إغناسيو غوتيريث دي تيران
الحوار المتمدن-العدد: 8476 - 2025 / 9 / 25 - 23:44
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
الدولة الفلسطينية ليست ضمانة حياة للفلسطينيين، ولا أماناً من ارتكاب إبادة بحقهم؛ لقد تحولت إلى آلية لصرف الأنظار عن الجوهر الحقيقي للمسألة.
شعرنا بقشعريرة باردة تسري في عروقنا ليلة 22 أيلول: وزيرة الدولة للشؤون الخارجية في المملكة المتحدة، إيفيت كوبر، تعلن أن بلادها تعترف رسمياً بدولة فلسطين في إطار "حل الدولتين". في عام 1947 كان ممثل بريطاني آخر قد دافع عن إقامة دولتين في أرض فلسطين التاريخية، وذلك ضمن لجنة أممية انتهت باقتراح القرار 181. تلك المبادرة، التي أدت إلى فرض دولة إسرائيل، شكّلت بداية إبادة الشعب الفلسطيني التي جرى تنفيذها بوتيرة ثابتة طوال 75 عاماً. حرب 1948، التي لم تكن إلا حملة توسع خططت لها الميليشيات الصهيونية تحت نظر بريطانيا نفسها والقوى العالمية حينها، أفضت إلى طرد 80% من سكان فلسطين التاريخية وإخضاع من تبقى منهم لنظام تمييز سياسي واجتماعي مستمر حتى اليوم. آلاف القرى الفلسطينية مُسحت من الخريطة وحُولت إلى متنزهات أو مراكز سياحية أو مستوطنات أُسكن فيها مستوطنون جُلبوا من أصقاع العالم، كثير منهم لم يكونوا يعرفون حتى أين تقع فلسطين ولا كانت لهم روابط راسخة بالمجتمع الديني "الأعلى" الذي زعموا الانتماء إليه.
إن حملة الإبادة في فلسطين عموماً وفي غزة خصوصاً لم تبدأ بعد اجتياح قوات تل أبيب في أواخر 2023. ما نشهده اليوم مباشرة ليس إلا نقلة نوعية في استراتيجية الطرد والاحتلال التي يمارسها المشروع الصهيوني منذ 1948. لقد انتقلنا إلى مرحلة جديدة تسعى لتصحيح "خطأ" 48، كما يسميه منظرو الاستعمار الصهيوني المعاصر، والمتمثل في ترك أعداد كبيرة من الفلسطينيين داخل الأراضي المغتصبة. آنذاك، كانوا بحاجة إلى نسبة منهم كيد عاملة رخيصة. أما اليوم، فلا يريدونهم لا في غزة ولا في الضفة. وسيأتي دور الفلسطينيين من حملة الجنسية الإسرائيلية (20% من السكان) لاحقاً حين يُحسم أمر الأراضي المحتلة. لقد دخلت الصهيونية مرحلتها الخاصة من "الحل النهائي": تفريغ الأرض من كل ما يمت بصلة إلى الهوية الفلسطينية، والانتقال نهائياً من مشروع استيطاني إلى دولة مكتملة تفرض هيمنتها في قلب الشرق الأوسط.
خطاب كوبر، الذي أكد إعلان رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر قبل يوم، ينذر بمستقبل أشد قتامة للفلسطينيين. الاعتراف بشيء غير موجود ولا أمل في وجوده، خاضع بالكامل لدولة عنصرية توسعية وعدوانية، عبث مطلق. ما يشبه نظام الحكم الوحيد القائم اليوم في الأراضي المحتلة هو السلطة الفلسطينية: جهاز فاسد، عاجز، تقوده نخبة انتهازية تقمع شعبها وتتعاون مع الاحتلال في اعتقال المقاومين. رئيسها محمود عباس ومسؤولوها والمستفيدون من الفتات الذي تمنحه تل أبيب لم يكن لهم أي دور يُذكر. حتى إدارة ترامب الغبية لم تكلف نفسها السماح لهم بدخول الولايات المتحدة لحضور جلسات نيويورك، رغم أن مقر الأمم المتحدة يفترض أن يبقى مفتوحاً لجميع الضيوف. صورة عباس وهو يكرر شكواه الفارغة عبر شاشة تلفزيون تختصر حقيقة هذه "الدولة" المزعومة: لا حكومة، لا اقتصاد، لا حدود آمنة، لا جيش، لا سيادة على الجو أو البحر... أي دولة هذه؟
في مؤتمر الأمم المتحدة حول "حل الدولتين"، لم يتحدث أحد تقريباً عن الإبادة أو عن ضرورة وقف الهمجية الصهيونية في غزة أو فرض عقوبات على قوة احتلال إجرامية. في خطاب الوزيرة البريطانية، كما في خطابات غربية أخرى، ذُكرت حماس أكثر من إسرائيل. "الهجوم الوحشي في 7 أكتوبر"، "الرؤية الكريهة لحماس"، "لا مستقبل لحماس"... عبارات صاخبة، لكن دون أي ذكر بالاسم لجرائم تل أبيب. وإذا كان هجوم حماس يوصف بالوحشية، فبأي وصف تُسمى الفظائع التي ترتكبها القوات الصهيونية في غزة منذ ما يقارب العامين؟ بالنسبة للدول الغربية التي رتبت هذا المؤتمر باحتفالية، مدعومة بأنظمة عربية خانعة أصبحت الدعامة الدولية الأساسية لإسرائيل إلى جانب ترامب وجوقته، فإن قصة "الدولتين" مجرد وسيلة جديدة لحماية الحليف في تل أبيب. الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون كرر الجملة المألوفة في واشنطن: "يجب إنقاذ إسرائيل من نفسها". الحفاظ عليها قائمة، تهذيب تطرفها وكبح "تجاوزاتها" (مثل ما يجري في غزة) كي لا ينهار المشروع الصهيوني كله. أما الدولة الفلسطينية فهي ليست ضماناً لحياة الفلسطينيين، ولا أماناً من الإبادة، بل وسيلة لتشتيت النظر عن المذبحة المستمرة في غزة والاحتلال المتواصل في الضفة.
في الأمم المتحدة تباهى أكثر من مندوب غربي بأن أكثر من 150 دولة اعترفت بفلسطين. وما الجدوى؟ إسرائيل تقتل بمعدل مئة فلسطيني يومياً، إضافة إلى الموت جوعاً ومرضاً، فيما وزراؤها يعلنون عن مستوطنات جديدة وطرد مزيد من الفلسطينيين. الدول العربية المتواطئة مع الرؤية الأميركية تقول إن الاعتراف بدولة فلسطين سيجلب السلام. لكن كيف، ما دام لا أحد يوقف المجازر؟
نحن نعترف بدولة لا وجود لها ولن يُسمح لها أن توجد، بينما نتجاهل حملة إبادة شرسة ضد شعب أعزل، يراها البعض "مذابح" أو "استخداماً مفرطاً للقوة"، كما اعتادت دبلوماسيتنا الأوروبية أن تقول. مطلقو فكرة "اليوم التالي" يتحدثون عن التخلص من حماس، إعادة إعمار غزة، صنع نظام فلسطيني هش وخاضع لإسرائيل، ثم استئناف العلاقات العربية ـ الإسرائيلية والمشاريع الاقتصادية الإقليمية بقيادة تل أبيب. وإذا لم يُطرد أهل غزة، فسيُحاصرون ويُكبّلون إلى الأبد.
لم يطالب أحد في الغرب رسمياً إسرائيل بمحاسبة على جرائم 1948 وما بعدها. طرد السكان الأصليين واستبدالهم بمهاجرين جُدد تحت غطاء "الحق الإلهي" مثال صارخ على استعمار استيطاني، لكن أوروبا صاغته كـ"نزاع بين شعبين وروايتين". العودة إلى الحديث عن "دولة فلسطينية" تعني مجدداً شرعنة المعتدي وتمهيد الطريق، ربما لكارثة جديدة بحق الشعب الفلسطيني، الضحية الكبرى في مسرحية يجتمع فيها الإجرام الصهيوني، نفاق القادة الغربيين، وتواطؤ الأنظمة العربية.
إغناسيو غوتيريث دي تيران أستاذ جامعي اسباني باحث ومترجم
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟