حسين قنبر
الحوار المتمدن-العدد: 8462 - 2025 / 9 / 11 - 22:46
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
للعقل قياس: قراءة نقدية لواقع الفكر ومستقبل سوريا
بقلم المفكر والباحث الأستاذ حسين قنبر مدير مركز دراسات الشرق للسلام
المقدمة
تعاني المجتمعات التي تشهد تحولات سياسية واجتماعية من تحديات فكرية تتمثل في محاولات الخروج من إرث الماضي. سوريا ليست استثناءً، حيث تعرضت لعقود من التغييب الفكري والتضليل المجتمعي الذي انعكس سلبًا على بنية الوعي العام. وفي ظل التطلع نحو بناء مستقبل أفضل، تبرز الحاجة إلى مراجعة شاملة للإرث الفكري السابق، والبحث عن وسائل للخروج من الحلقة المفرغة التي تمثلت في إعادة إنتاج نفس الأنماط الفكرية والاجتماعية الفاشلة.
في هذا السياق، يناقش هذا البحث أهمية تحرير العقل الجمعي من قيود الماضي، والدور الذي يمكن أن يلعبه الحوار الشعبي كأساس لتأسيس مجتمع سوري جديد قائم على الحرية والعدالة والمواطنة.
الإرث الفكري الماضوي: جذور المشكلة
إن أي مجتمع يحاول النهوض من أزمات الماضي يواجه تحديات تتعلق بالإرث الثقافي والفكري الذي تركته الأجيال السابقة. في الحالة السورية، كان هذا الإرث يتمحور حول مفاهيم مثل:
تمجيد الفرد الواحد: حيث أُعيد تشكيل الوعي الجمعي ليدور حول الولاء المطلق للقائد أو النظام، مما همّش قيمة الفرد كمواطن له حقوق ومسؤوليات.
ثقافة الخنوع والخوف: تم تأسيس منظومة مجتمعية تروج لفكرة أن الخضوع والطاعة هما الضمان الوحيد للبقاء، وأن أي محاولة للخروج عن هذه المنظومة تُقابل بالقمع والتهميش.
تشويه القيم الفكرية: غُيّبت المفاهيم الأساسية للعدالة والمساواة، وتم استبدالها بتقاليد فكرية قائمة على الخرافات، والخوف من التغيير.
هذا الإرث لا يمكن تجاوزه دون مواجهة حقيقية معه، تبدأ بالاعتراف بسلبياته وأثره على حاضر المجتمع السوري. فإعادة بناء مجتمع حديث يتطلب التخلص من كل ما هو متعفن في بنية هذا الفكر.
أثر الإرث الفكري على الحاضر
يمتد تأثير الإرث الفكري القديم ليشمل مظاهر متعددة في الحاضر:
1. تراجع الإبداع: أصبحت العقول السورية في كثير من الأحيان أسيرة القيود المجتمعية والسياسية، مما أدى إلى قمع الابتكار والاختلاف.
2. غياب الحوار: ثقافة الخوف جعلت الحوار المجتمعي شبه معدوم، حيث يُنظر إلى النقاش كتهديد للاستقرار بدلاً من كونه وسيلة للتقدم.
3. إدامة الانقسام: عزز الفكر الماضوي النزاعات الطائفية والعرقية، مما أدى إلى تفكيك المجتمع وزيادة التوترات بين مختلف فئاته.
الحوار الشعبي: منهجية الإصلاح
الحوار الشعبي ليس مجرد وسيلة للتفاهم، بل هو أداة أساسية لإعادة بناء الوعي الجمعي، وتحريره من قيود الماضي. ويتميز الحوار بخصائص تجعله مناسبًا لبناء مجتمع مستدام، مثل:
الشمولية: إشراك جميع فئات المجتمع بغض النظر عن انتماءاتهم أو معتقداتهم.
التدرج: البدء بحوارات أسرية ومجتمعية صغيرة، ومن ثم الانتقال إلى نطاق أوسع يشمل مؤسسات المجتمع المدني.
الشفافية: يجب أن يتم الحوار في بيئة مفتوحة، حيث تُطرح القضايا بشجاعة دون خوف من الرقابة أو المحاسبة.
آليات تنفيذ الحوار الشعبي
1. تأسيس منصات مجتمعية: إنشاء مجالس حوارية صغيرة تضم ممثلين عن مختلف الفئات الاجتماعية، لمناقشة القضايا الجوهرية التي تؤرق المجتمع.
2. تعزيز ثقافة الحوار في الأسرة: تبدأ ثقافة التغيير من الأسرة عبر نقاش موضوعي وصريح بين الأجيال حول مستقبل المجتمع.
3. تفعيل دور المؤسسات التعليمية: يجب أن تُدرّس قيم الحوار والتسامح والنقد البناء في المدارس والجامعات، لتنشئة جيل جديد يرفض قيود الماضي.
إعداد البيئة المناسبة للتغيير
لا يمكن لأي عملية إصلاح فكري أن تنجح دون توفير بيئة ملائمة. لتحقيق ذلك، يجب:
1. مواجهة الماضي بجرأة: الاعتراف بالسلبيات التي قادت المجتمع إلى التراجع، ووضع آليات لتجاوزها.
2. تعزيز التفكير النقدي: تشجيع الأفراد على مساءلة المفاهيم القديمة بدلاً من قبولها كمسلمات.
3. إعادة بناء الثقة المجتمعية: الثقة بين الأفراد ومؤسسات الدولة ضرورة لتحقيق حوار حقيقي.
دراسة حالة: نماذج من دول مرت بتجارب مشابهة
جنوب إفريقيا بعد نظام الفصل العنصري: أطلقت عملية "لجان الحقيقة والمصالحة" التي قامت على الحوار الشامل كوسيلة لتضميد الجراح وتحقيق العدالة.
ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية: ركزت على مراجعة شاملة لتراث النازية، وتعزيز التعليم القائم على قيم الديمقراطية.
يمكن لسوريا أن تستفيد من هذه التجارب، مع مراعاة خصوصياتها الثقافية والاجتماعية.
الخاتمة
إن العقل السوري قادر على تجاوز قيود الماضي، لكنه بحاجة إلى قياس جديد قائم على قيم الحرية والعدالة والنقد البناء. لا يمكن إعادة بناء سوريا من خلال استنساخ نماذج الماضي أو التمسك بعقود من الفكر المشوه. الحوار الشعبي يمثل الخطوة الأولى نحو التغيير، إذ يُعيد بناء جسور التواصل والثقة بين أبناء الوطن.
إن مستقبل سوريا يعتمد على شجاعة أبنائها في مواجهة إرثهم الفكري المتعفن، وعلى قدرتهم في بناء بيئة جديدة تتيح للعقل أن يزدهر، وللإبداع أن يكون ركيزة أساسية في بناء سوريا الغد.
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟