مرضية صالح خليل
الحوار المتمدن-العدد: 8461 - 2025 / 9 / 10 - 00:03
المحور:
العولمة وتطورات العالم المعاصر
في زمن تتسارع فيه وتيرة التغيير، وتذوب فيه الحدود، تقف الهوية المصرية أمام اختبار حقيقي. فمصر، التي لطالما كانت مهدا للحضارة ورافدا للثقافة العربية، تجد نفسها اليوم في مواجهة مباشرة مع سيل من التواصل الثقافي والسياسي والاقتصادي، فالثقافات تتشابك بالرغم من افتراق الطرق، وما بين الماضي المتخم بمعطياته الحضارية والحاضر المتسم بإيقاعٍ عالمي متسارع، تبرز عدة تساؤلات جوهرية: هل ما زلنا كما كنا؟ هل لا تزال ملامح الهوية المصرية واضحة في وجدان أبنائها؟ أم أن موجات التغيير قد غمرت تفاصيلها، وبدّلت في ملامحها ما يصعب استعادته؟
ان المتغيرات التي رافقت ظهور التقنية، لم تقف عند حدود الانفتاح الاقتصادي او التواصل الرقمي، بل شملت كل جوانب الحياة، من أنماط الاستهلاك إلى القيم الاجتماعية، ومن التعليم إلى الإعلام، وكل مفاصل الحياة لم تسلم من التغيير، وفي هذا السياق، اصبحت الهوية الوطنية عرضة للتأثر، وأحيانًا للتآكل، إذا لم تُحصّن بالوعي والانتماء.
وفي مصر، تجلت آثار الحاضر في تغيرات ملموسة، كـ (دخول الشركات متعددة الجنسيات، انتشار المدارس والجامعات الدولية، هيمنة المحتوى الأجنبي على وسائل الإعلام، وتزايد الاعتماد على التكنولوجيا في الحياة اليومية، .... الخ)، هذه التحولات أثرت بشكل مباشر على مكونات الهوية المصرية، وطرحت تساؤلات حول مدى قدرتها على الصمود.
واذا نظرنا الى طبيعة ما يكون الهوية المصرية نجد انها تمثل نسيجاً متناغماً من التاريخ والثقافة، فهي ليست مجرد رموز أو شعارات، بل هي نسيج حي من عناصر متداخلة، تشكلت عبر قرون من التاريخ والتفاعل الثقافي. فهي تتكون من:
• اللغة العربية بلهجتها المصرية المميزة، والتي تحمل في طياتها روح الدعابة والدفء.
• الدين، الذي يشكل مرجعية أخلاقية وسلوكية في حياة المصريين، سواء في الإسلام أو المسيحية.
• التراث الشعبي، من الحكايات والأساطير إلى الأغاني الفلكلورية والموروثات الاجتماعية.
• الانتماء الجغرافي، والذي يربط المصريين بالنيل والصحراء والريف والمدن الكبرى.
• الروح الوطنية، التي تتجلى في المناسبات القومية، والأزمات، والاحتفالات.
هذه العناصر شكلت هوية متماسكة، لكنها اليوم تواجه تحديات غير مسبوقة، فعلى مستوى الخطاب الاعلامي يمكن ملاحظة ان الإعلام المصري قد شهداً نوعاً من التحول الثقافي، فمنذ الثمانينات بدأ يتأثر تدريجيًا بالإنتاج الأجنبي، ومع دخول الإنترنت، أصبح المحتوى العالمي في متناول الجميع. وهذا ما فرض تأثيراته على الذائقة الفنية، لتتراجع بعض القيم أمام نماذج جديدة، تحاول في بعض الاحيان ان تقدم او تفرض صورة غير حقيقية عن الواقع المصري، وخير دليل على قولي هو تلك الاعمال التي تُعرض في شهر رمضان المبارك، والتي نسي منتجيها أو صانعيها، ان مصر ليست لأهلها فقط، فالمنجز الفني المصري يشكل العمود الفقري للإنتاج الفني العربي، وهو يمتلك من التأثير ما يجعل منه أحد صانعي الثقافة والهوية العربية، ومع ذلك، ظهرت محاولات لإحياء التراث، مثل إعادة إنتاج الأغاني القديمة، أو تقديم أعمال درامية تُستلهم من التاريخ المصري والعربي في محاولة للحفاظ على الهوية وسط زخم التغيير.
أما على مستوى التعليم فتتجلى أزمة التدويل والخصوصية الثقافية، فالمدارس الدولية والجامعات الأجنبية أصبحت جزءًا من المشهد التعليمي المصري، مما أثر على اللغة والمنهج والانتماء، وأصبح التعليم باللغات الأخرى شائعًا، وبدأ التركيز في بعض المؤسسات التعليمية على القيم العالمية أكثر من المحلية، ورغم ذلك، هناك جهود حكومية واضحة للحفاظ على معالم الهوية المصرية في المناهج، من خلال تدريس التاريخ الوطني، والأنشطة الثقافية، مما يعكس إدراكًا لأهمية التوازن بين الانفتاح والحفاظ على الذات، وقد يتهمني البعض بالمبالغة ان قلت ان معطيات الحاضر قد أثرت حتى على واقع الأسرة المصرية، فالعلاقات الأسرية تغيرت، وتراجعت مساحة الأسرة الممتدة لصالح الأسرة الصغيرة، وأصبحت وسائل التواصل الاجتماعي الوسيلة الأساسية للتفاعل، حتى داخل البيت الواحد، البيت الذي صار شاهداً على التغيير في بعض المظاهر، فطبيعة الأزياء شهدت تغيراً ملحوظًا، والزي التقليدي تراجع لصالح الملابس الغربية، والحجاب أصبح متنوعًا في أشكاله، بين التقليدي والعصري والمظهر العام تأثر بالموضة العالمية، لكنه لا يزال يحمل بصمات محلية، خاصة في المناسبات والأعياد، وحال الفن قد لا يختلف عن ما سبق، فالموسيقى المصرية تناقلت في هواها من أم كلثوم إلى الراب المصري، لتعكس تطور الهوية، والموسيقى الشعبية لا تزال حاضرة بقوة، والراب أصبح وسيلة للتعبير عن قضايا الشباب، ويمكن القول تجاوزاً ان الفن المصري اليوم هو ساحة صراع بين الأصالة والتجديد، لكنه يظل مرآة للمجتمع، والذي لا زال يتمتع بحضور لهجته في معظم الدول العربية، إذ لا تزال اللهجة المصرية تحتفظ بخصوصيتها وروحها الساخرة المحببة. واذا نظرنا الى الفضاء الرقمي سنلاحظ انه قد أصبح جزءا من الهوية، فالمحتوى المصري عكس روح الدعابة والذكاء الشعبي، والنقاشات السياسية والاجتماعية تظهر الانتماء والوعي.
وفي المحصلة نعود الى ذات التساؤلات البسيطة، " هل ما زلنا كما كنا؟"، لكن الإجابة ليست بسيطة، فالهوية المصرية تغيرت، نعم، لكنها لم تختفِ. بل أعادت تشكيل نفسها لتواكب العصر. والانتماء الوطني لا يزال قويًا، والتراث يُعاد اكتشافه وتقديمه بطرق جديدة، والشباب يبحثون عن معنى للهوية وسط التغيرات، فالهوية ليست حجرًا، بل نهرًا يتشكل ويتجدد، مثل نيل مصر تماما، وقد نكون تغيرنا، لكننا لم نفقد جوهرنا. فالمصري يحمل في قلبه شيئا من "الشارع"، من "اللمة"، من "الضحكة"، ومن "النكهة" التي لا توجد إلا في مصر، فالهوية المصرية ليست مجرد ماضٍ، بل هي حاضر يُعاد تشكيله، ومستقبل لا ينتظر من يرسمه.
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟