كرار عيسى عبد الحسين
الحوار المتمدن-العدد: 8469 - 2025 / 9 / 18 - 21:31
المحور:
قضايا ثقافية
تابعتُ باهتمام احتفاءَ منصات التواصل الاجتماعي العربية بالدعم الذي حظيت به القضية الفلسطينية في حفل توزيع جوائز الإيمي التلفزيونية الذي أُقيم مؤخراً في لوس أنجلوس. كان من أبرز لحظات الحفل كلمة الممثلة الأمريكية هانا أينبايندر، التي دعت إلى لفت الانتباه إلى حرب إسرائيل في غزة، وقالت عند تسلمها الجائزة: "الحرية لفلسطين". كما ظهر الممثل الإسباني الحائز على الأوسكار خافيير بارديم على السجادة الحمراء مرتدياً الكوفية الفلسطينية، ومعبراً عن دعمه لمجموعة "عمال السينما من أجل فلسطين". هذه المجموعة، التي تضم مخرجين وممثلين في هوليوود، كانت قد أعلنت مقاطعتها للمؤسسات الإسرائيلية أو شركات الإنتاج السينمائي "المتورطة في الإبادة الجماعية ونظام الفصل العنصري ضد الشعب الفلسطيني"، بحسب وصفها.
في تقديري، قد لا يدرك العقل العربي الجمعي الجذور الفلسفية لهذا الدعم، وربما يتصور أن هؤلاء النجوم يقفون مع قضيته ضد إسرائيل لأنها قضية عادلة بالمطلق، وأن هذا الضغط الإعلامي الغربي قد يسهم في وقف الدعم العسكري لإسرائيل. لكن في حقيقة الأمر، إن التعاطف الغربي مع القضية الفلسطينية يتمحور حول رفض المأساة الإنسانية ومعارضة عنف الدولة المهيمنة، وهو ذات المنطق الذي ولّد تعاطفاً مع الإسرائيليين بعد عملية "طوفان الأقصى".
يعلن الفيلسوف الفرنسي جان فرانسوا ليوتار (Jean-François Lyotard) في كتابه "الوضع ما بعد الحداثي" عن "موت السرديات الكبرى .(Metanarratives)" والمقصود بها هي تلك السرديات الشمولية التي تمنح الشرعية للمعرفة والممارسات الاجتماعية، مثل سردية التنوير، أو الماركسية، أو الأديان الكبرى التي تقدم تفسيراً كلياً للوجود والحقيقة. من هذا المنظور، فإن الخطاب الصهيوني الرسمي يُنظر إليه بوصفه "سردية كبرى" حديثة، تقدم نفسها على إنها قصة عودة شعب إلى أرض الميعاد، وتبرر قيام الدولة وسياساتها كتحقيق لحق تاريخي مطلق.
في المقابل، يمثل الخطاب الفلسطيني "سردية مهمشة" (Subaltern Narrative) قُمِعت بفعل قوة السردية المهيمنة. فالتعاطف ما بعد الحداثي لا ينطلق بالضرورة من قناعة مطلقة بعدالة القضية الفلسطينية تاريخياً، بل من دافع أخلاقي يقتضي الارتياب من السرديات الكبرى وإفساح المجال للأصوات التي تم أسكاتها. لهذا السبب، فإن التعاطف يميل نحو "الضحية" في لحظة معينة. فعندما يُنظر إلى إسرائيل كدولة قوية تمارس عنفاً غير متكافئ في غزة، تصبح السردية الفلسطينية هي صوت المقموع الذي يجب دعمه. وفي الوقت ذاته عندما يُنظر إلى المدنيين الإسرائيليين كضحايا لهجوم عنيف، يميل التعاطف نحوهم. الموقف هنا ليس ولاءً لطرف، بل ولاءً للمبدأ القائل برفض هيمنة أي سردية على أخرى.
إن هذا التعاطف المتأرجح بين الطرفين نابع من فلسفات ما بعد الحداثة بمدارسها المتعددة. فالأطروحة الرئيسية لهذه الفلسفة تتمثل في فكرة أن الإنسان عاجز عن امتلاك معرفة موضوعية شاملة، لذا يجدر به الكف عن الحديث باسم "الحقيقة المطلقة" (وهي فكرة لا يزال العقل العربي الجمعي غير قادر على استيعابها، لتمسكه ببنى فكرية تقليدية قروسطية). فالحقيقة، من منظور ما بعد الحداثة، ذات منشأ ذاتي وسياقي. وقد انعكس هذا المفهوم على التنظير السياسي، ليصبح سلوكاً مناهضاً للثقافة والخطاب المهيمن (Hegemonic Discourse)؛ فكل خطاب مهيمن يحاول فرض "حقيقته" على الآخر الهامشي، تماماً كما يفعل الخطاب الإسرائيلي الرسمي.
يرى مفكرو ما بعد الحداثة أن هناك سرديات كبرى مهيمنة وأخرى مهمشة، وهذه الأخيرة تمثل صوت المضطهَد الذي يجب أن يرتفع ليُسمع. ويتحقق ذلك عبر تفكيك (Deconstruction) الخطاب المهيمن القائم على ثنائيات جامدة (مثل: نحن/ هم، حضارة/ همجية، خير/ شر) وكشف تناقضاته الداخلية. يرى نجوم هوليوود، المتأثرون بهذا المناخ الفكري، أن الخطاب الإسرائيلي الرسمي يقدم نفسه كـ"مركز" للحضارة والديمقراطية والخير في الشرق الأوسط، بينما يضع الفلسطيني في خانة "الهامش" المتخلف أو الإرهابي، في حين ان العمليات العسكرية للكيان في غزة وصفها الكثير من المشاهير الغربيين بأنها إبادة جماعية ممنهجة تكشف تناقضا صارخا مع الخطاب الرسمي. مهمة التفكيك هنا هي قلب هذه الثنائية، وإظهار أن "المركز" لا يحافظ على مركزيته إلا بقمع "الهامش"، والممارسة القمعية لا تكشف عن وجها حضاري و ديموقراطي كما يُزعم.
ما فعله نجوم هوليوود ويفعل العديد من المؤثرين الغربيين المناهضين للخطاب الاسرائيلي هو تمظهر عملي لهذه الفلسفة؛ فهم يرون في القضية الفلسطينية حالياً صوت المهمّش المقموع الذي يجب إبرازه في مواجهة مركزية غربية تدعم الخطاب الإسرائيلي. الهدف هو إحداث حالة من التكافؤ بين السرديات المتصارعة لخلق مجتمع عولمي مساواتي.
قد يستحسن العقل العربي التنظير ما بعد الحداثي لما يحمله من قيم إنسانية، لكنه لا يدرك أن هذا التعاطف ما بعد الحداثي يتعارض جذرياً مع الخطاب الإسلامي المهيمن في الشرق الأوسط، الذي يطمح أحياناً إلى قمع الآخر المختلف أو القضاء على أي صوت لا يتوافق مع "حقيقته المطلقة". الأدهى من ذلك عندما يكتشف أن فلسفة ما بعد الحداثة هي ذاتها التي أتاحت ظهور حركات أصبح صوتها مسموعاً بقوة في الغرب بعد أن كانت مهمشة ومضطهدة، مثل النسوية بموجتها الثالثة، وحركات حقوق المثليين والمتحولين جنسياً. وهي حركات قد يُقتل أفرادها في بعض المجتمعات الإسلامية. عندها فقط، سيكتشف العقل العربي أن نجوم هوليوود أنفسهم سيتعاطفون مع هذه الفئات المضطهدة محلياً، وسيجد دعوات غربية للقضاء على "التطرف الديني" الذي يقمع حرية الأصوات المهمشة، مطبقين المبدأ الفلسفي ذاته الذي يتعاطف مع غزة و القضية الفلسطينية.
هنا تكمن أزمة العقل العربي الجمعي. فهو يحتفي بشدة بتفكيك السردية الصهيونية، لأنه يخدم قضيته السياسية المباشرة. إنه يصفق لليوتار ودريدا دون أن يقرأ لهما، ويستحسن النتائج العملية لفلسفتهما المتمثلة في دعم فلسطين. ولكن، هذا العقل نفسه يرتكز في جوهره على سردية كبرى خاصة به، وهي الخطاب الديني الذي يقدم نفسه كحقيقة نهائية ومطلقة. هذا الخطاب غير قابل للتفكيك أو التساؤل من الداخل، بل يقمع سرديات مهمشة يتم التعاطف معها من ذات الجهات التي تتعاطف مع الاحداث في غزة. هذا السلوك ينم عن تناقض هو الآخر لا يختلف عن تناقض الخطاب الاسرائيلي: يريد العقل العربي توظيف أدوات ما بعد الحداثة كسلاح ضد خصمه الخارجي (إسرائيل)، ولكنه يرفض بشدة تطبيق هذه الأدوات على ذاته وبنيته الداخلية. إنه يريد من الغرب تفكيك سردية حلفائه، بينما يكرس هو ذاته سرديته الخاصة كحقيقة مقدسة.
هذا الإطار الفلسفي يكشف التناقض الجوهري في خطاب "العقل العربي الجمعي": ففي حين يحتفي بالتعاطف الغربي ما بعد الحداثي مع فلسطين، يغفل أن هذا التعاطف نفسه ينبع من رفض المطلقات التي يقوم عليها خطابه الديني/السياسي. إن ما بعد الحداثة لا تنحاز إلى "الحقيقة الفلسطينية" بوصفها حقيقة مطلقة، بل فقط لأن الخطاب الفلسطيني يمثل – في اللحظة الراهنة – صوت الضحية. وحال تغيّر موازين القوة، فإن ما بعد الحداثة ستعيد النظر في موقع الضحية والجلاد على السواء.
هذا السلوك الانتقائي يجعل الدعم الذي يتلقاه من الغرب دعماً مؤقتاً وهشاً، لأنه لا يقوم على تحالف فكري حقيقي قائم على الأخذ بكل ما أتت به ما بعد الحداثة، بل على تقاطع لحظي للمصالح. فعندما يوجه نجوم هوليوود أنظارهم غداً إلى المهمشين داخل العالم العربي والإسلامي، سيتحولون في نظر العقل العربي الجمعي من "حلفاء" إلى "أعداء"، وسيتم اتهامهم بنفس التهم التي يعاد تكرارها منذ خمسينيات القرن الماضي: الإمبريالية الثقافية و غزو فكري لفرض قيم غربية. وهذه هي المفارقة الكبرى التي لم يستوعبها بعد: وهي إن المؤثرين الغربيين بوصفهم نتاج ما بعد الحداثة لا ينحازون إلى الحقيقة الفلسطينية بوصفها حقيقة مطلقة، بل فقط لأن الخطاب الفلسطيني يمثل – في اللحظة الراهنة – صوت الضحية. وحال تغيّر موازين القوة، فإنهم سيعيدون النظر في موقع الضحية والجلاد على السواء. ذلك إن التعاطف الذي يحصده العقل الجمعي العربي في قضيته التاريخية في الفضاء الغربي، قد يرتد عليه من خلال يفضح للأقليات الدينية والجنسانية والفكرية.
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟