أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - سناء عليبات - في الحديد إذ ينقلب على حتفه: من أبراخيليا إلى استطيقا المقاومة: قراءة في معرض الفنان التشكيلي -أحمد نصري-















المزيد.....

في الحديد إذ ينقلب على حتفه: من أبراخيليا إلى استطيقا المقاومة: قراءة في معرض الفنان التشكيلي -أحمد نصري-


سناء عليبات

الحوار المتمدن-العدد: 8468 - 2025 / 9 / 17 - 09:42
المحور: قضايا ثقافية
    


ما يُعرض في أبراخيليا، معرض أحمد نصري، لا يُقاس بمقياس المنحوت ولا يُدرك في هندسة الجسد، بل يُنصب في ذلك المجال المفهومي حيث يُستعاد المهمل لا بوصفه بقايا، بل بوصفه توترا ضد الاستيعاب. ليست الخردة مادة، بل انحرافا عن شرعية الاستعمال، انكفاء للشيء على لا-جدواه كقيمة شكلية، ورفضا ضمنيا لأن يُدرج في نظام التدوير الرمزي الذي تعيد الرأسمالية إنتاجه تحت لافتة “الجمال”.
إن ما يطرحه الفنان في أبراخيليا لا ينتمي إلى تقاليد النحت كما وُرثت، بل إلى حفرية سلبية في قابلية التمثيل ذاتها؛ حيث يُصبح الحديد، وقد فقد سلطته البنيوية، وسيطا لإبراز ما لا يمكن صياغته، ما لا يتطابق مع ذاته، ما يظل على تخوم الإدراك.
هنا، لا يُستعاد الشيء في صورته، بل يُستبقى في تردده، في هشاشته، في استحالته أن يكون موضوعا. الفن، بهذا المعنى، لا يُنتج هيئة، بل يُفكك شرطية الهيئة. النحت لا يُؤسس للتماسك، بل يُعمق التوتر بوصفه قواما جماليا وموقفا مضادا: ضد الاكتمال، ضد الوظيفة، ضد قابلية السوق لأن تحتكر المعنى وتُسلع الأثر.
أبراخيليا ليست تجربة في المعدن، بل في الحفر داخل ما يتبقى من المعنى حين تنسحب عنه قابلية التبادل. إنها إقامة في النقطة التي يغدو فيها الجمالي تمردا صامتا، والمهمل سؤالا سلبيا عن إمكان التمثيل في زمن تهيمن عليه الفعالية، ويُختنق فيه الفن بسلطة ما يُنتظر منه.
في استحالة البدء من صفر الحديد:
ليست المادة خامًا، ولا الحضور العيني لكتلة مستعادة من ركام الصناعي أو فتات العطب؛ بل هي، في انزياحها، تُقاوم كلّ نزعة اختزالية تردّها إلى مادّيتها الأولى. فالحديد، وقد أُقصي من التداول، لا يعود في منحوتات أحمد نصري بما هو قابليّة للاستعمال، بل بما هو لا-قابلية للإبادة. في هذا التجلّي، لا يُقرأ الحديد كجسد، بل كـ”ضد-جسد”، ككتلة مشروخة تؤسس لفعل شكّي في مسلّمات الإدراك الحسي. إنّ ما يطرحه المعرض، من خلال نحته للمهمل، لا ينتمي إلى منطق الإضافة، بل إلى نسق الحذف: حذف المعنى الجاهز، الشكل المكتمل، والغاية الوظيفية.
إنّ العمل الفني هنا لا يبتدئ من فراغ، بل من ترسّبات المفقود، من ثقل ما تم نفيه. فليس ثمّة انبثاق، بل ثمّة إصرار مضادّ على الظهور، تموضعٌ في موقع المستبعد، تماثلٌ مع مهزوميّة المادة. وهذه المهزوميّة، إذ تُعاد صياغتها فنّياً، لا تُفضي إلى تمجيد الخراب، بل إلى خلخلةٍ نقدية لمفهوم “البداية” نفسه: ما من بداية تُرتّب من خارج ركام السقوط، ما من شكل يُنتج دون التواء ضمني مع ما سبق إقصاؤه.
هنا، لا يعود النحت إعادةً للمفقود، بل إنّه يحفر في مفقوديّة الوجود ذاتها. منحوتات “أبراخيليا” لا تعيد تشكيل الحديد بل تعيد تشكيكنا في شرط التشكيل: كيف يُمكن لمهملٍ أن يُقيم في الجمالي؟ كيف يُمكن للمُستبعد أن يُصبح حاملًا للمعنى؟ تلك ليست أسئلة تقنية، بل أسئلة تقوّض الأنطولوجيا السطحية للفن، وتحيل إلى جوهره الجدلي: الفن لا يُنتج ما هو جميل، بل ما هو مشكوك فيه، مقلق، مرتجّ.
وفي هذا التوتّر بين المهمل والهيئة، بين العطب والشكل، تنشأ استطيقا سلبية لا تصالح بين المادة وغايتيتها، بل تترك الجرح مفتوحًا، بوصفه الأثر الوحيد الممكن.
ما لا يُرى: الفن كتوتّر شكلي ضد التهميش
ليس الشكل في منحوتات أحمد نصري ما يُعطى للعين، بل ما يرتدّ عن العين. لا تنتمي هذه الأجساد الحديدية إلى هندسة البصر، بل إلى هندسة الفراغ المتشظّي؛ إنها لا تُعرض بل تُنصّب كـ”فخاخ إبصار” تُربك القابلية الاستهلاكية للتمثّل. فما يُرى لا يشي بما هو كائن، بل بما هو منفيّ، مُقصى، مستتر خلف سماكة التكوين.
إنّ النحت هنا لا يُراكم الأشكال، بل يراكم التوتّرات. التوتّر بين المادة وظلالها، بين الهيئة وما يُقوّضها، بين الحضور وما ينزاح عنه. وهذا التوتّر، بما هو فعل تفكيكي للمطمئنّ، ليس مجرّد خيار جمالي، بل هو موقف ضدّي من نظام الرؤية ذاته، من سلطة التحديد والتعيين والاكتمال.
الفن، في أبراخيليا، لا يقدّم “موضوعًا” للنظر، بل يوقظ النظر على هشاشته؛ كل منحوتة هي ضدّ صورة، كل تشكيل هو أثر لصراع غير محسوم بين الشكل ونقيضه. وهذا ما يُذكّرنا بما كان أدورنو يسمّيه “الهوية غير المتطابقة” في العمل الفني: الفن لا يُطابق ذاته، ولا يستقرّ في هيئة نهائية. كل منحوتة إذًا، ليست “شيئًا” بل هي مفعولٌ تأويليّ مفتوح، تسكنه المفارقة.
والمفارقة هنا ليست بلاغة، بل تأزيم: تأزيم المعنى، تأزيم التلقي، تأزيم إمكانية الصياغة. إننا لا نُقابل الجمالي بصفته تطابقًا بين الداخل والخارج، بل بصفته خيانة للمكتمل، ضدًّا للمسالم، ممانعة للتطابق بين ما يُنتظر وما يُقترح.
وبذلك، تتحول منحوتات “أبراخيليا” إلى أنطولوجيا سلبية: حضورٌ لا يُثبت ذاته بل يُقوّض يقينها، ويُبقينا في حالة تعليق، في منطقة وسطى بين التشكّل والانمحاء. إنّ هذه الحالة، بهذا المعنى، ليست جمالية فقط، بل أخلاقية أيضًا: الفن، حين يرفض أن يُرى كما يُراد له، يُمارس شكلاً من المقاومة.
أبراخيليا: حفريات في الخطاب النحتي
لا يُقرأ “أبراخيليا” من سطحه. المعرض ليس عرضًا لمنحوتات، بل هو اقتراحٌ مفهوميّ لخلخلة علاقة الفن بذاته. ما يُعرض ليس الشكل، بل إمكان الشكل، ما يُحتفى به ليس الحديد، بل قابليّة المهمل لأن يُستعاد خارج قدرته الأصلية على الاشتغال.
بهذا المعنى، المعرض حفريّة لا في المادة فحسب، بل في قيمة الأثر، في ذلك الحدّ الغائم بين ما يُرمى وما يُحتفظ به، بين ما يُؤخذ كنفاية وما يُعاد تشكيله كدلالة. إنّ فعل الاستعادة هنا لا يُفهم بوصفه اقتصادًا للمادة، بل بوصفه أخلاقيّة تشكيلية، تنقذ العالم من التفاهة عبر منح الهامشيّ سلطة الانبعاث.

المهمل لا يُعاد تلميعه، بل يُنتشل من حتفه ليُعاد إنتاجه كـ”توتّر دلالي”، تمامًا كما في جدلية أدورنو التي ترى أن الحقيقة لا تُستخرج من الكلّي، بل من المَشظّي، من النتوء، من “اللا-هو” المتروك في عتمة الخطاب.
كلّ منحوتة إذًا ليست موضوعًا، بل نقطة مقاومة. كل جسد حديدي هو بؤرة تشويش، لا على اللغة البصرية فحسب، بل على منطق التصنيف الجمالي ذاته. لا تنتمي هذه الأعمال إلى جماليات الإتقان، بل إلى جماليّات التوتّر غير المنجَز، إلى جمال هشٍّ، قلق، متوتّر، يَعد دون أن يمنح، ويشير دون أن يحدّد.
وبين التكوين والتفكيك، يُقيم العمل في منطقة وسطى، تلك التي تُقابل فيها كلّ هيئة بما ينقضها من الداخل، وكلّ كتلة بما يُفرّغها من وهم الثقل. فالفن هنا لا يعلّق على الواقع، بل يُمارس ضده حفريّة نحتية تُبدّد مركزية التمثيل، وتُقيم بدلاً عنها سردية جسدية منحرفة، تقترح منطقًا آخر للتكوّن.
ما يتبقّى: النحت كسياسة صامتة
في نهاية هذا المسار، لا يبدو “أبراخيليا” معرضًا نحتياً بقدر ما يبدو تجربةً في الحفر المضادّ: ضدّ الشكل، ضدّ التزيين، ضدّ الاستهلاك، ضدّ الجاهز. إنها مقاومة لا تتوسّل الشعارات، بل تتكثّف في جماليات الصمت، حيث تُصبح كلّ منحوتة أثَرًا لتمرّد لا يُقال، بل يُفهم عبر اللمس، الثقل، الفراغ، التوتّر.
وإذا كان دولوز قد رأى أن الفن هو ما ينقل المادة من مجرّد وجود إلى مفهومية، فإن أحمد نصري يذهب أبعد: هو لا ينقل الحديد من مادة إلى شكل، بل من إدانة ضمنية بالهامشية إلى إمكان مفهوميّ للعودة، للمعنى، للهيئة.
إنه يُعيد للنحت شرعيّته كفعل نقديّ، ويمنح للمهمل حقّه في التحوّل لا إلى أداة، بل إلى سؤال، لا إلى معنى، بل إلى مفترق دلاليّ.
ختامٌ في ظلال الحديد
ليس “أبراخيليا” معرضًا يتردد بين العرض والامتلاك، بل هو انقطاع متعمّد عن سلطة الشكل، نفي متواصل لما يؤسس الهيئة، تمرد على ثبات الحضور. الحديد هنا لا يُستعاد كوجود، بل كفقدان يصرّ على أن يكون، كفائض غياب لا يطلب الإحياء بل يُفكك الحضور ذاته.
المادة تُفرّغ من ثقلها الوهمي، يُنزع عنها تاريخها لتُصبح صمتًا مؤسسًا، ليس ضجيجًا مقاومًا، بل فراغًا يُنحت فيه السؤال، سؤال التشظّي الذي لا يُغلق، تماسٌ متوتر بين الصياغة والاستعصاء، بين الشكل واللا-شكل، بين الكائن وما يُرفض أن يُعترف به.
هنا، لا فن يُمارس ذاته، ولا فلسفة تتخفّى خلف المادة، بل هو التناقض بذاته: حيث يصبح النحت عزفًا على حدّ التمزّق، والمادة جسدًا لا يستقرّ، وأثرًا لا يُستلب، بل يظلّ متىقّظًا لرفضه أن يُحتوى أو يُقال.



#سناء_عليبات (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حين يصبح الترند معيار البطولة: البلوغر VS الشهيد في عصر الحد ...


المزيد.....




- ردود فعل قوية من كوميديين على إيقاف برنامج جيمي كيميل.. شاهد ...
- -دورك سيأتي-.. تهديد مباشر من وزير دفاع إسرائيل لزعيم الحوثي ...
- -مكارثية- جديدة في أمريكا؟ ... حرية الرأي بعد اغتيال كيرك
- الكشف عن لوحة -استثنائية- لبيكاسو عُرضت للبيع في مزاد علني ب ...
- الصين: شركة أبل تطلق سلسلة آيفون-17 الجديدة بمتجرها الرئيسي ...
- المغرب يبتكر حلولا لمواجهة الجفاف: ألواح شمسية عائمة فوق سد ...
- اتصال هاتفي بين الرئيسين الأمريكي والصيني يحدد مصير تيك توك ...
- تعليق برنامج الكوميدي جيمي كيميل إلى أجل غير مسمى في الولايا ...
- الجيش الإسرائيلي يدعو سكان مدينة غزة للنزوح جنوبا مهددا باست ...
- مشروع -غيدلون- في فرنسا.. تجربة فريدة لإحياء تقنيات البناء ا ...


المزيد.....

- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت
- الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان / د. خالد زغريت
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - سناء عليبات - في الحديد إذ ينقلب على حتفه: من أبراخيليا إلى استطيقا المقاومة: قراءة في معرض الفنان التشكيلي -أحمد نصري-