألمانية، والإنجليزية. وقد وشحني كل من الأستاذة أفين عزيز، كاتبة وباحثة في السوسيولوجيا، السويد، والأستاذ إبراهيم سمو، ألمانيا، باحتفاء خاص واهتمام دائم، حيث كانا يقومان بالترجمة لي من الكردية إلى العربية، فكنت بفضلهما مواكباً ومتابعاً لجزء من الحوار باللغة الكردية.
إستهل الجلسة الافتتاحية الدكتور خليل جندي رشو بتقديم كلمة المؤتمر، تلته السيدةMonica Plate ، رئيس بلدية هانوفر، عاصمة سكسونيا ، ثم جاءت كلمة السيد بودو راميلو Bodo Ramelow، نائب رئيس البرلمان الألماني، فكلمة السيدة ماريا مرسى Mariah Mercer القائم بأعمال نائب السفير المسؤول عن الحريات الدينية العالمية في مكتب الحريات الدينية العالمية في وزارة الخارجية الأمريكية. ثم قدم الدكتور عبد الله الفكي البشير كلمته، تلته السيدة الباحثة أفين عزيز، وهي كاتبة وباحثة من السويد. ثم جاءت كلمة الدكتور كمال سيدو، مستشار جمعية الدفاع عن الشعوب المهددة، ألمانيا، فالسيدة آنا نورونا، رئيسة منظمة دعم الطوارئ الإيزيدية.
كانت الجلسات الست، جلسات حوار وتفاكر حر، شارك في كل منها أربعة إلى خمسة مشاركين ومشاركات، إلى جانب مدير أو مديران للجلسة. تبدأ الجلسة بالحوار والتداول حول موضوعها بين المشاركين فيها، ومن ثم يفتح الباب للنقاش الحر للحضور في القاعة. جاءت الجلسة الأولى بعنوان: "الإيزيديون قبل وبعد الإبادة الجماعية"، وناقشت الجلسة الثانية: "المجتمع والإصلاح"، وتناولت الجلسة الثالثة: "وضع إيزيديي روج ئافا في الوطن والمهجر". وركزت الجلسة الرابعة على: "وضع الإيزيديين في تركيا وجمهوريات القوقاز"، بينما وقفت الجلسة الخامسة على: "تقييم الوضع في شنكال"، أما الجلسة السادسة فتناولت: "إيزيدية المهجر وتحديات العولمة". كما أُقيم على هامش المؤتمر معرضين، الأول للفنان الفوتوغرافي روستم اغاله، والثاني للتشكيلي الايزيدي قاسم الشرقي تحت عنوان "الأحذية المتروكة وحكايات باقية".
خرج المؤتمر ببيان نشره تحت عنوان: "البيان الختامي لمؤتمر الإيزيديين في المهجر: مؤتمر الحوار والتحدي"، وهو مبثوث على شبكة الإنترنت لمن يريد الاطلاع عليه. كما انتخب المؤتمر أعضاء الكونغرس الإيزيدي في المهجر KED ، المكوَّن من (53) عضواً أساسيين، إلى جانب الاحتياط لدورة مدتها عامين تبدأ من تاريخ انتهاء المؤتمر وتشكيل الكونغرس الايزيدي في المهجر. كذلك صاغ المؤتمر، وبعد النقاش والمداولات، (31) من التوصيات والنتائج والقرارات، وهي موجهة إلى المجتمع الإيزيدي بأكمله، وبصورة خاصة إلى أعضاء مجلس مؤتمر الإيزيديين في المهجر المنتخبين حديثاً، ليجعلوا منها برنامج عمل للسنوات القادمة. وتنفيذاً لما تم الاتفاق عليه في المؤتمر، عقد أعضاء الكونغرس الإيزيدي في المهجر KED، اجتماعهم الأول في مدينة هام Hamm بتاريخ 28 سبتمبر 2025، وتم اختيار الدكتور خليل جندي رشو، رئيساً لهيئة الرئاسة، الكونغرس الإيزيدي في المهجر KED، وستة أعضاء آخرين في هيئة الرئاسة، وذلك بالإجماع.
نص كلمة عبد الله الفكي البشير في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر
عنوان الكلمة: "البيئة الإنسانية الجديدة والحاجة لتكيُّف المجتمعات"
سعادة رئيس وأعضاء اللجنة المنظمة للمؤتمر
الحضور الكرام
يسعدني أن أكون بينكم اليوم في هذا البلد الذي يحكي، عبر عراقته وإسهاماته الفكرية الضخمة، قصة الحضارة الإنسانية. كما تشرفني معيتكم، ونحن نجتمع في هذه المدينة الملهمة، لنُجسّد القيم الإنسانية، والاحتفاء بالهُوية الإنسانية، والشراكة العلمية عبر الحوار وتبادل الآراء حول موضوع مؤتمرنا: الإيزيديون من خلال الحوار على طريق إعادة التنظيم والمأسسة. أسمحوا لي أولاً، وأنا أنطلق في رؤيتي وحديثي من مرجعية إسلامية، تقوم على الفهم الإنساني للإسلام كما طرحه المفكر السوداني محمود محمد طه، الذي أُعدم في 18 يناير 1985 إثر مؤامرة حيكت بتواطؤ تحالف ديني واسع في الفضاء الإسلامي، أسمحوا لي أن أعبر عن تحيتي ومحبتي للأخوات الإيزيديات حيثما كن، وللإخوان الإيزيديين حيثما كانوا. إن الإيزيديين، وهم من الأمم القديمة والعريقة، قد أسهموا إسهاماً أصيلاً في التراث الإنساني. وعلى الرغم مما تعرَّضوا له عبر التاريخ، وكان آخرها الفعل المأساوي والبشع من تنظيم داعش، إلا أنهم ظلوا متمسكين، بهويتهم ودينهم، يطرحون المبادرات الخلاقة، في إثراء التعددية الدينية، والعيش المشترك. كما قدموا نموذجاً إنسانياً فريداً في تحمل الأذى. والإيزيديون بكل هذا، إلى جانب كوننا جميعاً مظهر الله وصور لتجلياته في الأرض، فضلاً عن الأخوة في الأصول الإنسانية التي تجمعنا جميعاً، فهم عندي، موضع احترام ومحبة. كوننا، كما يقول طه: نحب الله في خلائقه، وأكرم خلائق الله الإنسان، من حيث هو إنسان. ولهذا فإن طه يدعو للحياة في سبيل الله والإنسانية، لا للموت في سبيل الله والإنسانية.
الحضور الكرام
نجتمع اليوم استجابة لمبادرة خلاقة قدمها الفكر الإيزيدي، ليس باعتبار الإيزيديين ضحايا، وإنما شركاء في بناء المستقبل، وفقاً للقيم الإنسانية، ومعطيات العصر. ولهذا فإن المبادرة بانعقاد هذا المؤتمر، وهو يخاطب حاجة المجتمع الإيزيدي لإعادة التنظيم والمأسسة، هي في واقع الأمر، مبادرة تحتاجها جميع المجتمعات والأديان في العالم. ذلك لأن البيئة الإنسانية الجديدة التي يعيشها عالم اليوم، حيث الحياة الرقمية وطوى المسافات، وإلغاء الزمان والمكان، أصبحت تُواجه الأديان والمجتمعات بتحدي حقيقي، وغير مسبوق. فما هو هذا التحدي؟ هو تحدي الحاجة للمواءمة والتكيُّف والمصالحة مع البيئة الجديدة. وما هي شروط الاستجابة لذلك التحدي؟ لقد كشفت البيئة الجديدة عن أهم تلك الشروط، وهي العلمية والعقلنة والفكرنة للتعاطي مع مختلف شؤون الحياة. وأول تلك الشؤون الحياتية، حماية المجتمعات عبر مأسستها وتنظيم علائقها، وتجديد تشريعاتها، كون التشريعات تُعبر عن نهضة المجتمعات. كذلك كشفت البيئة الإنسانية الجديدة عن وحدة الكوكب، ووحدة المصالح، ووحدة المصير المشترك للإنسانية جمعاء. ولهذا فقد أصبح تنظيم المجتمعات، بما في ذلك العلاقة بين الأفراد والمجتمع، وصياغة التشريعات يُبنى على القيم الإنسانية التي تصون حق الفرد، وحق الجماعة، وتلتقي في هذا جميع الأديان والفلسفات التي تدعو لإقامة السلام في النفوس وعلى الأرض.
الحضور الكرام
إن إعادة تنظيم المجتمع ومأسسته، محور مؤتمرنا هذا، لا تعني الانسلاخ عن الجذور، ولا تدعو لمفارقة الجوهر الفكري والثقافي والروحي، ولا تفيد بالتخلي عن ثوابت الدين، وإنما تعني الحاجة للتكيُّف مع الراهن، والمواكبة للتطور، وفقاً للعلم والعقل، كون التطور هو الأصل، وهو قانون الوجود. كذلك لا تتصل إعادة تنظيم المجتمع بتشريع العبادات، وإنما بتشريع المعاملات، كالتنظيم لحياة الفرد والمجتمع، وكالنظم الاقتصادية والاجتماعية، إلى آخر ما يرتبط بتحولات المجتمع، ومتطلبات الاستجابة للتطور. وفي تقديري، متى ما غابت الاستجابة للتطور في أي دين أو فكر أو مجتمع، فإن النتيجة الطبيعية هي المفارقة للمحتوى الإنساني، والسجن في الماضي والانبتات عن الراهن، الأمر الذي يقود إلى ديالكتيك المتناقضين. ومتى ما كان التناقض حاضراً في واقع المجتمعات تمكن الصراع والهوس والتطرف والعنف، ومن ثم غاب التسامح والسلام.
الحضور الكرام
إن إعادة تنظيم المجتمع ومأسسته، هي توق للتكيُّف مع الراهن، وحاجة للتحرر من سجن الماضي، كما هي دعوة لتوظيف التاريخ ليكون آلية من آليات إحداث التغيير. وفوق كل هذا، وكما ورد آنفاً، فإنها دعوة للتواؤم والتصالح مع البيئة من أجل السلام والمحافظة على الحياة. ولعل الدعوة للرجوع للبيئة، دعوة مركزية في الديانة الإيزيدية. كما هي مرتكز أساس في مشروع الفهم الإنساني للإسلام، يقول طه: "إن الإسلامَ يعني التعريف بحقيقة البيئة، والمصالحة والتواؤم معها، وإنه لا يمكن لأي حي أن يحتفظ بحياته، دع عنك حريته وسعادته، إذا كان هو في نزاع مع البيئة، نتيجة لجهلة بالبيئة".
وفي الختام آمل أن تكلل مداولاتنا في هذا المؤتمر بالنجاح، وبما يصب في طموحاتنا ويحقق الأهداف المرجوة.
وشكراً،،،
الدكتور عبدالله الفكي البشير
باحث في الفهم الإنساني للإسلام
#عبدالله_الفكي_البشير (هاشتاغ)
Abdalla_Elfakki_Elbashir#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟