فؤاد غربالي
الحوار المتمدن-العدد: 8460 - 2025 / 9 / 9 - 10:52
المحور:
الحركة العمالية والنقابية
من جديد، يعود الاتحاد العام التونسي للشغل إلى صدارة النقاش الوطني، بعد تنظيمه تجمّعاً نقابياً في 21 آب/أغسطس المنصرم دفاعاً عن الحق النقابي. غير أنّ ما يبدو صراعاً مباشراً بين النقابة والسلطة يخفي طبقات متشابكة من التوترات: بين الماضي والحاضر، بين الشرعية التاريخية والواقع المتغيّر، وبين الدور المعلن للاتحاد كحامي للطبقة العاملة ودوره غير المعلن كوسيط ومُنتِج لشبكات مصالح. ولذلك تكشف قراءة سوسيولوجية وأنثروبولوجية أن ما يحدث لا يندرج في إطار صراع طبقي صرف، بل هو خلاف مركّب تتخلّله تناقضات داخلية وخارجية تجعل المشهد أكثر التباساً.
الاتحاد، الذي رآكم رأسمالاً رمزياً منذ الاستقلال، يقدّم نفسه باعتباره الضامن للحقوق الاجتماعية و«صوت الشغيلة». لكن قاعدته الاجتماعية الحقيقية تتمثل بالأساس في الطبقات الوسطى من موظفي الدولة والقطاع العام، أي الشرائح الأكثر حساسية إزاء انهيار القدرة الشرائية واستفحال الأزمة الاقتصادية. يجعل هذا التموضع الاتحاد قوة تفاوضية لا يمكن تجاوزها، لكنه في الآن نفسه يحدّ من طابعه «الثوري»، إذ يتحول إلى وسيط يسعى لحماية موقع اجتماعي أكثر من سعيه لإعادة قلب موازين القوى. إنّه يرفع خطاباً جذرياً لكنه يمارس براغماتية عالية في الكواليس.
من جهة السلطة، يبرز قيس سعيّد كرئيس أعاد تشكيل المشهد السياسي على قاعدة مركزية القرار، مستبعداً الوساطات التقليدية. لا يتعلّق خلافه مع الاتحاد بالملف النقابي فقط، بل أيضاً بالصراع على من يملك حق التحدث باسم «الشعب». يرفض الرئيس أن يرى في الاتحاد شريكاً، ويتعامل معه كقوة من المحتمل أن تزاحمه على الشرعية. المفارقة أن الطرفين يلتقيان موضوعياً في رفض شروط صندوق النقد الدولي والتفريط في المؤسسات العمومية، لكنهما يختلفان في من يحتكر تعريف المصلحة الوطنية وكيفية إدارة الأزمة الاجتماعية. ترفع السلطة شعار السيادة الاقتصادية لكنها تعمل على تقليص هامش الفعل النقابي، ويرفع الاتحاد شعار الدفاع عن الشغيلة بينما يطالب بالانخراط في مفاوضات لا تنفصل عن رهانات الاستقرار.
يتقاطع هذا المستوى من التناقض الخارجي مع صراعات داخلية حادّة داخل الاتحاد نفسه. شكّل الفصل 20 من نظامه الداخلي، الذي يحدّد المدة النيابية للمكتب التنفيذي، محوراً لخلاف جوهري بعد أن تم الالتفاف عليه من طرف القيادة الحالية. ويطرح هذا الانقلاب الداخلي سؤال الديمقراطية النقابية ويكشف أن الاتحاد، وهو يطالب بالديمقراطية والشفافية في المجتمع، يعاني بدوره من أزمة في التداول داخل هياكله. هنا يظهر أن الاتحاد ليس قوة اجتماعية تواجه الدولة فقط، بل أيضاً جهازاً بيروقراطياً يواجه داخله تحدي الشرعية بين قواعده وقياداته.
إلى جانب الصراع الداخلي بشأن الفصل 20، يطرح ما يُعرف بـ «الريع النقابي» بعداً إضافياً. يتدخّل الاتحاد، بفضل نفوذه المتجذّر في مفاصل الدولة، بشكل غير مباشر ( وأحيانا مباشر) في التعيينات والانتدابات، ويؤثر في توزيع بعض المنافع داخل المؤسسات العمومية. ويحوّل هذا الدور غير المعلن النقابة من مجرد فاعل احتجاجي إلى شبكة مصالح زبونية تمنح امتيازات لقيادات جهوية ووطنية. وبذلك تتشكل طبقة نقابية مستفيدة من وضعها داخل الجهاز، قادرة على استخدام الشرعية التاريخية لتبرير امتيازاتها، ما يزيد من الفجوة بين الخطاب النضالي والممارسة الفعلية.
يجعل هذا التموضع الاتحاد قوة تفاوضية لا يمكن تجاوزها، لكنه في الآن نفسه يحدّ من طابعه «الثوري»، إذ يتحول إلى وسيط يسعى لحماية موقع اجتماعي أكثر من سعيه لإعادة قلب موازين القوى
تجعل هذه الأبعاد مجتمعة من العلاقة بين الاتحاد والسلطة علاقة مزدوجة: مواجهة من جهة، وتواطؤ ضمني على إدارة الأزمات من جهة أخرى. فبينما يرفع الاتحاد شعار حماية المكاسب الاجتماعية، يجد نفسه مطالباً بضبط الشارع ومنع الانفجار. وبينما يعلن الرئيس رفض الإملاءات الدولية، يجد نفسه في حاجة لتمرير إصلاحات قاسية من دون الدخول في مواجهة شاملة مع النقابة. النتيجة أن كل طرف يستخدم الآخر: توظّف السلطة الاتحاد كوسيط ضروري، ويوظّف الاتحاد السلطة كخصم يبرر بقاءه في صدارة المشهد.
ما يزيد المشهد تعقيداً هو البعد الرمزي. يتحوّل كل تحرك نقابي إلى عرض جماهيري يؤكد صورة الاتحاد كقوة وطنية، ويتحوّل كل رد فعل من السلطة إلى رسالة بشأن قدرتها على الضبط والسيطرة. تتحوّل الساحة إلى فضاء مسرحي يُعاد فيه إنتاج صور متعارضة: الاتحاد كمدافع عن الحقوق، والسلطة كحامية للنظام. لكن خلف هذه الصور، تكمن شبكة من المساومات الصامتة التي تضمن استمرار اللعبة.
وفي ظل الأزمة الاقتصادية الحادة، يصبح هذا الخلاف أكثر وضوحاً: يطالب الاتحاد بزيادات وحماية القدرة الشرائية، لكنه يعرف أن المالية العمومية عاجزة عن ذلك. ترفض السلطة المساس بالمؤسسات العمومية لكنها تعجز عن إيجاد موارد بديلة. في النهاية، يتحول الخلاف إلى تفاوض على تقاسم الخسائر أكثر من تفاوض على اقتسام الأرباح. والنتيجة أن كل طرف يرفع خطاباً مبدئياً يخاطب قواعده، بينما يمارس براغماتية عالية لتأمين استمراره.
تبيّن قراءة هذا المشهد أن الاتحاد العام التونسي للشغل لا يتحرك اليوم باعتباره طليعة طبقية تقود معركة مبدئية، بل كوسيط معقّد يمثل الطبقات الوسطى، يوازن بين دوره الاحتجاجي ودوره في إنتاج مصالح داخلية. أما السلطة، فهي بدورها لا تخوض صراعاً لإلغاء الاتحاد بل تستخدمه كفاعل ضروري، حتى وهي تعمل على تحجيمه. ما يبدو صراعاً مبدئياً يتحوّل في الواقع إلى خلاف براغماتي متعدد المستويات: داخلياً بين القيادة والقواعد، وخارجياً مع الرئيس، وضمنياً في إدارة شبكة المنافع داخل الدولة.
الاتحاد العام التونسي للشغل: من الثورة إلى زمن الانتقال الديمقراطي
مع اندلاع ثورة 2010–2011، وجد الاتحاد العام التونسي للشغل نفسه أمام لحظة تاريخية كشفت تناقضاته البنيوية. فمن جهة، كان جهازه البيروقراطي المركزي متردّداً، متوجساً من الانخراط الكلي في حركة اجتماعية قد تُفقده ما راكمه من شرعية تفاوضية مع الدولة. ومن جهة أخرى، أدّت القيادات الوسطى والجهوية دوراً حاسماً في تغذية الحراك وتنظيمه، لتصبح أحياناً أكثر قرباً من الشارع الثائر من المركز النقابي نفسه. وقد مثّل هذا الانقسام بين التوجس في الأعلى والديناميكية في القاعدة إحدى المفارقات الكبرى التي طبعت علاقة الاتحاد بالثورة.
بيّنت الدراسات السوسيولوجية للنقابات أن الأجهزة النقابية المركزية تميل إلى المحافظة والتوجس في لحظات التحوّلات الجذرية، نظراً لارتباطها بشبكات التفاوض مع الدولة وحرصها على الاستمرارية المؤسساتية (Béroud, Giraud, Hyman). وهو ما حصل مع الاتحاد، حيث تجنّبت القيادة المركزية الدعوة الصريحة إلى إسقاط النظام، مكتفية ببيانات غامضة وتأطير محدود للإضرابات. في المقابل، تحركت الهياكل الجهوية في سيدي بوزيد، القصرين، قفصة، وصفاقس لتؤدّي دوراً ميدانياً بالغ الأهمية: تأطير المظاهرات، تنظيم الاعتصامات، وضمان الاستمرارية اليومية للاحتجاج. هذا ما لاحظه باحثون مثل Joel Beinin وÉric Gobe، الذين أشاروا إلى أن الاتحاد لم يكن في البداية «قائداً للثورة»، بل ساهمت قواعده الجهوية في إعطاء الشرعية الاجتماعية للاحتجاجات، وهو ما أضعف قدرة النظام على قمعها.
تساعد الأنثروبولوجيا السياسية على فهم هذه المفارقة: تتصرّف البيروقراطية النقابية بحذر لحماية موقعها المكتسب داخل الدولة، بينما تعيش الفروع الجهوية الضغط المباشر للبطالة والفقر والتهميش، فتصبح أكثر استعداداً للانخراط في مواجهة مفتوحة. لقد شكّل هذا التفاوت بين المركز والجهات نقطة انعطاف، إذ سرعان ما وجدت القيادة المركزية نفسها مضطرة للحاق بالشارع بعد أن تحوّلت احتجاجات الفروع إلى قوة لا يمكن احتواؤها. وهكذا، تحوّلت التردّدات الأولى إلى انخراط تدريجي، وهو ما أعطى للثورة بعدها الوطني وجعلها أكثر من مجرد انتفاضة محلية.
لكن لم يكن الدور الأكبر للاتحاد في قيادة الثورة نفسها، بل في المرحلة التالية: زمن الانتقال الديمقراطي. هنا برز الاتحاد كفاعل سياسي بامتياز، ليس في الدفاع عن الحقوق الاجتماعية فقط، بل أيضاً كوسيط وطني بين القوى المتصارعة. تؤكد الدراسات المقارنة عن دور النقابات في فترات الانتقال (Offe, Habermas, Streeck، وأيضاً Hyman وGumbrell-McCormick) أن النقابات تتحوّل في لحظات الأزمات السياسية إلى أدوات لإعادة بناء الشرعية عبر التفاوض، وهو ما جسّده الاتحاد التونسي. ففي سياق الترويكا والصراعات الحزبية، دخل الاتحاد على الخط كوسيط مقبول، ليستوعب التوترات ويحوّلها إلى حوار وطني.
من خلال هذا الدور، انتقل الاتحاد من الفعل الاحتجاجي إلى فعل تأسيسي. لم يعد مجرد نقابة بل تحول إلى أحد أعمدة الدولة الجديدة، حيث كان أحد الموقّعين على «قواعد اللعبة» التي حكمت الانتقال: دستور 2014، والحوار الوطني الذي حاز جائزة نوبل للسلام. وبذلك، صار الاتحاد فاعلاً ضامناً للاستقرار السياسي، مستثمراً رأسماله الرمزي الذي بناه في الشارع ليكرّس نفسه قوة تفاوضية في السياسة العليا. جعلت هذه التحوّلات منه نموذجاً فريداً في العالم العربي، كما أشار الكثير من الباحثين (Beinin, Yousfi, Cavatorta, Allal).
الاتحاد لم يكن في البداية «قائداً للثورة»، بل ساهمت قواعده الجهوية في إعطاء الشرعية الاجتماعية للاحتجاجات، وهو ما أضعف قدرة النظام على قمعها
غير أن هذا المسار حمل في طياته تناقضات جديدة. فمن ناحية، عزّز الاتحاد مكانته كقوة وطنية جامعة، لكنه من ناحية أخرى انخرط في حسابات مؤسساتية قريبة من منطق الدولة أكثر من منطق الحركة الاجتماعية. لاحظ الباحثون الذين درسوا العلاقة بين النقابات والديمقراطية (Béroud, Yon, Urban) أن النقابات التي تدخل لعبة التوافق تصبح أقل راديكالية وأكثر حرصاً على الاستقرار. وهذا ما بدا جلياً في تونس: لم يعد الاتحاد فاعلاً تعبوياً صِرفاً بل أصبح ضامناً للنظام، مشاركاً في هندسة التوازنات أكثر من دفعه نحو تحولات جذرية.
المفارقة إذن أن الاتحاد كان متردداً في قيادة الثورة حين كانت قواعده تتحرّك، ثم أصبح قائداً لمسار الانتقال حين كان الحقل السياسي في أزمة. أي أنه رفض في البداية تأدية دور «الطليعة الثورية»، ثم قبل لاحقاً بتأدية دور «الوسيط الوطني». يعكس هذا التحول جدلية عميقة: تخشى النقابة كجهاز بيروقراطي الانفلات لكنها تعرف كيف تستثمر اللحظة لتؤكد موقعها التاريخي. وقد أكّد الباحثون الإيطاليون (Colombo, Paciello) والبرتغاليون (Seabra, Lopes) الذين قارنوا تجربة الاتحاد مع حالات أخرى في الجنوب العالمي أن هذه الازدواجية بين التردد الأولي والانخراط اللاحق تكشف عن طبيعة النقابات كـ«قوى وسيطة» أكثر منها قوى ثورية.
في النهاية، يمكن القول إن الاتحاد العام التونسي للشغل جسّد في مساره منذ الثورة إلى الانتقال الديمقراطي تلك المفارقة البنيوية: لم يكن قائداً مباشراً للثورة لكنه كان فاعلاً رئيساً في الانتقال. لم تأت قوته من ريادته في الشارع بل من قدرته على تحويل الشرعية الاحتجاجية إلى شرعية تفاوضية. هكذا وقّع الاتحاد قواعد اللعبة، مثبتاً أنه لا يمكن لتونس أن تستقر من دونه، وأن النقابات ليست صوت العمّال فقط بل أيضاً مؤسسات لإدارة الأزمات وصياغة النظام السياسي.
الريع النقابي وصراع المواقع داخل الاتحاد: قراءة سوسيولوجية مقارِنة
يُفهَم الريع النقابي داخل الاتحاد العام التونسي للشغل كمنظومة موارد مادية ورمزية تتولّد من موقع احتكاري في الوساطة بين الدولة والمؤسسات العمومية من جهة، والفاعلين الاجتماعيين من جهة أخرى، أكثر مما يتولّد من السوق أو من الإنتاج نفسه. في هذا الأفق، لا يعود الحديث عن «امتيازات» أفراد بقدر ما هو عن اقتصاد سياسي للوساطة: قدرة الجهاز النقابي على ترسيم الحدود بين ما يُسمح وما لا يُسمح به في التعيينات والانتدابات والحركات المهنية، وما يستتبعه ذلك من فرصٍ لإعادة توزيع المنافع داخل الحقل العمومي. ما يظهر خارجياً على أنه دفاعٌ عن «المرفق العام» و«السيادة الاجتماعية» يتقاطع داخلياً مع إدارة شبكات تأثير قادرة على منح الحماية أو تعطيل القرارات أو تمريرها؛ من هنا يتغذّى صراع المواقع: منافسة على الوصول إلى مفاصل القرار داخل الاتحاد، لأن الاقتراب من مركز الوساطة يعني الاقتراب من مصادر الريع.
تشير الأدبيات المقارنة عن النقابات في أوروبا (Hyman, Gumbrell-McCormick؛ Béroud) وأميركا اللاتينية (Antunes) إلى أن البيروقراطية النقابية تميل، كلّما ترسّخ موقعها داخل الدولة، إلى تطوير «عقل تدبيري» يحوّل الاحتجاج إلى قابلية للتبادل: تنازلات اجتماعية مقابل تمكين تنظيمي، وولاءات داخلية مقابل فرصٍ مهنية. في الحالة التونسية، يُضاف إلى ذلك رصيدٌ رمزي تاريخي يجعل من الاتحاد «باباً لا بديل عنه» لأي حكومة تريد اجتياز أزمات الأجور أو إصلاح المؤسسات العمومية؛ وهذه الندرة في البدائل، على طريقة تحليل الموارد والقيود، تُنتج ريعاً سياسياً خالصاً: ثمن المرور الإجباري عبر وسيط واحد. هنا يصبح «التمثيل» مورداً حقيقياً: من يمتلك شرعية مخاطبة الدولة يمتلك القدرة على تحويل الخطاب إلى مكاسب. ومع تراكم هذه القدرة، ترتفع كلفة التداول الداخلي، فتظهر مقاوماتٌ لتجديد النخب؛ لهذا يغدو الجدل بشأن الفصل 20 أكثر من نقاشٍ قانوني هو معركة على إعادة توزيع الريع التنظيمي: هل يبقى مركّزاً في يد قيادة راكمت شبكاتها، أم يُعاد فتحه عبر تداول فعلي؟
تلاحظ أعمال Éric Gobe وJoel Beinin عن الحقل النقابي التونسي بعد 2011 أن الاتحاد انتقل من دور التعبئة الميدانية الذي قادته قواعد جهوية ووسطى إلى دور الضامن المؤسسي في الانتقال، ما رفع قيمة موقعه الوسيط زيادةً مضاعفة: داخلياً كسلّمٍ للترقّي التنظيمي، وخارجياً كمدخلٍ لا غنى عنه لصنع السياسات. يُنتج هذا التحوّل مفارقة دقيقة: كلما ارتفعت قيمة الوساطة، ازداد الميل إلى احتكارها وتقنين الوصول إليها؛ فتُستثمر اللغة النضالية لحماية امتيازات هي في الجوهر تنظيمية/مؤسسية. من زاوية «موارد القوة النقابية» (Lévesque & Murray؛ Pulignano)، تُصبح الشبكات، والخبرة الإجرائية، وامتلاك مفاتيح الإدارة العمومية مواردَ قابلة للتحويل إلى مكاسبٍ لأفراد ودوائر، لا سيما في القطاعات ذات الكثافة النقابية العالية؛ ويتحوّل «المجال العام» الذي يفترض الانفتاح إلى مجالٍ انتقائي يعترف بمن يملك مفاتيحه. في أوروبا، وثّق Hyman وBéroud كيف تولّد هذه الدينامية انقساماً دائماً بين بيروقراطية تعاقدية تميل إلى الاستقرار وقواعد تعبويه تميل إلى التصعيد؛ وفي تونس يظهر الشكل ذاته مع تلوينٍ محلي: قيادات جهوية تملك شرعية القرب من الضغط الاجتماعي، في مقابل مركزٍ يملك شرعية الوصول إلى الدولة. في لحظات الأزمات، يتّسع هامش التبادل: يمكن لمركزٍ قويّ أن يحوّل تعبئة القواعد إلى ورقة تفاوض، ولدوائرٍ داخلية أن تحوّل قربها من القرار إلى امتيازات ولائية (العضوية في وفود التفاوض، مواقع في هياكل عمومية، أولوية في الحركات المهنية). ويُفيد تحليل Béatrice Hibou لاقتصاد الطاعة هنا: ليس المطلوب قمع المطالب بل إدارتها عبر قنواتٍ معروفة وكلما تضخمت هذه القنوات، تضخّم ريعهـا.
الإصلاح المؤسسي للنقابات ينجح حين يُعاد تعريف شرعية القيادة من القدرة على استخراج المكاسب إلى القدرة على توزيع فرص المشاركة، أي نقل مركز الثقل من «ريع الوساطة» إلى «ريع التنظيم»
في المقابل، تُظهر مساهمات Urban وSchroeder في السياق الألماني أن كبح الريع التنظيمي ممكن عبر شفافية التعاقد الداخلي وحدودٍ زمنية صارمة للمسؤوليات؛ وهي دروس قابلة للاقتباس محلياً: ضبط مدد المسؤوليات (جوهر الفصل 20)، نشر محاضر التفاوض، فصل التمثيل النقابي عن مسارات التعيين الإداري، وتحييد «تعارض المصالح» داخل المؤسسات العمومية. تضيف المقارنة الإيطالية (Carrieri & Feltrin؛ Bordogna & Cella) أن الإصلاح المؤسسي للنقابات ينجح حين يُعاد تعريف شرعية القيادة من القدرة على استخراج المكاسب إلى القدرة على توزيع فرص المشاركة، أي نقل مركز الثقل من «ريع الوساطة» إلى «ريع التنظيم» (تكافؤ النفاذ، تناوب، رقابة قاعدية).
خلاصة القول: الريع النقابي داخل الاتحاد ليس حادثاً عرضياً بل ناتجٌ بنيوي عن ندرة الوساطة وعن تراكم رأسمال رمزي/إجرائي يصعب منافسته؛ وصراع المواقع ليس خروجاً عن المنطق النقابي بل تجلٍ له حين يغيب الضبط المؤسسي ويُترك التمثيل بلا تناوب. الإصلاح، إذاً، لا يمرّ عبر أخلقة السلوك فقط، بل عبر هندسةٍ تنظيمية تُقلِّل من إمكان الاحتكار وتُعيد وصل القيادة بالقواعد: شفافية، تداول فعلي، وفصلٌ واضح بين من يفاوض باسم الشغيلة ومن يقرّر في شؤون الإدارة. بهذه الشروط يمكن تحويل الوساطة من مورد ريع إلى مؤسسة عمومية للمصلحة المشتركة.
المعارضة النقابية: من جدل الفصل 20 إلى تشكّل تيار داخل الاتحاد
عندما برز الحديث عن «المعارضة النقابية» داخل الاتحاد العام التونسي للشغل، كان السياق المباشر هو الجدل بشأن الفصل 20، الذي يحدّد المدة النيابية للمكتب التنفيذي الوطني ويمنع إعادة انتخاب القيادة نفسها إلى ما لا نهاية. ما إن وقع الالتفاف على هذا الفصل من طرف القيادة، حتى انفجر خلاف داخلي وظهر تيار يقدّم نفسه اليوم بوصفه «المعارضة النقابية». لكن يبقى السؤال الجوهري: هل نحن أمام معارضة نقابية حقيقية تعبّر عن قواعد منظمة تريد ديمقراطية داخلية فعلية؟ أم أمام إعادة توزيع للمواقع داخل جهاز مهيكل تحكمه منطق الريع والولاءات؟
تكشف البحوث السوسيولوجية المقارنة عن النقابات، من فرنسا إلى ألمانيا ومن إيطاليا إلى البرازيل (Béroud, Hyman, Urban, Carrieri, Antunes)، أن ما يسمى «المعارضة الداخلية» لا يظهر عادة في النقابات إلا عندما تتقاطع أزمة الشرعية الديمقراطية مع تضخم البيروقراطية. الاتحاد العام التونسي للشغل ليس استثناءً، فهو منظمة ضخمة تحمل إرثاً تاريخياً ورأسمالاً رمزياً هائلاً، لكنه أيضاً جهاز متشعب يعيش منطقاً مزدوجاً: لغة نضالية في الخارج، وشبكات مصالح في الداخل. الجدل بشأن الفصل 20 لم يكن مجرد خلاف إجرائي، بل تعبيراً عن أزمة أعمق: كيف يمكن للقيادة أن تدّعي الدفاع عن التداول والديمقراطية في البلاد، بينما ترفض تطبيق أبسط قواعد التداول داخلها؟
إن المعارضة النقابية التي وُلدت في هذا السياق قدّمت نفسها كصوت القواعد. أعلن نقابيون من الجهات والقطاعات أن استمرار القيادة نفسها هو ضرب لمبدأ الشرعية، وأن البيروقراطية النقابية حوّلت المنظمة إلى جهاز مغلق. لكن تبيّن الملاحظة الدقيقة أن هذه المعارضة ليست متجانسة، بل هي خليط من فاعلين: قواعد فعلاً قلقة من التصلّب البيروقراطي، وقيادات وسطى تبحث عن موقع في هرم السلطة النقابية، وأحياناً وجوه سابقة أقصيت من مواقع القرار وتبحث عن عودة عبر خطاب المعارضة. هنا تتجلّى المفارقة: ما يبدو مقاومة مبدئية قد يكون أيضاً تعبيراً عن صراع مواقع، حيث يُستخدم خطاب الديمقراطية لتبرير إعادة تقاسم الريع التنظيمي.
تساعدنا الأدبيات الأنثروبولوجية (Geertz, Scott) على قراءة هذه الظاهرة بوصفها لعبة رمزية: فالمعارضة النقابية ترفع شعارات كبرى عن الحرية والشفافية، لكنها تتحرك داخل المسرح الرمزي نفسه الذي أنتج القيادة الحالية. بمعنى آخر: بدل أن تكون بديلاً جذرياً، هي طرف جديد في الحقل النقابي نفسه، يسعى لانتزاع الشرعية من منافسيه لا لكسر المنطق الذي يحكم التنظيم. في هذا السياق، تذكّرنا تحليلات Robert Michels الكلاسيكية عن «القانون الحديدي للأوليغارشية» بأن النقابات، كلما تضخمت، تميل إلى إعادة إنتاج طبقة قيادية مستقلة عن قواعدها. ما نراه في الاتحاد اليوم ليس خروجاً عن هذا القانون بل تجسيداً له.
مع ذلك، لا يمكن اختزال المعارضة النقابية إلى مجرد مناورة. فهي أيضاً تعبير عن دينامية اجتماعية حقيقية: غضب قواعد تشعر أن المنظمة تحوّلت إلى جهاز فوقي، وأن النقابيين الذين يتحدثون باسمهم يفاوضون الدولة أكثر مما يعبّئون القواعد. هذا ما ظهر في جهات عدة، حيث عبّر نقابيون شبان عن رفضهم للبيروقراطية ورفضهم لاحتكار القرار. وهنا يلتقي خطاب المعارضة النقابية مع تحليلات حديثة (Lévesque & Murray, Giraud, Yon) ترى أن النقابات لا تستطيع البقاء قوية من دون إعادة إنتاج ديمقراطية داخلية تسمح للقواعد بالتأثير في القرار.
النقابات، كلما تضخمت، تميل إلى إعادة إنتاج طبقة قيادية مستقلة عن قواعدها. ما نراه في الاتحاد اليوم ليس خروجاً عن هذا القانون بل تجسيداً له.
في المقابل، السلطة السياسية نفسها تنظر باهتمام إلى هذا الجدل الداخلي. قيادة موحّدة وقوية للاتحاد تمثل صداعاً للسلطة، بينما انقسام داخلي بين «معارضة» و«مكتب تنفيذي» قد يضعف قدرة الاتحاد على الضغط. وهكذا، فإن المعارضة النقابية، سواء أدركت ذلك أم لا، تتحرك أيضاً داخل لعبة سياسية أكبر، حيث يتقاطع صراع المواقع داخل المنظمة مع رهانات الصراع بين النقابة والدولة.
إذن، هل المعارضة النقابية معارضة فعلية أم شيء آخر؟ الحقيقة أنها معارضة مزدوجة: هي بالفعل صوت احتجاج داخلي على غياب الديمقراطية وتغوّل البيروقراطية، لكنها في الآن نفسه ساحة جديدة لصراع المواقع والريع التنظيمي. هي ليست بديلاً جذرياً عن الجهاز الحالي، بل تجلٍ من تجليات الأزمة الهيكلية للاتحاد: أزمة الشرعية، أزمة التداول، وأزمة تمثيل القواعد.
تعزّز المراجع المقارنة هذا التشخيص: في فرنسا، شهدت CGT معارضات داخلية مماثلة على القيادة والبيروقراطية؛ في ألمانيا، عرف DGB جدالات بشأن تجديد النخب النقابية؛ في إيطاليا، انقسمت النقابات بين تيّارات محافظة وإصلاحية؛ وفي البرازيل والبرتغال، تحوّلت المعارضة النقابية أحياناً إلى قوى موازية لكنها بقيت محكومة بمنطق الريع النقابي ذاته. لا يخرج الاتحاد التونسي عن هذا السياق العالمي: «المعارضة النقابية» داخله هي نتيجة طبيعية لتضخم جهاز أصبح موزعاً بين لغة الثورة وممارسة المحافظة.
النقابي والسياسي: نقد خطاب الفصل
تردّد في تونس كما في بلدان أخرى خطابٌ يُصرّ على ضرورة فصل النقابي عن السياسي. يبدو هذا الشعار للوهلة الأولى منطقياً وجذاباً: فالنقابة، حسب هذا التصور، يجب أن تكتفي بالدفاع عن الحقوق الاجتماعية والاقتصادية للعمال، تاركةً للسياسيين مهمة رسم السياسات وتوزيع السلطة. غير أنّ التحليل السوسيولوجي والأنثروبولوجي والعلوم السياسية يكشف أن هذا الفصل ليس سوى بناء أيديولوجي، يخدم مصالح سلطوية أكثر مما يخدم الديمقراطية.
أول ما يجب تأكيده هو أن النقابة ليست مجرد جهاز مطلبي تقني. منذ نشأة الحركة العمالية في القرن التاسع عشر، كان العمل النقابي فعلاً سياسياً بامتياز. المطالبة بتقليص ساعات العمل، تحسين الأجور، أو الدفاع عن الحق النقابي نفسه، هي مطالب تتعلق مباشرة بتوزيع السلطة داخل المجتمع. كما يشير Hyman وGumbrell-McCormick، كل فعل نقابي هو تدخل في ميزان القوى، وبالتالي لا يمكن عزله عن السياسة. لا يوجد النقابي في فراغ؛ بل يشتغل دوماً في حقل يتقاطع فيه الاجتماعي مع السياسي، والاقتصادي مع الرمزي.
ثانياً، تفنّد تجربة الاتحاد العام التونسي للشغل نفسها هذا الفصل. فمنذ الخمسينيات، كان الاتحاد جزءاً من المعركة الوطنية ضد الاستعمار، ثم أدّى أدواراً مركزية في مقاومة الاستبداد زمن بورقيبة وبن علي. بعد الثورة، تحوّل إلى أحد ركائز الانتقال الديمقراطي، وكان طرفاً أساسياً في الحوار الوطني الذي حاز جائزة نوبل للسلام في العام 2015. لو التزم الاتحاد بالفصل المزعوم، لكان غائباً عن كل هذه المحطات المفصلية. بل على العكس، جاءت قوته بالضبط من اندماجه في المعارك السياسية الكبرى، ومن تحوّله إلى وسيط اجتماعي ووطني.
ثالثاً، غالباً ما يُستخدم خطاب الفصل كأداة لتطويع النقابات. كما لاحظت Béatrice Hibou في تحليلاتها للاقتصاد السياسي للطاعة، تسعى الدولة دائماً إلى ضبط الفاعلين الاجتماعيين عبر وضع حدود لدورهم. في السياق التونسي، يتضح هذا جلياً حين يرفع شعار «النقابي نقابي والسياسي سياسي» ليحصر الاتحاد في خانة المطالب الاجتماعية الصرفة، ويحرمُه من تأدية دور في النقاشات الوطنية الكبرى بشأن الاقتصاد والسيادة والديمقراطية. لكن هذه محاولة لتقليص الفعل النقابي، لا لتقويته.
رابعاً، من منظور أنثروبولوجي، النقابة ليست مجرد مؤسسة إجرائية، بل رمز جماعي. كما يقول Clifford Geertz، تُدار السياسة كثيراً عبر الرموز والطقوس. بتحركاته الجماهيرية وشعاراته وإضراباته، لا يرفع الاتحاد مطالب مهنية فقط، بل يرسل رسائل سياسية عن توازن القوى في المجتمع. كل إضراب عام، مثلاً، هو فعل سياسي حتى لو كان عنوانه «مطالب اجتماعية». يتجاهل خطاب الفصل إذن هذا البعد الرمزي، وينكر أنّ النقابة هي أيضاً فاعل في المسرح السياسي.
المطلوب ليس فصل النقابي عن السياسي، بل إعادة تعريف العلاقة بينهما. يجب أن تظل النقابة مستقلة عن الأحزاب والسلطة، لكنها لا يمكن أن تتخلى عن حقها وواجبها في التأثير على السياسة العامة
خامساً، تؤكد التجارب المقارنة استحالة هذا الفصل. في فرنسا، لم تكن النقابة الكبرى CGT يوماً منفصلة عن الصراع السياسي، بل ارتبطت تاريخياً بالحركة الشيوعية واليسار. في البرازيل، أدّت النقابة المركزية CUT دوراً محورياً في بروز حزب العمال وصعود لولا دا سيلفا. في ألمانيا، على الرغم من النموذج التعاقدي القائم على «الشراكة الاجتماعية»، تبقى النقابات مؤثرة مباشرة في السياسات الاقتصادية والاجتماعية. في البرتغال، أدّت النقابات دوراً أساسياً في مقاومة الديكتاتورية وإعادة بناء النظام الديمقراطي. وفي إيطاليا، ارتبطت النقابات مثل CGIL بالمعارك السياسية والاجتماعية الكبرى. تؤكّد هذه الأمثلة، التي درسها باحثون مثل Antunes, Urban, Carrieri, Regalia، أن النقابة، بحكم طبيعتها، لا يمكن فصلها عن السياسة.
سادساً، يخفي هذا الخطاب مفارقة أخرى: أن النقابة التي تُطالب بالفصل عن السياسة هي نفسها مطالبة بالتفاوض مع السلطة بشأن سياسات اقتصادية ذات أبعاد سياسية واضحة، مثل شروط صندوق النقد الدولي أو إصلاح المؤسسات العمومية. فكيف يُمكن لنقابة أن تتحدث عن الأجور والبطالة من دون أن تتطرق إلى السياسات الاقتصادية الكلية؟ هنا يتضح أن الفصل وهمي: إما أن تتكلم النقابة في الاقتصاد وبالتالي في السياسة، أو تصمت وتتحوّل إلى جهاز إداري بلا تأثير.
في النهاية، المطلوب ليس فصل النقابي عن السياسي، بل إعادة تعريف العلاقة بينهما. يجب أن تظل النقابة مستقلة عن الأحزاب والسلطة، لكنها لا يمكن أن تتخلى عن حقها وواجبها في التأثير على السياسة العامة. هذا ما يشير إليه Béroud وYon حين يتحدثان عن «الاستقلالية النقابية»: لا تعني الاستقلالية الحياد، بل أن النقابة تخوض السياسة من موقعها الخاص، من دون أن تذوب في الأحزاب أو تتحول إلى ذراع للسلطة.
إذن، نقد خطاب الفصل يُظهر أنه خطاب سلطوي أكثر منه ديمقراطي، يهدف إلى تقييد النقابات وتقليص قدرتها على تأدية أدوار تاريخية. النقابة، بطبيعتها، هي دائماً سياسية، لأن الدفاع عن الأجر، وعن العمل، وعن المؤسسات العمومية، هو دفاع عن المجتمع برمّته. إنكار هذا البعد لا يخدم إلا السلطة، بينما الاعتراف به هو شرط لبناء ديمقراطية حقيقية يكون فيها النقابي والسياسي متداخلين لكن على قاعدة الاستقلالية والشرعية الاجتماعية.
الأحزاب الهشّة والاتحاد: السياسة بالوكالة
منذ اندلاع الثورة التونسية في العام 2011، عاش المشهد الحزبي التونسي على وقع هشاشة تنظيمية وهيكلية لم تفارقه إلى اليوم. كثرت الأحزاب عدداً وتقلّصت وزناً: ولد بعضها في رحم اللحظة الثورية، وورث بعضها بقايا من الماضي، لكنها جميعاً تقاسمت ضعفاً عميقاً في التجذّر الاجتماعي وغياب قواعد انتخابية مستقرة. جعلت هذه الهشاشة الأحزاب عاجزة عن تأدية وظيفتها الطبيعية: تأطير المواطنين وربط المجتمع بالدولة. وهنا برز الاتحاد العام التونسي للشغل كفاعل بديل، ليس لأنه حزب، بل لأنه يملك ما تفتقده الأحزاب: الرأسمال الرمزي والتاريخي.
تُظهر الأدبيات المقارنة في العلوم السياسية، مثل أعمال Levitsky وZiblatt (2018) وPanebianco (2017)، أن الأحزاب الهشّة في الديمقراطيات الناشئة غالباً ما تبحث عن غطاء رمزي لتثبيت حضورها، خصوصاً حين تعجز عن إنتاج شبكات ولاء متينة. في تونس، وجدت هذه الأحزاب ضالتها في الاتحاد العام التونسي للشغل، الذي تميّز عن كل المنظمات الاجتماعية الأخرى بقدرته على التعبئة، واستقلاليته التاريخية، وشرعيته المستمدة من مسار طويل: من معركة الاستقلال ضد الاستعمار، إلى مقاومة الاستبداد زمن بورقيبة وبن علي، وصولاً إلى دوره المركزي في إنقاذ الانتقال الديمقراطي عبر الحوار الوطني.
لكن كيف تمارس الأحزاب السياسة من وراء الاتحاد؟ أولاً، عبر التقاطع مع مواقفه: عندما يخوض الاتحاد إضراباً عاماً، نجد بعض الأحزاب تسارع إلى إعلان دعمها، حتى لو لم تكن قادرة على تعبئة قواعدها. ثانياً، عبر محاولة التأثير داخله: تسعى بعض التيارات السياسية إلى زرع حضورها في الهياكل النقابية، مستفيدة من أن الاتحاد فضاء مفتوح نسبياً للتنافس الداخلي. ثالثاً، عبر الاحتماء برمزيته: الاتحاد بالنسبة إلى كثير من الأحزاب هو مظلة تمنحها شرعية لا تستطيع بناؤها بوسائلها الخاصة.
ما نراه اليوم في تونس هو مشهد متناقض: نقابة ليست حزباً لكنها تقوم بوظائف حزبية، وأحزاب موجودة بالاسم لكنها تتوارى خلف النقابة. يعكس هذا التناقض أزمة الديمقراطية التونسية
هنا تظهر المفارقة: كلما احتمت الأحزاب بالاتحاد، كلما كشفت ضعفها. فهي، بدل أن تبني استقلاليتها، تُعيد إنتاج هشاشتها من خلال التماهي مع مؤسسة نقابية ليست حزباً. أما الاتحاد، فبينما يخرج أقوى لأنه يظهر كفاعل لا غنى عنه، فإنه يُدفع ثمناً آخر: اتهامه الدائم بأنه «أصبح حزباً سياسياً» أو أنه «تجاوز حدوده». هذا الاتهام تُغذيه السلطة التي تريد حصر النقابة في خانة المطالب الاجتماعية، وأيضاً قواعد اجتماعية ترى في البيروقراطية النقابية نوعاً من النخبة السياسية البديلة.
من منظور سوسيولوجي، كما يوضّح Béroud وYon (2018) أو Urban (2021)، لا يمكن للنقابة أن تكون مجرد جهاز مطلبي. في اللحظات التي تضعف فيها الأحزاب، تتحول النقابة إلى فاعل سياسي بالوكالة. في الحالة التونسية، مارس الاتحاد أدواراً حزبية من دون أن يكون حزباً: صياغة مواقف وطنية، تنظيم احتجاجات، الدخول في مفاوضات سياسية مع الدولة، بل وأحياناً فرض أجندة سياسية على السلطة. هنا نجد أنفسنا أمام وضع غريب: حزب غير موجود فعلياً، لكنه يُمارس السياسة من وراء ستار نقابي.
هذه الدينامية ليست تونسية فقط. في البرازيل، كما يوضح Antunes (2018)، أدّت النقابة المركزية CUT دوراً مؤسساً في نشأة حزب العمال وصعوده للسلطة. في فرنسا، كانت CGT لفترة طويلة الذراع الاجتماعية للحركة الشيوعية، بل إن قوتها الميدانية عوّضت هشاشة الأحزاب اليسارية. في إيطاليا، مثّلت النقابة CGIL امتداداً سياسياً للنضال الاجتماعي في لحظات ضعف الأحزاب. حتى في ألمانيا، على الرغم من رسوخ النظام الحزبي، ظلّت النقابات تُمارس ضغطاً مباشراً حين تعجز الأحزاب عن الدفاع عن مصالح الشغيلة. في البرتغال، أدّت النقابات دوراً مركزياً في الثورة الديمقراطية، وكانت بديلاً للأحزاب الضعيفة آنذاك. هذه المقارنات، التي عالجها Carrieri وFeltrin (2016) وSeabra (2016)، تكشف أن الاتحاد العام التونسي للشغل ليس استثناءً: هو استمرار لقاعدة عامة في سياقات انتقالية، حيث النقابة تسدّ الفراغ الحزبي.
لكن، بخلاف هذه التجارب، يواجه الاتحاد التونسي مفارقة مضاعفة. فمن جهة، هو حامل لشرعية تاريخية تجعله أكبر من أي حزب. ومن جهة أخرى، هو مقيّد بطبيعته النقابية: لا يستطيع أن يتحوّل رسمياً إلى حزب من دون أن يفقد استقلاليته، ولا يستطيع أن يكتفي بالنقابي الضيق من دون أن يفرّط في دوره الرمزي. ويجعله هذا التوتر عرضة لصراعات داخلية (بشأن الفصل 20 أو الريع النقابي) وصراعات خارجية مع السلطة والأحزاب.
إذن، لم تكتف الأحزاب الهشّة بأن تكون ضعيفة؛ بل ساهمت، عبر الاحتماء بالاتحاد، في جعل الاتحاد يبدو وكأنه الحزب الحقيقي في تونس. هو الحزب غير المعلن، أو «الحزب النقابي»، الذي يمارس السياسة من موقع قوة تاريخية ورمزية. وهنا يكمن جوهر النقد: الأحزاب التي كان يفترض أن تبني ديمقراطية تعددية تركت الفراغ ليملأه الاتحاد، بينما السلطة تستغل هذا الوضع لتُحمّل النقابة مسؤوليات ليست من صميم دورها.
في الأخير، ما نراه اليوم في تونس هو مشهد متناقض: نقابة ليست حزباً لكنها تقوم بوظائف حزبية، وأحزاب موجودة بالاسم لكنها تتوارى خلف النقابة. يعكس هذا التناقض أزمة الديمقراطية التونسية: أزمة تمثيل، أزمة وساطة، وأزمة شرعية. الاتحاد العام التونسي للشغل، بما يحمله من قوة ورمزية، يجد نفسه في قلب هذه الأزمة، لا لأنه اختار أن يكون حزباً، بل لأن الأحزاب اختارت أن تختفي وراءه.
خاتمة: الاتحاد بين الضرورة والتجديد
الاتحاد العام التونسي للشغل ليس مجرد نقابة مهنية تقليدية، بل هو مؤسسة مدنية متجذّرة في الذاكرة الجماعية التونسية. على مدى عقود، كان الاتحاد عنصر توازن بين الدولة والمجتمع، وفاعلاً جماعياً حافظ على قدر من التماسك الاجتماعي في أصعب اللحظات. فمن معركة الاستقلال إلى مواجهة الاستبداد، ومن المشاركة في صياغة التحولات السياسية إلى تأدية دور الحكم في أوقات الأزمات، ظلّ الاتحاد رمزاً لقدرة التونسيين على بناء قوة جماعية تتجاوز الأفراد وتوحّد الفئات. إنّ وجوده، في حد ذاته، يعبّر عن حاجة المجتمع إلى وسيط اجتماعي قوي يحمي المكاسب ويدافع عن العدالة.
لكن هذه الشرعية التاريخية لا تعني أنّ الاتحاد قادر على الاستمرار في صيغته الحالية. تغيّر العالم بسرعة، ويشهد سوق العمل في تونس تحولات عميقة: تفاقم البطالة، هشاشة التشغيل، توسّع الاقتصاد غير المهيكل، صعود فئات جديدة لا تجد لنفسها تمثيلاً في الهياكل النقابية. في مواجهة هذه الديناميات، تبدو البيروقراطية النقابية الثقيلة عاجزة عن استيعاب المتغيرات. الصراع بشأن الفصل 20، والانقسامات على القيادة، واتهامات الريع النقابي، كلها مؤشرات على أن الاتحاد قد انغلق على نفسه، وفقد شيئاً من طابعه الجامع.
المفارقة أنّ الاتحاد، في لحظة تُبرز فيها هشاشة الأحزاب وعجزها عن الوساطة، يظلّ الإطار الأكثر قدرة على تأدية دور سياسي غير مباشر. لم يعد هذا الدور خياراً بل ضرورة، لأن الفراغ الحزبي جعله يبدو وكأنه الحزب الحقيقي أو البديل الرمزي. غير أنّ هذه المكانة لا يمكن أن تستمر بلا تجديد داخلي عميق. فالاتحاد بحاجة إلى إعادة صياغة علاقته بالسياسة: لا إلى الانغماس الكلّي فيها بحيث يفقد هويته النقابية، ولا إلى التنصّل منها بحيث يظهر وكأنه يتجاهل رهانات المجتمع. المطلوب استقلالية نقدية، تمكّنه من التأثير في الخيارات الكبرى من دون أن يتحوّل إلى حزب موازٍ.
على المستوى الداخلي، لا يمكن للاتحاد أن يحافظ على دوره التاريخي إذا ظلّ أسير بيروقراطية مغلقة. يجب أن يستعيد دينامية القواعد، وأن ينفتح على الأجيال الجديدة التي وُلدت في سياق الثورة ولم تجد نفسها في الهياكل التقليدية. يجب أن يتجاوز منطق الامتيازات الذي أرهق صورته، ويعيد ربط مشروعيته بالقدرة على تمثيل الهشاشة الجديدة داخل المجتمع: الشباب العاطل، النساء العاملات في القطاعات غير المنظمة، والعمال الذين يواجهون أشكالاً جديدة من التهميش.
إذا لم يجدّد نفسه، يخاطر الاتحاد بأن يصبح أثراً رمزياً بلا فعالية: مؤسسة يتغنّى الجميع بتاريخها، لكنها عاجزة عن التأثير في حاضر البلاد ومستقبلها. أما إذا اختار طريق التجديد، فإنه سيظلّ قوة مدنية لا غنى عنها، قادرة على أن تكون حاملاً للتضامن الاجتماعي في زمن الأزمات، ومدافعاً عن العدالة الاجتماعية في عالم سريع التحول. وهنا تكمن أهمية التفكير في مستقبل الاتحاد: ليس كجهاز يجب الحفاظ عليه بأي ثمن، بل كإطار يجب إعادة تأسيسه ليبقى أداة للتوازن الديمقراطي والاجتماعي.
الخلاصة أنّ تونس تحتاج الاتحاد العام للشغل، لكنّها لا تحتاجه كما هو الآن. تحتاجه متجدداً، ديمقراطياً، منفتحاً على التحولات، قادراً على تمثيل مجتمع لم يعد هو نفسه الذي نشأ فيه. فإذا كان الماضي قد منح الاتحاد شرعية لا ينازعه عليها أحد، فإن المستقبل لن يمنحه شيئاً بلا تغيير. إن لم يغامر بتجديد نفسه، فسوف يبقى رمزاً من الماضي أكثر منه فاعلاً في الحاضر. أمّا إذا فعل، فسوف يظلّ حجر زاوية في بناء العدالة الاجتماعية والتماسك الوطني.
مراجع:
Andolfatto, D., & Labbé, D. (2018). Sociologie des syndicats. Paris: La Découverte.
Ayari, M. B. (2017). « L’UGTT entre médiation politique et revendications sociales ». L’Année du Maghreb.
Beinin, J. (2016). Workers and Thieves: Labor Movements and Popular Uprisings in Tunisia and Egypt. Stanford: Stanford University Press.
Béroud, S. (2021). Le syndicalisme face aux mutations du travail. Paris: Presses de Sciences Po.
Béroud, S., Giraud, B., & Yon, K. (2018). Sociologie politique du syndicalisme. Paris: Armand Colin.
Bouffartigue, P. (2016). Sociologie des mobilisations au travail. Paris: La Découverte.
Camau, M., & Geisser, V. (2018). Le syndrome autoritaire en Tunisie. Paris: Presses de Sciences Po.
Darlington, R. (2018). “Trade Union Bureaucracy and Democracy.” Capital & Class, 42(3).
Erne, R. (2020). European Unions: Labor’s Quest for a Transnational Democracy. Ithaca: Cornell University Press.
Fairbrother, P. (2015). “Rethinking Union Democracy.” Global Labour Journal, 6(2).
Gobe, É. (2013). Les syndicats en Tunisie à l’épreuve de la transition. Paris: CNRS Éditions.
Groux, G. (2019). La démocratie sociale en mouvement. Paris: Presses de Sciences Po.
Gumbrell-McCormick, R., & Hyman, R. (2017). Trade Unions in Western Europe: Hard Times, Hard Choices. Oxford: Oxford University Press.
Hibou, B. (2015). La force de l’obéissance. Économie politique de la répression en Tunisie. Paris: La Découverte.
Hyman, R. (2018). What Future for Industrial Relations? European Journal of Industrial Relations, 24(1).
Kelly, J. (2015). Rethinking Industrial Relations: Mobilization, Collectivism and Long Waves. London: Routledge.
Lévesque, C., & Murray, G. (2019). “Union Power Resources Revisited.” Transfer: European Review of Labour and Research, 25(4).
Moody, K. (2017). On New Terrain: How Capital is Reshaping the Battleground of Class War. Chicago: Haymarket.
Silver, B. (2020). “Labour Movements in Global Crisis.” Global Labour Journal, 11(3).
Yon, K. (2020). Représenter les salariés aujourd’hui. Paris: CNRS Éditions.
أستاذ علم الاجتماع ، تونس
#فؤاد_غربالي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟