أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عادل بدر - الإيقاع مدخل منهجي لدراسة الشعر الحداثي















المزيد.....



الإيقاع مدخل منهجي لدراسة الشعر الحداثي


عادل بدر

الحوار المتمدن-العدد: 1827 - 2007 / 2 / 15 - 05:04
المحور: الادب والفن
    


مقدمة في فقه الإيقاع
شاعت في الفترة الأخيرة عدة مصطلحات تتصل بالبناء الموسيقي للغة الشعر كالإيقاع والعروض والموسيقى والوزن والتوزين ……… إلخ .
وبقدر ما نركز في دراستنا على أهمية المصطلح الأول ؛وهو هدفنا فإننا نوضح علاقته ببقية المصطلحات للالتباس والغموض في علاقة المصطلحات ،وإبرازاً للحقائق وتوضيحها ،وهذه المصطلحات ليست خارجة على الشعر تضاف إليه ،بل هي نابعة منه ،نفرضها أحاسيس الشاعر وأفكاره ،وتبرزها عاطفته ،فليس هناك تحكم في التزام نظماً موسيقية معينة ،تفرض على الشاعر ،بل هو حر في صياغة شعره ،على النحو الموسيقي المؤثر من قبل الشاعر ، فكل الموسيقى ظاهرة من مظاهر الجمال وليست هي الجمال .
فإذا ما تناولنا هذه المصطلحات فسوف تتضح الحقائق جلية فيرى الدكتور شكري عياد أن الوزن ليس إلا قسماً من الإيقاع ويعرف الوزن أو الإيقاع بأنه حركة منتظمة متساوية ومتشابهة ويرى أن الإيقاع يقوم على دعامتين : من الكم والنبر ،مهما اختلفت وظيفة كل منهما (1)
ولا يكتفي بذلك التردد الكمي فمن أجل أن يميز التفاعيل بعضها عن بعض لا بد من تلك الظاهرة الصوتية التي تتردد بين تفعيلة وأخرى ،وعلى ذلك فتعريف الوزن عنده يتضمن الإيقاع ، والمصطلحان لا يفهم أحدهما دون الآخر
ونظرية الدكتور مندور تبني على تفريقه بين (الوزن ) و ( الإيقاع ) فالوزن عنده هو : ( كم التفاعيل مجتمعة ) بغض النظر عن قياس كم كل مقطع ،أما الإيقاع فهو : ( تردد ظاهرة صوتية على مسافات زمنية محددة النسب ). (2)
فالدكتور مندور يعنى بالكم الوزن ، فلو وضعنا كلمة الكم مكان الوزن لكان ذلك داخلاً في تعريف مندور .
إن البحث الطبيعي كما يراه الدكتور شكري عياد هو بحث وصفي .. من شأنه أن يبين ما يتألف منه الإيقاع ،وليس من شأنه أن يفسر الإيقاع ،فهو إذن كالعروض التقليدي سواء بسواء ،إلا أنه يحاول كشف عناصر أخرى للإيقاع ،لم يشملها العروض التقليدي بوسائله الأقل دقة ، و أرى أن البحث الطبيعى فى الإيقاع من شأنه أن يفسر الإيقاع ـ كلما أمكن ـ فالإيقاع حصيلة عناصر متكاملة ،وليس عنصراً واحداً وإذا كان إحساسه هكذا ،فلم لا تقول إن هذه الحصيلة جماع الوزن ؛أي البحر ومن ثم يحسن أن نجعلهما تصوراً واحداً لظاهرة لها مكوناتها هي البيت أو السطر
فالإيقاع بمعنى أخر ظاهرة تقوم على التكرار المنتظم ويلعب الزمن فيها دوراً مهماً ، فهو اسم جنس و الوزن إقليم من أقاليمه .
ويرى الدكتور عز الدين إسماعيل : أن الإيقاع غير الوزن ،وكثيراً ما يتعرض الإيقاع والوزن ؛بحيث يضطر الوزن إلى كثير من التغييرات ،. والإيقاع هو حركة الأصوات الداخلية التي لا تعتمد على تقطيعات البحر أو التفاعيل العروضية ،وتوفير هذا العنصر أشق بكثير من توفير الوزن ،لأن الإيقاع يختلف باختلاف اللغة والألفاظ المستعملة ذاتها ،في حين لا يتأثر الوزن بالألفاظ الموضوعة فيه تقول " عين " وتقول مكانها "بئر " وأنت في أمن من عثرة الوزن . أما الإيقاع فهو التلوين الصوتي الصادر عن الألفاظ المستعملة ذاتها فهو أيضا يصدر عن الموضوع في حين يفرض الوزن على الموضوع . هذا من الداخل ، وهذا من الخارج . (4)
على أن أكثر الأبيات الشعرية امتلاءً بالمعنى وأكثرها حيويةه التي تتوازى فيها حركات الإيقاع الموحية والحركات العقلية ، و الإيقاع هو الذى يلون كل قصيدة بلون خاص ، فالأقرب لطبيعة الشعر أن يكون إيقاعياً لا وزنياً ، أما العروض فلا يفرق بين الفتح أو الضم أو الكسر .
و إذا كانت الموسيقى هى المعرفة الجماعية مثل العروض بزحافاته و علله و قوافيه ؛ فإن الإيقاع هو المعرفة الخاصة و العزف المنفرد ، أي إنه من قبيل الإبداع وبقدر ما يكون في للشاعر إيقاعه الخاص وصوته الفردي يكون إبداعه وأصالته .
و الإيقاع ينقسم إلى جزئين الأول :- " التناغم الشكلي " الذي يتضمن في رأيه إيقاع المفردات بالنظر إلى بنيتها المقطعية ، وتبيان التناغم الذي تحدثه الظواهر الصوتية في بعض مفرداته ،وإيقاع الجمل التي تقوم بنيتها على أساس التصدع ،وتقوم حركتها بتقديم تشكلات مقطعية ؛ وفاعلية نبر وفاعليات صوتية ودلالية . الثاني :- "التناغم الدلالي " الذي يضم إيقاع التواصل ؛ أي انسجام حركة الدلالات فيما بينها ؛مما يدفع إيقاعاً يحمل خصائص متشابهة ؛ مما يفيد ولادة حركات جديدة ،قد تحمل خصائص مغايرة " . (5)
فالإيقاع هو السبيل الذى يستند إليه الشاعر فى حركة المعنى ، و موسيقى الشعر ليست الوزن السليم ،وإنما الموسيقى الحقة هي موسيقى العواطف والخواطر ،تلك التي تتواءم مع موضوع الشعر ،و تتكيف معه .
و قد يكون الإيقاع "وحدة النغمة التي تتكرر على نحو ما في الكلام أو في البيت ،أي توالي الحركات والسكنات على نحو منتظم في فقرتين أو أكثر من فقر الكلام ، و الإيقاع في الشعر فتمثله التفعيلة في البحر العربي .. فحركة كل تفعيلة تمثل وحدة الإيقاع في البيت أما الوزن فهو مجموع التفعيلات التي يتألف منها البيت ،قد كان البيت هو الوحدة الموسيقية للقصيدة العربية " (6)
فالإيقاع وحده نغمية صغرى على هذا الأساس والوزن هو وحدة نغمية كبرى هي البيت وإذا كان الإيقاع تمثله التفعيلة والوزن جماع للتفعيلات أليس من الأولى أن نسمي الإيقاع عنده وزناً و العكس
والشعر عند غنيمي هلال ضرب من الموسيقى إلا أنه تزدوج نغماته بالدلالة اللغوية .
وهناك مصطلح آخر هو التوزين و هو مرادف للوزن ، فالشعر لا يقف عند حد التوزين بل ينطلق إلى ما يسمى ( الإيقاع ) و التوزين يقصد به " تعادل أجزاء الكلام والأصوات وتساوي مقاديرها الزمنية فيما إذا قوبل بالبعض الآخر جملة " . (7)
أما مصطلح النموذج العروضي فهو التتابع الرياضي المنتظم لـ ( التفعيلات ) فيما يسمى البحر الشعرى ، أما الشكل الموسيقي المتحقق فهو يختلف حسب الممارسة الإبداعية لكل شاعر ، و الفرق بين المصطلحين هو طريقة الإبداع الشعرى ؛ أى ليس هناك تطابق بين الشكل الموسيقى و النموذج العروضى .
إن وجود هذه الظاهرة تفرض علينا قراءة غير عروضية ،فالشكل العروضي يخفي تحت أشطره وأبياته شكلاً آخر تفرزه طبيعة التركيب اللغوي وأغلب الباحثين يتفقون على أن الخليل لم يدع حصر جميع إيقاعات الشعر العربي " فلم تكن الأوزان التي استنبطها الخليل بن أحمد وما وضعه لها من قواعد هي القول الفصل في أمر موسيقى الشعر لا في عهد الخليل وعهد تلاميذه ،ولا فيما سبقه من عهود أو ما لحقه منها .
إن العروض العربي ،ليس إلا نظرية في إيقاع الشعر العربي ،وإن كانت هي النظرية التي قدر لها السيادة لأسباب بعضها يتعلق بتكاملها المنهجي – على الأقل شكلياً – وبعضها يتعلق بالظروف التي عاش فيها هذا العروض والشعر العربي نفسه ،"أي في ظل مجتمع لم ينجح في أن يخرج خروجاً جذرياً عن إطار الظروف الاجتماعية والفكرية التي أنتجت العروض " . (8)
فليست القصيدة العربية القديمة مفككة كما قد تبدو، بل شغل العربي بموسيقاها واصبح ينفعل لكل بيت ، ويستجيب لوزنه وإيقاعه ، فالشاعر لشدة اعتزازه بموسيقاها قد أحل نفسه من وحدة المعنى فيها ، مكتفياً بوحدة الوزن والقافية (وهذا يدل على اهتمامه الموسيقي ) .
وإن تحديد الشعر بالوزن والقافية اخذ يضطرب " وقد نشأ ميل إلى التشكيك في أن يكون مجرد الوزن والقافية مقياس للتمييز بين الشعر والنثر . " (9)
غير أن هذا لا يعني رفض الوزن والقافية أو التخلي عنهما إنما يعني أنهما لا يمثلان وحدهما حصراً للشعرية ولا يستنفدانها وأن هناك عناصراً شعرية غيرهما ، و أصبحت المسالة شعراً أو لا شعراً .
وقد تنبه الفلاسفة المسلمون إلى دور الوزن الشعري ،فهو عندهم ليس الذي يميز جوهرياً بين الشعر والنثر ، " وحجتهم في ذلك ان هناك أقوالاً موزونة ولا تعد شعراً فليس للوزن نفس القيمة التي تتمتع بها المحاكاة ( التخييل ) " . (10)
وفاعلية التخييل لا تنفصل عن البنية الإيقاعية فلا قاعدية للوزن و شعرية النثر لا تجئ من الوزن والقافية بالضرورة ، وإنما تجئ من النظم ، ويعني النسق الذي تأخذه الكلمات . وهذا ما يطلق عليه طريقة الأداء .
وهناك ملاحظة أن القدامي في وضعهم لهذا النظام الصوتي ،قد خلطوا بين الوزن والموسيقى من ناحية ،وأكدوا ثبات النظام الموسيقي في صورته التي استخلصها الخليل أبن أحمد من ناحية أخرى ؛و بالتالى ابتعدت كلمات (الموسيقى – الإيقاع ) و ترددت كلمات ( الوزن – القافية ).
كما أن هناك ملاحظة أخرى و هى أن المحدثين قد اتخذوا من عيوب " علم العروض" وقصور مقاييسه عن الكشف عن أسرار الشعر الموسيقية ،عيوباً للنظام الموسيقي للشعر القديم نفسه ، في أقوال كثيرة ومتنوعة . (11)
ووفق هذا المنظور تصبح مسألة الوزن والقافية ،مسألة تاريخية ومسألة ترتبط بجانب محدود من الإبداع الشعري ،لا بشموليته أو به كرؤيا كلية . إذن من البداهة والصحة ،القول إن بإمكان اللسان العربي أن يتجسد شعراً في بنية كلامية غير بنية الوزن والقافية ،أو إلى جانبها ؛"وهذا مما يوسع في الممارسة ،حدود الشعر في اللسان العربي ،وحدود الحساسية الشعرية ،وحدود الشعرية " (12)
والواقع أن الوزن في الشعر لا يمس الشكلية فحسب ،ولكنه يمس كذلك جوهره ويرتبط بمضمونه ،كما يرتبط بشكله .
وفي رأي الدكتور "محمد النويهي " إن القصائد الجيدة يجب أن يحكم عليها بمقاييس شكلية جديدة تستمد من القصائد نفسها ،وتراعي ما يستهدفه منشئها " (13)
وقد تردد مفهوم الإيقاع عند بعض النقاد القدامى مرادفاً للوزن فنجد السجلماسي يتحدث بإيجاز أكثر عن الإيقاع من خلال تعريفه للشعر الذي يقول : " الشعر هو الكلام المخيل المؤلف من أقوال موزونة متساوية وعند العرب مقفاة ،فمعنى كونها موزونة أن يكون لها عدد إيقاعي " (14)
ويورد ابن طباطبا تعريفاً للشعر أشمل من تعريف السجلماسي " وللشعر الموزون إيقاع يطرب الفهم لصوابه ويرد عليه من حسن تركيبه واعتدال أجزائه ، فإذا اجتمع للفهم مع صحة وزن الشعر صحة المعنى وعذوبة اللفظ وصفا مسموعه ومعقوله من الكدر تم قبوله له واشتماله عليه ، و إن نقص جزء من أجزائه التى يعمل بها ، و هى اعتدال الوزن و صواب المعنى و حسن الألفاظ كان إنكار الفهم إياه على قدر نقصان أجزائه " (15)
فتعريف ابن طبا طبا يربط الإيقاع بحسن التركيب و اعتدال الأجزاء ، و مع ذلك فإن التعريفين السابقين يعودان معاً بالإيقاع إلى الوزن و منه إلى الشعر و لذلك كان النظر إلى الإيقاع فى الشكل التقليدى من وجهة نظر ( مصطفى جمال الدين ) هو مجموعة من المقاطع الصوتية فى كل بيت ؛ أى أن القصيدة تتآلف من أبيات يحتوى كل بيت منها على مجموعة من القاطع هى نفس مقاطع الأبيات الأخرى فى العدد و الترتيب ، أما الإيقاع فى الشكل الجديد فإن الإيقاع فيه يقوم على " المجموعة الصوتية لكل تفعيلة ؛ أى أن القصيدة تتألف من أشطر مختلفة الطول تتكرر فيها تفعيلة واحدة متشابهة من أول القصيدة إلى آخرها " (16)
و على هذا المقياس يستخدم الإيقاع فى الشكل الجديد من حيث مدلوله العروضى ، لا من حيث شموليته ، و من هنا فقد اهتم الشعر بالوزن دون الإيقاع ؛ و ساعد على ذلك أن طبيعة اللغة العربية ذاتها ساعدت على ذلك الفهم ، فالأساس فى البناء الموسيقى للكلمة على المقاطع دون الالتفات الى الصفات الخاصة التى تميز الحركات بعضها عن بعض .
و الحقيقة أن ثمة فوارق جوهرية ينبغى أن نلاحظها عندما نفرق بين الوزن و الإيقاع ، و لا تتأتى لهذه الدراسة أن تدعى لنفسها صحة الفروض ، أو أنها استطاعت أن تحدد الفروق بشكل حاسم ؛ لكنها محاولة للتريق بين هذه المصطلحات المتقاربة ، و مع ذلك فإننا نيز الإيقاع عن الوزن من ناحيتين : الأولىأن الظاهرة الصوتية لايشترط فبهاأن تكون مقاطع كما في الوزن 0
والأخرى أن طبيعة التوالى فى الإيقاع تنطوى على قدر من حرية الحركة لا يتوافر فى الوزن .
فالإيقاع عام و الوزن جزء من هذا الإيقاع ، و الخصائص الموضوعية للإيقاع الشعرى " الوحدة و التتابع فى متوالية متناغمة سواء من الناحية اللفظية أو المعنوية " (17)
إن الإيقاع ليس مجرد الوزن الخليلى أو غيره من الأوزان بل هو لغة ثانية لا تدركها الأذن وحدها بل الحواس ، فالإيقاع هو الوعى الغائب / الحاضر و له علاقة ثنائية بالأجواء الشعرية فهو يستحضرها و يبثها ، إ نه النظام الذى يتناوب بموجبه مؤثر ما ( صوتى أو شكلى ) أو جو ما ( فكرى أو روحى ) ، ( حسى أو سحرى ) و هو كذلك صيغة لعلاقات ( التناغم ، التعارض ، التوازى ، التداخل ) فهو – إذن – نظام أمواج صوتية و معنوية و شكلية ، ذلك أن للصورة إيقاعها كما للقصيدة – بصفة عامة ايقاعها " فإن القيمة الجوهرية لمفهوم الإيقاع أنه ليس ملزما على نحو أقنومى ، بل هو عنصر دلالى بالغ الإتساع ، بحيث يمنح الشاعر أكبر مساحة ممكنة من الحركة و الفعل الشعريين غير متقيد بكيان شكلى معد سلفا " . ( 18 )
الإيقاع أوسع من العروض و مشتمل عليه ، و خطأ العروضيين التقليديين من عرب و غيرهم هو عدم ادراكهم لاتساع الإيقاع و خصيصته فى أن ، فللشاعر الحرية فى ايجاد إيقاعه الخاص ، و هذا ما يميز المفهوم الحديث فى الشعر عن المفهوم القديم الذى كان يصر على نوع معين من قواعد الوزن فهو يميز المفهوم القديم و الحديث للشاعر .
و نشير أننا حاولنا أن نميز فى السطور السابقة بين الإيقاع و المصطلحات القريبة منه ، لكن ما يهمنا هو البحث عن جذور هذا المصطلح و مدلولاته " قتشتق كلمة الإيقاع Rhythm فى اللغات الأوروبية من لفظ Rhuthmos اليونانى ، و هو بدوره مشتق من الفعل Rheein بمعنى يناسب أو يتدفق " (19)
و فى اللغة العربية يرجع أن لفظ الإيقاع مشتق من التوقيع ، و هو نوع من المشية السريعة ، إذ يقال " وقع الرجل " أى مشى مسرعا مع رفع يديه . و من المعروف أن مشية الإنسان من أهم الأصول الحيوية التى يرجع إليهما الإيقاع ، و الإيقاع لغويا يقصد به " اتفاق الأصوات و توقيعها فى الغناء " (20)
و الحق أن الإيقاع واحد من تلك الظواهر التى يصعب تعريفها لا لشىء إلا لكونها مألوفة ، ولأن تأثيرها فيا ملموس بلا انقطاع
و يستخدم الإيقاع أساسا فى الموسيقى ، باعتباره تنظيما للشق الزمنى منها فقيل إن الإيقاع مجموع لحظات الزمنية الموزعة وفقا لترتيب معين ، و إن الإيقاع هو النظام فى توزيع مدد لزمان ، و الزمان هو لب الإيقاع الموسيقى ، بل إن الإيقاع الموسيقى ربما كان أقوى عناصر الفنون كلها تعبيرا عن الزمان ، غير أن اٌيقاع فى الشعر لا يقف عند حدود هذا المعنى العام ، و إنما يحقق علاقة قوية مع الإيقاع الموسيقى ، و بهذا المعنى يصبح الإيقاع خاصية جوهرية مميزة للشعر ، و ليس خارجاً أو مفروضاً عليه " و هذه الخاصية ناتجة فى الحقيقة عن طبيعة التجربة الشعرية ذاتها ، تلك التجربة الرمزية التى تحتاج الى وسائل حسية لتجسيدها و توصيلها ، و من هذه الوسائل الإيقاع " (21)
و يرتبط الإيقاع بالمعنى ارتباطا حيويا ؛ لأن الكلمات التى يبتدعها المعنى لا تنفصل عن أصولها الصوتية ، و لهذه قال بوب : " إن الجرس يجب أن يكون صدى للمعنى " . (22)
إن لغة الشعر تنظيم اللغة العادية على المستوى الصوتى للغة و الصرفى و النحوى و الدلالى . و لقد ربط سيد البحراوى بين مفهوم " إعادة التنظيم " و بين " الإيقاع " على أساس أن اعادة تنظيم العناصر الصوتية فى القصيدة يخلق تكرارا منتظما لها فى الزمن ؛ أى أنه يخلق نظاما صوتيا ( الإيقاع ) فهو مكون من العناصر الثلاثة ( الصوتى و الصرفى و النحوى ) و التى لا تستحق أن تعتبر عناصر إيقاعية الا إذا توفرت فيها النظامية و من ثم يمكن اعتبارها أنظمة فرعية للنظام الأكبر ( الإيقاع ) .
و لما كان الإيقاع الشعرى واحدا من مكونات النص الدلالية فقد اتسم هو أيضاً بالسمة التى أفردت شعر الحداثة مما سواه من شعر ؛ فصار إيقاعا غامضا لا يتميز بذاته و إنما يندمج بنائيا فى البنية النصية الكبرى حاملا نصيبه من دلالتها ، و من ثم أصبحت القصيدة قانون نفسها ؛ و لذلك فهى تخلق قانونها الموسيقى الخاص و النابع من حركتها الداخلية و ضراوتها البنائية و عليه صار الإيقاع إشكاليا إلى حد بعيد فى شعر الحداثة فهو يتولد عن أرضية لم يعد فيها الوزن المحك الرئيسى لشعرية القصيدة .
فالعلاقات داخل النص الشعرى عقلية حسية و لا تكفى الحواس لإدراكها ، بل تحتاج كذلك إلى الفكر فالكلمات نفسها مبنية بناءا مزدوجا " إنها أصوات تعتبر رموزا للمعانى ، و هى أيضا تعتبر أصواتا " (23)
و تنظيم هذه الأصوات بمعانيها بطريقة غير عادية هو ما يقدم لنا الشعر ، و فى داخل النظام ( الإيقاع ) ليس هناك اتجاه ثابت بل أكثر من اتجاه ، اتجاه يحفظ على أسس النظام و يدعمه ، و اتجاه يثور على هذا التدعيم و يحطمه .
فجوهر النظام الشعرى هو الصراع بين عناصر الثبات و التغير ؛ فهناك تأسيس لنمط ايقاعى ثم ثورة و انتهاك لهذا النمط .
فإيقاعية الشعر قد تعنى التكرر الدورى لعناصر مختلفة في ذاتها متشابهة في مواقعها ومواضعها من العمل بغية التسوية بين ما ليس متساويا ،أوبهدف الكشف الوحدة من خلال التنوع ،وقدتعني تكرار المتشابة بغية الكشف عن الحد الأدنى لهذا التشابه ،أوحتى إبراز التنوع من خلال الوحدة .
والإيقاع في القصيدة هوالعنصر الذي يميز الشعر عما سواه فضلا عن أنه يتخلل البنية الإيقاعية للعمل،ولذا فإن العناصر اللغوية التي يتشكل منها ذلك العمل تحظى من تلك الطبيعة المميزة بما لاتحظى في الاستخدام العادي ،وثمة أمر هام آخر وهو "أن البنية الشعرية لاتبدو في بساطة تلك الظلال الجديدة لدلالات الألفاظ ،بل إنها تكشف الطبيعة الجدلية لهذه الدلالات ،وتجلو خاصية التناقض الداخلي في ظواهر الحياة واللغة الأمر الذي تعجز وسائل اللغة العادية عن التعبير عنه"(24)
فالبنية الإيقاعية مجموعة من العلاقات المعقدة بين ما يثور على النظام وما يحافظ عليه ،بل إن تحطيم النظام في حد ذاته نظام ولكن من نوع آخر .
والشعر العربي يجمع بين النسق والخروج على النسق ،وهي سمة مشتركة في الشعر على مختلف أنواعه ،بل لعل لها نظائر في غير الشعر من الفنون ،فالفنون التعبيرية تحاكي الحياة الإنسانية،وهي ليست انتظاما خالصا ،بل تجمع بين الانتظام والاضطراب .
فالخروج على النسق له وظائف في الشعر وفي غيره من الفنون ، فهو يقاوم ذلك الخدر الناشىء من التكرار المنتظم "؛فيثير الانتباه واليقظة ،ويدعم الجانب الفكري في مواجهة الجانب الحسي ،ويجعل العمل الفني أقدر على التعبير " (25)
فالشعر العربي يجمع بوضوح النسق والخروج على النسق "فالقاعدة في الفن هو تحا شي الانتظام"(26)
والإيقاع في الفنون هو تأليف بين مجموعة من العنا صر يجمع بين النظام واللانظام ويقيم بين هذه العناصر علاقة ،فإذا خلت العناصر من هذا الصراع ؛فهي كذلك خالية من الإيقاع "فالوحدة في العمل الفني لا تعني التشابه بين كل أجزاء التصميم ،بل يكون هتاك كثير من الاختلاف"(27)
فمعظم الفنون تتألف من ثابت ومتغير ،فالملاحظ أن الإيقاع يتوقف على التكرار وتوقع التكرار،وهذا أمر أجمع عليه النقاد " فالنسيج الذي يتألف من التوقعات والإشباعات وخيبة الظن أو المفاجآت التي يولدها سياق المقاطع هو الإيقاع ،ولا يبلغ تأثير صوت الكلمات أقصى قوته إلا من خلال الإيقاع ،ومن الواضح أنه لا توجد مفاجآت أو خيبة ظن لو لم يوجد التوقع ،وربما كانت معظم ضروب الإيقاع تتألف من عدد من المفاجآت ومشاعر التسويف وخيبة الظن ،لا يقل عن عدد الإشباعات البسيطة المباشرة"(28)
والنظام الذي لا نجد فبه غير ما نتوقعه بالضبط دائما ،بدلا من أن نجد فيه ما يطور استجابتنا هو نظام رتيب يبعث على الضيق ،فالواجب في النظام أن يقوم على المفاجأة وإخلاف الظن ،وريتشارد يورد تعريفين للإيقاع أحدهما يتفق مع النظرة النفسية وهو أن الإيقاع "اعتماد جزء على جزء داخل كل يستمد من التوقع والتنبؤ "
والتعريف الآخر أنه "التشكيل المتكرر أي مجموعة من المجموعة ؛بحيث أن المجموعات المتعددة الداخلة في تكوينه تكون شبيهة الواحدة بالأخرى ،وإن لم يكن هذا التشابه تاما بالضرورة وريتشارد يعتبر هذا المعنى واسعا جدا ،ولكننا يجب أن نلاحظ "أنه هو المعنى الذي يبحث العروضيون عن مدلوله الخاص في التشكيلات المكونة من مقاطع لغوية"(29)
ويجب على دارس الإيقاع أن يكشف عن هذه الصراعات بين عناصر الثبات وعناصر الانتهاك ،فالإيقاع هو حركة المعنى ،وكلاهما وثيق الصلة ،ولاكتشاف أحدهما ينبغي معرفة الآخر
بل ويستطيع الدارس أن يكشف الجوانب النفسية والشعورية والاجتماعية التي أنتجت النص ،وذلك من خلال المستوى الدلالي الذي يشكله التنوع الصوتي في النص الشعري ؛ولذ فإن النظام الإيقاعي للبنية اللفظية في العربية"يتميز إلى جانب التناظر أو التناسب الصوتي بين الصوامت والحركات وطول المقاطع بالعلاقة التبادلية بين الصيغة أوالبنية الإيقاعية والدلالة " (30)
ولايقف التنا سب الصوتي عند المقاطع لكنه يمتد إلى الجناس أو الجرس الصوتي وإلى الأوزان الشعرية والاتباع والازدواج ،وكلها في تشكيل المعنى وتوسيعه وتوسيع دلالة النص الأدبي ويظهر بوضوح عندما يعمد الشعراء إلى استغلال إمكانيات الأصوات وقدرتها على الإيحاء بالمعنى ومحاكاته . والإيقاع ليس إشارة بسيطة ،بلهو نظام إشاري مركب ومعقد من مفردات عديدة ،ويبدو الإيقاع أمام القارىء شيئا ماديا محسوسا يعلن له أن الذي أمامه قصيدة من الشعر ،وأن-الإيقاع-هو الذي نظم هذا الفيض من الأصوات والمعا ني ،وأنه يستطيع" أن يعطيه معنىمختلفا عن المعنى الذي يلقاه في النثر ؛ معنى أ كثر كثافة وأكثر عمقا وأكثر إمتاعا وأكثر كشفا عن الأعماق البعيدة للإنسان "(31)
وقد اتسع مفهوم الإيقاع عند الشكلانيين الروس ليشمل سلسلة من العناصر اللسانية التي تسهم في بناء البيت الشعري :فإلى جانب الإيقاع الذي ينتج عن المد في الكلمات ، يظهر الإيقاع الذي يأتي من نبرات الجمل بالإضافة إلى الإيقاع الهارموني (الجناسات)إلخ
وهكذا يغدو مفهوم الشعر ذاته مفهوم خطاب نوعي تسهم كل عناصره في خاصيته الشعرية ويصبح من الخطأالقول بأن هذا الخطاب لا يقوم سوى بالتلاؤم مع شكل وزني عن طريق مقاومته ويخلق انزياحات ECARTS إيقاعية .
والخطاب الشعري هو خطاب منظم فيما يتعلق بأثره الصوتي ،لكن بما أن الأثر الصوتي هو ظاهرة معقدة فإن واحدا من عناصره فقط يتعرض للتقنين "هكذا فإن العنصر المقنن في العروض الكلاسيكي يتمثل في المدات ACCENTSالتي أخضعها ذلك العروض بالتسلسل وقاسها بقوانينه لكن يكفي أن تتعرض سلطة الأشكال التقليدية ببعض الاهتزاز لكي تظهر بإلحاح هذه الفكرة وإن جوهر الشعر لا يستهلك في ملامحه الأولى بل يعيش كذلك بواسطة الملامح الثانوية لأثره الصوتي فإلى جوار الوزن هناك الإيقاع الذي هو كذلك قابل للمعاينة وأنه يمكن كتابة أشعار لاتلتزم إلا هذه الملامح الثانوية فالخطاب يمكن أن يبقى شعريا حتى مع عدم المحافظة على الوزن "(32)
إن الأنساق الإيقاعية تسهم بدرجات مختلفة في خلق الانطباع الجمالي ،فهذا النسق أو ذاك يمكن أن يهيمن في أعمال مختلفة وهذه الوسيلة أو تلك يمكن أن تسند إليها مهمة (الظاهرة المهيمنة)؛ولذا فإن الاتجاه نحو نسق إيقاعي معين هو الذي حدد الصفة الملموسة للعمل الشعري،فالقصائد الجيدة هي تلك القصائد التي تحمل إعلاما شعريا ،وتكون كل العناصر فيها متوقعة وغير متوقعة في آن.
وكما يقول (جروس)"إن وظيفة العروض أن يخيل العملية الإنسانية في حركتها في الزمن على نحو غني ومعقد "بل إن( أرنولد ستاين)يذهب إلى أن البناء الوزني "لا يشبه الاستعارة فحسب ،بل إنه مفتاح الاستعارة"(33)
فالشكلانيون الروس ينظرون إلى الإيقاع مثل الصور imagesيقصدبه الكشف عن النمط التحتي للحقيقة العليا ؛أي غور المعنى الكامل ،وعلى هذا فإن الإيقاع يشير إلى عدد من الدلالات السطحية والعميقة في القصيدة ،إنه قد يبدو صدى لمعنى القصيدة ،وقد يؤكد المعنى ويطرح معاني وتفسيرات وظلالاللمعنى ويمكن استخدامه لإثارة المعنى وللإيحاء بالصراع داخل بنية القصيدة ،فهو أداة للكشف داخل بنية القصيدة ، وهم يعدون الإيقاع الموسيقي أقوى عناصر الجمال في الشعر ،فالمتلقي غير العربي يطرب للشعر العربي في جرسه وإيقاعه؛وهذا معناه أن الموسيقى (الإيقاع)عنصر جوهري في تشكيل النص الشعري يقوم بوظيفة جمالية مع غيره من عناصر تشكيل النص الشعري ،فهو يكمل بقية العناصر ويؤازرها في الوقت نفسه إذن الموسيقى ولاسيما الموسيقى الناضجة المثقفة"لاتقوم على التشابه والتكرار فقط ،بل تقوم أيضا على المخالفة ،إن الموسيقى التي تقوم على التشابه وحده هي موسيقى البدائيين أوالموسيقى غير الناضجة ،ويستوي في ذلك فن الموسيقى المستقل أو موسيقى الشعر"(34)
وهذا الاهتمام الموسيقي يرجع إلى طبيعة اللغة العربية ،التي نشأت في بيئة يغلب عليها الأمية ،وكان الأدب يعتمد على المشافهة والأذن ،وكانت مسامع العرب هي وسيلة الحكم على النص الأدبي ؛وهذا أدى إلى أن تكتسب الأذن"المران والتمييز بين الفروق الصوتية الدقيقة ، وأصبحت مرهفة تستريح إلى كلام؛لحسن وقعه أو إيقاعه وتأبى آخر ؛لنبوه أو لأنه كما يعبر أهل الموسيقى نشاز"(35)
والحديث عن الموسيقى لاينفصل عن لغة الشاعر وأسلوبه ،وعلاقة الشعر بالموسيقى أقوى من علاقات فنية أخرى ،فكلاهما سمعي .
والموسيقى ليست زينة عارضة أوحلية ثانوية أو ظاهرة كمالية ،إنما عنصر هام ولازم في إقامة البناء الشعري على مختلف عصوره واتجاهاته ،لكن التطور وطبيعة العصر جعلا لكل عصر أنماطه البلاغية وإيقاعاته ،فلقد كانت حركة تطور الإيقاع في هذا العصر تسير باتجاه البعد عن التفعيلات ،والتخلي عنها تدريجيا ،وهذا أدخل مجالات غير سمعية عديدة داخل الإيقاع ؛ولذا "فإن انتقال بعض الآداب من المرحلة السمعية إلى المرحلة البصرية مثل الشعر العربي له أثره البالغ في تكييف بنيته ؛إذ أن الإنشاد كان يجعل القيم الموسيقية في الشعر القديم هي الحاسمة في تحديد قيمته ،أما القراءة التي تجعله كتابيا فهي تبرز في تكوينه عناصر تشكيلية مكانية مختلفة عن العنصر الزمني الأول نسبيا "(36)
وإذا كان (سي موريه)قد عرف الإيقاع RUTHM بأنه "التكرار المنتظم لمقاطع صوتية بارزة في اللغة المنطوقة من خلال تبادلها مع مقاطع أخرى أقل بروزا،ويتحدد البروز بعوامل درجة الصوت pitch
وديناميكته ومدته "(37)
فإن هذا التعريف يقتصر على الجانب السمعي ،لكن من المفيد أن نستفيد من الجانب التشكيلي وإيقاعيته ونعني بالإيقاع تكرار الكتل أو المساحات مكونة وحدات قد تكون متماثلة تماما UNITS
أومختلفة ،متقاربة أو متباعدة ويقع بين كل وحدة وأخرى مسافات تعرف بالفترات.
وهكذا نرى للإيقاع عنصرين أساسيين يتبادلان أحدهما بعد الآخر على دفعات تتكرر كثيرا أوقليلا،وهذان العنصران هما"(أ) الوحدات :وهي العنصر الإيجابي (ب)الفترات : وهي العنصر السلبي وبدونهما لايمكن أن نتخيل إيقاعا ،سوء كنا بصدد فنون فراغية كالنحت والتصوير أم بصدد أي من الفنون الزمنية الأخرى كالموسيقى أو الرقص. . .إلخ"(38)
فالعنصر الإيجابي في الإيقاع الموسيقي هو الصوت ،والسلبي هو فترة السكون التي تعقبه ،وفي الرقص تعتبر الحركة عنصرا إيجابيا والثبات عنصرا سلبيا ،وإيقاع الصورة له مراتب متعددة ، ومن النادر أن نجد في العمل الفني إيقاعا واحدا فقط،بل الاحتمال الأكبر أن يشمل إيقاعات متعددة ،ولن اجتماعها بجوار بعضها بشكل أو بآخر ،فهو أمر من شأنه أن يكسب الصور تنويعا وتجديدا في الشكل ويحد من الضجر الذي قد يحس به البعض ؛كنتيجة للرتابة المتناهية لو زاد الإيقاع كثيرا ،وهذا ينبه إلى وجود عنصر زماني معين في التصوير ،إذ النسب المكانية تكتسب قيمة زمانية حين تعمل بعض المساحات على اجتذاب العين مدة أطول من بعضها الآخر ؛وبذلك"يكون في اللوحة نوعا من الحركة الصامتة التي يتمثل فيها بدورها الإيقاع"(39)
وكل هذا يؤدي إلى اعتماد القصيدة على الوسائل البصرية ؛وهذا يدل على سيادة القراءة على السماع .
ونسعى إلى توضيح عدة ملاحظات تبين دلالة هذا السؤال ــــــ (لماذا الإيقاع تحديدا؟)
ليس من الصعب على أي إنسان أن يربط لأول وهلة بين الشعر والموسيقى ، إذ يكفي أن تتذكر أن الشعر لا ينفصل عن الوزن والإيقاع والتنغيم والإلقاء ،وأن هذه العلاقة تمتد في مفهوم الشعر نفسه.
لا تجد الموسيقى شرط تولدها فقط في الأوزان المعروفة أو في وزن ما معين ،بل تجد شرط تولدها أيضا ـوربما بشكل أفضل ـفي تقطيعات وفي توازنات لا متناهية تجده في التقابل والتشاكل في التكرار على أنواعه :التكرار لحروف بذاتها أو لكلمات ،وقد يكون المعنى هو حدود هذه المسافات أو فاصلتها ؛وذلك يظهر في التشكيل الهندسي للقصيد الشعري ، فثمة تقنيات يمكن استخدامها لتوليد الموسيقى ،وثمة تقنيات تتعلق بالتلفظ الصوتي ،وتقنيات تتعلق بالتنسيق الدلالي .
وما من شك في أن التماثل الصوتي للتفعيلات العروضية يعد عمدة المؤثرات الصوتية في حدوث الإيقاع الموسيقي في النص الشعري ،ويرجع هذا إلى أن الكمية الصوتية للتفعيلة الواحدة تحوي أكثر من مقطع صوتي ،وعندما تتماثل هذه التفعيلات يحدث تماثل صوتي لأكبر كم مقطعي في القصيدة ؛وبذلك يشكل الإيقاع الموسيقي بعدا جوهريا في القصيدة من خلال تماثل هذه التفعيلات ،والقصيدة العربية بشتى أنماطها يشكل الإيقاع فيها محورا جوهريا ،كما أنه يضفي عليها بعدا جماليا ودلاليا ؛ويرجع هذا إلى أن العربية تقوم على مبدأ التناسب الإيقاعي والموسيقي في كثير من الأحيان .
وقد تخلت القصيدة الحداثية عن البحر العروضي ،وهذا التخلي ليس بالأمر الهين ،ولابد للشاعر من تعويض تلك النمطية الموسيقية بإيقاع بديل لها ؛لأن الحس الإيقاعي شرط مهم في الشعر العربي خاصة ،ولذلك لجأ الشعراء الحداثيون إلى الإيقاع اللغوي إضافة إلى صور الإيقاع الأخرى من صور ونغمات ….؛مما يسمو بالموسيقى الداخلية للشعر ،وهي موسيقى لا تخص الشعر الحداثي وحده بل هي ماثلة في كل شعر جيد ،ولكن الشعر الحداثي يعتمد عليه أكثر من غيره ،فإيقاعه نابع من قلب التجربة الفنية للقصيدة .
ونلاحظ قلة البحوث النقدية في الإيقاع ؛فلم يمنح نظرة فاحصة كالتي منحت للنظرة العروضية ،وإذا كان الإيقاع يمتد داخل القصيدة وفي فاعلية تشكيلها وتحديد مسارها فهو يتيح تجاوز الرتابة ،وهو إيقاع داخلي أكثر منه خارجي ينبع من عناصر الثبات والانتهاك .
والإيقاع كعنصر تأثيري اختلف في الشعر الحداثي عن الشعر القديم ؛فأصبح أقرب إلى الهمس منه إلى الجهر ،وأصبح أصلح للقراءة منه إلى الإنشاد وللمناجاة منه للخطابة ،وهو يحتاج إلى هدوء وتأمل ،وأصبح شعر قراءة لا سماع .
هذا وينبه البحث على هذه النقاط :
• إن الخروج في موسيقى الشعر يجب أن يأخذ في الاعتبار قيمة العامل النفسي ،أو بمعنى آخر يفلسف فلسفة تأخذ في الاعتبار قيمة العامل النفسي للنسق الكلامي لا صورة الوزن العروضي للبيت الشعري .
• الإيقاع يسهم في خلق مسافة جمالية تجعلنا نتسامى بعيدا عن العالم النثري .
• الإيقاع يرتبط باللحظة التي نشأ فيها،فالمستوى الفني يرتبط بالمستوى الاجتماعي .
• الشعر ـ كما أشرنا سابقا ـ إيقاعيا أكثر منه وزنيا ، فلا يستطيع باحث أن يزعم أن موسيقى الشعر قاصرة على الوزن ،فلكل عصر أنماطه وإيقاعاته ؛فهو الحياة الخصبة بكل غناها .
• الإيقاع إحساس تبرزه الكلمات يتلبس بها ،وهو القالب الذي يحتوي الحركة اللفظية والصوتية للنص الشعري .
هوامش المدخل
1- د ـ شكرى عياد : موسيقى الشعر العربى ص 57
2- مصطفى جمال الدين :الإيقاع في الشعر العربي صـ45
3- د ـ أحمد كشك: الزحاف والعلة صـ161
4- د ـ عز الدين إسماعيل : الأسس الجمالية في النقد العربي صـ376
5- أحمد بزون :قصيدة النثر العربية (الإطار النظري)صـ141
6- د ـ محمدغنيمي هلال:النقد الأدبي الحديث صـ435
7- د ـ أحمد كشك: الزحاف والعلة صـ155
8- د ـ سيد البحراوي :العروض إيقاع الشعر العربي صـ97
9- أدونيس: مختارات بدر شاكر السياب صـ10
10- ألفت محمد كمال : نظرية الشعر عند الفلاسفة المسلمين صـ253
11- إبراهيم عبد الرحمن :من أصولالشعر القديم، فصول مج4 ،العدد4،1984،صـ29
12- أدونيس: مختارات بدر شاكر السياب،صـ15
13- د ـ محمد النويهي: قضية الشعر الجديد،صـ256
14- محمد بنيس:الشعر العربي الحديث،جـ1،173
15- السابق ،صـ173
16- مصطفى جمال الدين:الإيقاع في الشعر العربي،صـ7
17- يوري لوتمان :تحليل النص الشعري،ت د.محمد فتوح أحمد،صـ159
18- د. صلاح السروي :تحطيم الشكل خلق الشكل،صـ159
19- د.فؤاد زكريا: مع الموسيقى ،صـ51
20- المعجم الوسيط،جـ2،صـ1093
21- د. سيد البحراوي: الإيقاع في شعر السياب،صـ8
22- عبد القادر الرباعي: تشكيل المعنى الشعري،فصول،مج4،العدد2،1984،صـ56
23- أرشيبالد مكليش: الشعر والتجربة،ت د. سلمى الخضراء الجيوشي،صـ38
24- يوري لوتمان: تحليل النص الشعري،ت د. محمد فتوح أحمد،صـ70ـ71
25- علي يونس:نظرة جديدة في موسيقى الشعر العربي،صـ171ـ172
26- عبد الفتاح الديدي:علم الجمال،صـ46
27- د. أحمد حافظ رشدان،د.فتح الباب عبد الحليم: التصميم،صـ85
28- ريتشارد:مبادىء النقد الأدبي، ت د. مصطفى بدوي ،صـ192
29- د.شكري عياد: موسيقى الشعر العربي،142
30- كريم حسام الدين: الدلالة الصوتية،صـ156ـ157
31- د.سيد البحراوي:العروض إيقاع الشعر العربي،صـ153
32- بوريس إيخنباون:نظرية المنهج الشكلي،ت إبراهيم الخطيب،صـ55
33- د.سيد البحراوي: الإيقاع في شعر السياب،صـ33
34- د.محمد النويهي:قضية الشعر الجديد،صـ263
35- د.إبراهيم أنيس:دلالة الألفاظ،صـ191
36- د.صلاح فضل : نظرية البنائية في النقد الأدبي،صـ466
37- سي موريه: الشعر العربي الحديث(1810ـ1970)ت(شفيع السيد ـ سعد مصلوح)صـ470
38- عبد الفتاح رياض: التكوين في الفنون التشكيلية،صـ95
39- د.فؤاد زكريا :مع الموسيقى،صـ68



#عادل_بدر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- غواية النص والديوان الأول عند حسن طلب
- الإيقاع : مدخل إلى الشعرية العربية
- سيميائية الإيقاع
- الماغوط شاعر في محيط العزلة
- الشكل وحدود النص الشعري
- الإيقاع : بنية الاختلاف بين النظام واللانظام


المزيد.....




- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...
- حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال ...
- الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول
- الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم ...
- الأربعاء الأحمر -عودة الروح وبث الحياة
- أرقامًا قياسية.. فيلم شباب البومب يحقق أقوى إفتتاحية لـ فيلم ...
- -جوابي متوقع-.. -المنتدى- يسأل جمال سليمان رأيه في اللهجة ال ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عادل بدر - الإيقاع مدخل منهجي لدراسة الشعر الحداثي