زياد شبيب
الحوار المتمدن-العدد: 8460 - 2025 / 9 / 9 - 20:52
المحور:
قضايا ثقافية
يصعب الحديث عن الدّكتور عبد الحسين شعبان وصفاته ومزاياه الشّخصيّة الّتي يُجمِع عارفوه على وفرتها، ولكنّ المهمّة تسهل حين تُدرك أنّ الكلام عنه يبعث على الشُّعور بالرّضى مهما كان قاصراً عن إيفاء الرّجل حقّه.
هذا ولأنّ الخوض في قراءة الشّخص وتجربته الغنيّة تُشكّل فرصة للتّعبير بموضوعيّة عن أهمّيّة المزايا الشّخصيّة في تكوين الحالة التي يتحوّل إليها الإنسان الغزير العطاء وأهمّيّة هذا المزيج المُميّز بين المُكوّنات الدّاخليّة والشّخصيّة.. وعطاءات الإنسان المُبدع وثماره، فتتكشّف لك كيفيّة تحَقُّق مقولة: «مِن ثمارهم تعرفونهم».
عبد الحسين شعبان من هؤلاء المبدعين الّذين إذا التقيتهم شخصيّاً بعد أن تكون قد تعرّفت إليهم من خلال أعمالهم تفرحُ وتُسرّ لِتَطابُق الصّورة والانطباع المُتَكوّنَين عنه مع حقيقة شخصه الّذي يفيض لطفاً ودماثةَ خلقٍ وسلامَ نفسٍ وأناقةَ حديثٍ واتساعَ علمٍ وموسوعيّةَ اطّلاعٍ ومعرفةٍ.
لا حاجة لك أن تعرف الرّجل منذ زمان طويل لتكتشف حقيقته وتعرف فوراً أنّه صاحب رسالة سوف يُؤدّيها حتّى آخر نفس.
وبالفعل، إنّ ثمار عبد الحسين شعبان تعكس حقيقة تكوين هذا الرّجل الغزير العطاء، والغزارة عنده لم تنتقص من ثراء المضمون أو جِدّته ولم تُوقِعْهُ في التّكرار أو الرّتابة، إنّما أَثْرَت أعماله تَنَوُّعاً وعمقاً وشُمولاً. فمن الحقوق والدّساتير والمواثيق الضّامنةِ السّلام واللّاعنف، إلى فقهٍ لا يهتمّ إلّا بما هو أَبْقَى وأكثر إلحاحاً للنَّوع البشريّ واستمرارِه وهو فقه التّسامُح، إلى قضايا العرب والعالم من مُنطلَق غِنى التّجربة العراقيّة وجراحِها المفتوحة، إلى الرّسالة القائمة على تحديث الحقبة الّتي نشأ فيها ونقلها إلى من سوف يتولّون النّهضة المستقبليّة، وكأنّه يتولّى مُنفَرداً رُبّما التّأسيس لتلك النّهضة المَأْمولة، وهذا عبر تجديد فِكر تلك الحقبة والاستمرار بالخَوض فيه دون الاكتراث إلى الشّعور السّائد بعدم الجدوى، وعبر إعادة الاعتبار إلى كبار المُفَكّرين والمُبدِعين والشُّعراء الّذين صنعوا فِكر القرن المُنصَرِم وإبداعاتِه.
من هذا المُنطلَق ينبغي الخوض في تجربة عبد الحسين شعبان ومن باب كَوْنِه صاحبَ رسالة تَنَكَّبَ عناء حملها مُنفرداً. وانفراده في ذلك الحمل لا يعني بالضّرورة أنّه وحيد في المِضْمار ولا يعني غياب الآخرين، إنّما هو حالة ذاتيّة أو شعور داخليّ عميق إذا ما وُجد في إنسان معيّن أحسّ بأنّه صاحب رسالة دُعي إلى تحقيقها في هذا الاتّجاه.
وأصحاب الرّسالة يتولّون تَأْدِيَتَها بِصَرف النّظر عن وجود المُؤيّدين والمُساعدين أو عن أعدادهم. وما يدفعهم إلى تكريس الذّات لتحقيق الرّسالة هو ذلك الصّوت الدّاخليّ الّذي لا يعرفه إلّا من يحمله، والّذي يجعل منه مسكوناً به وحاملاً همّ تحقيقه بحيث تتحوّل الدنيا إلى ميدان ويقتصر الوجود على المعركة الّتي يخوضها لأنّها يجب أن تُخاص بغضّ النّظر عن حسابات الفوز، وإذ به يُحقّق فوزاً عظيماً قد يحصده في حياته أو تأتي ثماره لاحقاً بعد الغياب.
يعتبر كثيرون أنّ المرحلة الرّاهنة هي مرحلة انحطاط بسبب الخَيْبات الكثيرة الّتي آلَمَت العالم والمنطقة، والّتي أصابت أكثر ما أصابت أصحاب الفكر والطّموحات الكبرى في البلاد العربيّة والشّرق عموماً.
وإذا كان النّقاش في مسألة الانحطاط مطلوباً ومشروعاً لتحديد معايير التّوصيف وقواعد المُقارنة مع الحقبات الماضية، ولفهم أسباب الانحطاط إذا ثبت وقوعُهُ وأسباب وشروط الخروج منه إلى نهضة جديدة، وهو نقاش دائر في دار النّهار للنشر في بيروت وورشة قائمة فيها ومع كتّابها، فإنّ التّأسيس لنهضة جديدة أو الإسهام في إطلاقها يكون بِرَدم الهُوّة بين الماضي والقادم، ولا سيّما على مستوى المفاهيم، وعبر العمل على إبقاء أعمال مَن سبقوا حيّةً وجاهزةً لتكون المنبع الّذي سينهل منه نهضَوِيّو العصر القادم.
هذه المهمّة يتولّاها الدّكتور شعبان، ويعتبر أنّه مسؤول عنها شخصيّاً وذلك بطريقتين: الأولى تقوم على إعادة إحياء أَعمال كِبار العصر المُنصَرِم وإعادة الاعتبار إلى من يحتاج منهم إلى ذلك وتقديمهم إلى الجيلَيْن الحاليّ والقادم؛ أمّا الثّانية فتتعلّق بتجربته بحدّ ذاتها، والّتي تتمثل بالمثابرة على العطاء المُستمرّ والمُتواصِل، وإقامة جسر ما بين حقبتَيْن مُنفصلتَيْن يمتدّ من منتصف القرن الماضي على الأقلّ ويصل إلى العقد الثّالث من القرن الحاليّ على أقلّ تقدير، ويمتدّ إلى سنين عديدة قادمة، هو بِحدّ ذاته جسر بين نهضة سابقة ونهضة قادمة. وهذا ما يجعل تجربة الدّكتور شعبان ودوره على درجة عالية من الأهمّيّة، وما يجعل العمل معه في مجالَـي الفكر والنّشر يتخطّى المهنةَ وظروفَها وقواعدَها الرّاهنة وينتمي إلى حَيّـز الرّسالة المُشتَـرَكة.
في المرّة الأولى الّتي حلّ فيها عبد الحسين شعبان في دار النّهار، نشرت له عملاً من أهمّ نتاجاته حول «فقه التّسامح في الفكر العربيّ الإسلاميّ». كان ذلك في العام 2005 أي في مرحلة عرف فيها عالمنا العربي عموماً، والعراق خصوصاً، فُصولاً من السّواد قلّ نظيرها في التّاريخ، فكان كتاب عبد الحسين شعبان عن فكر التّسامح شمعة أمل في ظلام هائل. وفي مُقدّمة ذلك الكتاب قال المطران جورج خضر إنّ «عبد الحسين شعبان لا (يخترع) إسلامه ولا يبتدع. هو لا (يُعَصْرِن) القرآن، ولا يُسقط عليه أُفهومات ليست منه، بل يأخذ نفسه بما فيها من حداثة إليه، وهذا ليس بالتّوفيقيّة الرّخيصة، إنّه سعي إنسان يفتح عقله المجبول بالحضارات ليتقبّل النّور الإلهي الّذي يقذفه الله فيه».
بعد تلك التّجربة المُميّزة عاد اليوم الدّكتور عبد الحسين شعبان المُتعدّد الاهتمامات الفكريّة والثّقافية إلى دار النّهار ليكون حاضراً في نُهوضها المُتَجدّد، فأصدرت له كتاباً عن صديقه الشّاعر العراقيّ الرّاحل مُظفّر النّوّاب بعنوان: «مظفّر النّوّاب – رحلة البنفسج». وأتى هذا الكتاب ليكون أوّل كتاب يجمع شتات مُظفّر النّوّاب. وبالنّظر إلى فرادته وأهمّيّة موضوعه، أُقيمت حوله ندوات ومناقشات، وكُتِبت عنه دراسات ومقالات كثيرة.
في ذلك الكتاب، كما في كُتب أخرى مُتعدّدة، صدرت عن دُور نشر مُختلفة، حقّقَ عبد الحسين شعبان هذا الجسر بين حقبتَيْن؛ إذ لم يقتصر الكتاب على رواية سيرة صديقه الشّاعر مظفّر النوّاب أو علاقته به أو علاقة الأخير بالسّياسة والفكر والشّعر والعراق والعُروبة واليسار أو غير ذلك، بل إنّه استعاد تلك الجوانب كُلَّها ووَلَجها من مفتاح عقله «المجبول بالحضارات» والمُطِلّ على العصور الآتية مُشْبَعاً بثقافة الماضي الجميل، بحيث أتاح لهذه الثّقافة أن تُصبحَ آنيّةً مُجدَّداً، وأن يُستحضَر مظفّر النواب بإبداعه وآلامه ومَنْفاه وخَيْباته وآماله الّتي ليست سوى آمال ونضالات وخيبات العراقيّين وكثيرين من العرب، لِيُقدّمه نموذجاً حيّاً الآن وهنا، في بيروت وبغداد وجنوب العراق وحيثما حلّ في المدن والعواصم، وأن يُثْبِت أنّ قضيّة النوّاب، وهي أيضاً قضيّة شعبان نفسه، لم تنتهِ، ونضاله ونضال أمثاله إلى جانب المظلومين والفقراء ولأجل العدالة الإنسانيّة، لم تنطفئ شعلتُه، وأنّ مدرسته الشّعريّة لم تنضب ولن تنتهي، بل سوف تنتقل إلى جيل نهضويّ قادم بدأ التّأسيس له عبر كتابات شعبان وسواه من المُبدعين المُخَضرمين.
بعد النجاح الكبير لهذا الكتاب أعادت دار النهار نَشْر كتاب «فقه التسامح في الفكر العربي الإسلامي» في طبعة ثانية في العام 2024، تأتي في تَوْقيت ذي أهمّيّة كبيرة في لبنان وفي العالم، حيث تتراجع فكرة التّسامح وتبرز أشكال جديدة من الكراهية وعدم قبول الآخر ورفض العيش المُشتَرَك.
يُشدّد الدّكتور شعبان على المَعنى المُعاصر لفكرة التّسامح، والّتي لم تَعدْ واجباً أخلاقيّاً وسُلوكيّاً أو مبادئ ودعوات دينيّة أو سياسيّة فحسب، بِقَدْر ما هي واجب قانونيّ لإقرار التّعايُش والتّعدُّديّة والتّنوّع وحقّ الاختلاف والدّعوة للمُشترك الإنساني. وهنا تَكْمن أهمّيّة هذه الفكرة الّتي يجب أن تكون أساساً لتكوين المجتمعات وللدّساتير الّتي تحكمها، وشرطاً مِن شروط العمل العامّ وتَوَلّي السّلطة للقوى السّياسيّة المُتَنافسة على الحكم في المُجتمعات المُتنوّعة.
الحُرّيّة وفِكر التّسامح ضمانة أساسيّة مطلوبة في كلّ المجتمعات بما فيها الّتي تبدو بظاهرها من لون واحد، لأنّ كلّ المجتمعات تعَدُّديّة في الواقع، وهذا ما يشرحه أديب صعب صاحب النّظريّة في فلسفة الدّين، ويعتبر أنّه «حتّى في الحكم المذهبيّ الواحد حيث يقوم اليوم، نجد ما يُسمّى خطّاً مُنفتحاً أو مُتحرّراً وخطّاً مُتشدّداً أو مُنغلقاً، مع ما بينهما من خطوط تميل ذات اليمين أو ذات اليسار». ويُضيف أنّه «لا إكراه في الدّين»، فلا إكراه أيضاً في نظام حُكم قائم على الدّين». (وَحدة في التّنوُّع، دار النّهار)
صحيح أنّ فلسفة التّسامح أو قبول الآخر عرفت مذاهب مُتعدّدة، منها من قال، كإدوارد كوبر، إنّ المجتمع المُتسامح يجب أن يكون قبولُه الآخَرَ المُختلفَ مَحدوداً، وبالتّالي قائماً على شرط هو أن يكون هذا الآخر من النّوع الّذي يقبل الرّأي الآخر أيضاً، وإلّا كان مصير هذا المجتمع أن يُنهي نفسه بنفسه؛ ومنها من قال إنّ قبول الرّأي الآخر يجب أن يكون مُطلقاً وغير مشروط كما نادى نعوم تشومسكي وآخرون. لكن في بلادنا، أيّ من المذاهب ليس مُعتَمداً، وقبول الآخر مُرتبط بإخضاعه أو تَخَلّيه، صدقاً أو نفاقاً، عن رأيه المختلف وبالتّالي زَوال كَوْنِه آخَرَ.
في لبنان مثلاً يرتبط رفض الآخر بتكوين القوى السّياسيّة فيه، والّتي تشترك كلّها في صفات عديدة تجعل منها ذات طبيعة مشتركة، ولا يُمكنها التعامل مع الآخر إلّا من باب التّعايش لأنّها كِيانات دينيّة و/أو طائفيّة على أقلّ تقدير، والاختلاف معها يعني الاختلاف مع عقيدة دينيّة أو مع جماعة دينيّة بكاملها، ومن هنا يأتي ردّ الفعل عندها جميعاً أقرب إلى تَكْفير الآخر المُنتَقِد لها.
إنّ أيّ أمل بنهوض قادم يرتبط بوجود ظروف مؤاتية، أوَّلها مناخ الحرّيّة وفِكر التّسامح تجاه الرّأي المُختلف، وبوجود من يؤمن بهذه الثّوابت ويعمل على تحقيقها لا بل ينذر نفسه وعمره لهذه الغاية النّبيلة، وعبد الحسين شعبان رائد في هذا المجال.
- مساهمة الدكتور زياد شبيب في كتاب جمر الحروف الذي صدر عن دار سعاد الصباح تكريمًا لدكتور عبد الحسين شعبان في يوم الوفاء 2024.
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟