جوستاف سهيل
الحوار المتمدن-العدد: 8467 - 2025 / 9 / 16 - 17:05
المحور:
الادب والفن
من الملاحظ والواضح جدا، إننا إزاء كاتب يميل إلى شكل وجنس الحكاية، بإعتبارها الجدة الكبرى للقصة القصيرة، وغالباً فللقصة تنويعات على ذلك القالب الحكائي الأثير لدى كثير من كتّاب الفن القصصي في الأدب العربي، وبضمنهم كاتبنا "مجيد الكفائي" في مجموعته الموسومة (يوسف).
لكن السؤال: كيف عبّر الكاتب عن الواقع فعليا أو متخيلا، كما بدا متجليا في مجموعته القصصية التي أمامنا؟
وبعيداً عن عنوان المجموعة - يوسف – فقد قطع الكاتب وعداً، بأهمية العالم الذي إختاره مسرحاً تدور فيه معظم رؤاه، التي تقدم تصوّراً لإعادة تشكيل الواقع إبداعيا.
ولا يعنى الكاتب بتصوير ذلك الواقع - بشقيه الفعلي والتخيلي - تصويرا تقريريا مباشراً، بل إنه يهتم بالتعبير عنه إبداعيا وجماليا من خلال دلالات رمزية ذات شفافية، سواء في التعامل مع اللغة بوصفها إنجازاً إبداعيا من جهة، أو التعامل مع العنصر المكاني من جهة ثانية، أو العنصر الزماني من جهة ثالثة.
وقاريء مؤلفات "مجيد الكفائي" وهو الكاتب الغزير الإنتاج، يلامس ميلاً سردياً وتقنياً من الكاتب نحو الموروث الشعبي والعادات القبلية السائدة، النابعة من البيئتين الريفية والصحراوية بوجهٍ خاص، والتراث المعبر عن وجدانهما الجمعي بوجه عام. إذ يوظف الأشعار والحكم والمقولات الموروثة في بعض قصصه، كما يستخدم تقنية الراوي في قصصٍ أخرى، مما يدل على توجهه نحو التراث من خلال التعامل مع إحدى التقنيات المأخوذة من التراث العربي، لا سيما من الشكل الملحمي أو الشكل المسرحي.
للراوي وظيفتان في البنية القصصية، فهو تارة يقص ما حدث وما يحدث مسهما في الأحداث، وتارة أخرى يعلق على الحدث دون أن يسهم في صنعه. ومن ثم، فالراوي يؤدي دوراً مزدوجا في السرد القصصي، ويتأتى ذلك عبر ضفاف اللغة الوصفية.
وشكلت هذه التقنية - الراوي – التي اهتم الكفائيبرسم ملامحها بمهارة، شكلت جسراً يربط بين الأمكنة سواء أكانت مفتوحة أم مغلقة، بادية، أم مدينة، أم قرية، كما ربطت الأزمنة سواء أكانت ماضياً أم حاضراً أم مستقبلاً.
وعلى صعيدٍ آخر، فالفعل المضارع يطغى على ما عداه من الأفعال الأخرى، مما يشير إلى حضور اللحظة الآنية، المنسابة عبر تكثيف الإحساس بحركة الزمن الراهن. ونلمس ذلك بشكل جلي في غالبية القصص، وبخاصة في القصة المعنونة "زهايمر" التي تطرح رؤية للإحساس بالزمن عبر الصحو والحلم.
وجاء استخدام الراوي سمة من أبرز سمات هذه المجموعة، وشكّل عملا موفقا من الكاتب في استلهامه لتقنية من تراثنا، وفي تعامله مع حركة الزمن ودبيبه إلى الأمام.
شخصيات غير نمطية
لو تأملنا شخصيات مجموعة "يوسف" لوجدنا أنفسنا أمام عديد من النماذج البشرية، التي تعبر عن الواقع المعيش. وهي نماذج من أجيال شتى، تمثل القديم والجديد في آن.
فمثلا في قصة (وردة) تبرز شخصية المنقّبة ذات الانفعالات المتناقضة ما بين الحزم والقسوة وطيبة القلب، وشخصية الأمير ذات الحضور الشرير القوي المفزع والجلف الذي أصاب وردة بالرهاب، وغيرها من الشخصيات في باقي القصص.
كذلك نرى شخصية الأم والأب وحضورهما القوي والمؤثر في المحيطين في بعض القصص، ولا تغيب عوالم الطفولة عن مسرح الأحداث، فنرى الطفل يشكل قاسما مشتركا أعظم في كثير من قصص المجموعة، حيث نواجه رؤية للعالم المرصود من خلال عيني الطفل، بكل ما في تلك الرؤى من براءة ودهشة وتساؤل.
وإن جاءت الرؤية في قصة "وردة" من خلال عيني الطفلة أو تلميذة المدرسة عبر تداعيات الذاكرة، ولو رصدت من خلال رؤية الطفل وإحساسه، لبدا ذلك أفضل فنيا.
وليست تلك الشخصيات نمطية، برغم رسم بعضها بشكل تجريدي لا يحمل اسما، بل إنها نماذج من لحم ودم. فلم تكن شخوصا مصنوعة، إنما جاءت نماذج تحب وتكره، تقوى وتضعف.
الحلم وتجليات الإبداع
ولأن الإبداع حلم يقظة بالغ الأهمية، فليس غريباً أن يحتفي صاحب مجموعة "يوسف" بالحلم المسكون بالأمل في تغيير الإنسان نحو الأفضل ونحو الأجمل. فكل تغيير يبدأ بحلم، وكل إبداع يوّلد حلما، وكل جديد لا يخلو من إشراقة الحلم الرهيف.
وكثير من قصص المجموعة تنطوي على إشراقات الحلم بالتغيير، فالكاتب ينسج من خيوط الواقع المعيش أحلاما صغيرة للنماذج البشرية والمخلوقات الحية الأخرى، ويصوغ من ألق تلك الرؤى الإبداعية حلما كبيراً وجميلاً.
فالكبير في تلك الرؤى يحلم، وكذلك يحلم الصغير، فما أروع أن يعبر الحلم عن تطلعات الكائنات الحية إلى أشياء صغيرة في الحياة، ولكنها كبيرة في المعنى والدلالة.
ولعل هذا يكفي للإشارة إلى أن للحلم وجودا في تجليات الإبداع بصفة عامة، وفي تلك الرؤى القصصية بصفة خاصة.
اللغة والخطاب القصصي
وعندما ننظر لغة القصص نجدها لغة معبّرة عن أبعاد الشخصيات من جانب، والبيئة الريفية من جانبٍ آخر، يتحقق ذلك من خلال استخدام أسلوب المتكلم في الخطاب القصصي، إضافة إلى اللهجة المحكية المستخدمة في الحوار، وفي السرد.
ولم تخل تلك اللغة من مفردات لها دلالات في البناء الفني للقصص، منها: الخيمة، المدرسة، الخنزير، الرايات السود، الذئاب، المدينة، القرية، الدار، الحشد الشعبي...الخ.
هذه المفردات وغيرها أسهمت في تحديد الإطار الذي تدور فيه كثير من القصص، كما أسهمت في تعميق الرؤى وتكثيفها. وإلى جوار ذلك، فإن التعبير بالصورة في معظم القصص أضفى لمسات من شاعرية التعبير على أسلوب القص.
أما أسلوب الكاتب - إجمالا - فهو واضح، وبعيد عن الغموض والتعقيد مما نراه في كثير من أعمال كتّاب القصة القصيرة، في وقتنا الراهن...مثلا ما ورد في قصة "ليلة مختلفة".. (الجيب الذي كان ممتلئا بالأموال، عجز ليلة العيد ان يشتري ملابساً لأولاده).
وبما أن الرمز سمة أسلوبية من سمات القاص المتمكن من أدواته الفنية، فالرمز يأتي شفيفا، كما جاء في بعض قصص المجموعة، فالنخلة في الأدب العربي رمز تراثي للشموخ والاعتداد، والجد رمز للقديم، والناقة رمز للصبر وقوة الاحتمال، والطفل رمز للأمل والزمن القادم، والذئب رمز للغدر والخديعة.
وختاماً، فقصص (يوسف) تطرح رؤى جديدة فكراً وإبداعا، وتمثل نظرة كاتب إلى عصره وواقعة وما زامنه من أحداث وخطوب.
الناقد جوستاف سهيل/ لبنان
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟