يونس متي
الحوار المتمدن-العدد: 8443 - 2025 / 8 / 23 - 09:25
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تنص اغلب دساتير العالم ومنها الدستور العراقي (2005) على ان القوات المسلحة والاجهزة الأمنية هي وحدها المخولة بحمل السلاح ، ويكون وجوده خارج اطار الدولة خرقاً لسيادة القانون ويقوّض مفهوم الدولة الحديثة.
تاريخياً لم تكن الأنظمة القومية العربية تقبل بوجود سلاح مستقل خارج سيطرتها المباشرة، إذ رأت في ذلك تهديداً لسيادة الدولة واحتكارها لـ "الشرعية الثورية". فقد عملت مصر الناصرية على دعم الفدائيين الفلسطينيين، لكنها سرعان ما أخضعت نشاطهم لأجهزة المخابرات والجيش، ولم تسمح لهم بتجاوز الإرادة السياسية للدولة. وبنفس الاتجاه، عمد النظام البعثي في سوريا إلى إنشاء منظمة "الصاعقة" في أواخر الستينيات، لتكون واجهة بعثية داخل منظمة التحرير الفلسطينية، بهدف ضمان ولاء جزء من العمل الفدائي للقرار السوري المباشر. أما العراق البعثي، فقد تعامل مع موضوعة "المقاومة" بازدواجية ، إذ دعم بعض الفصائل الفلسطينية واللبنانية مادياً وعسكرياً، لكنه في الوقت نفسه واجه بالقوة أي تجربة مسلحة داخل أراضيه لا تخضع لسلطته، كما في حالة الحركة الكردية التي عُدّ سلاحها تهديداً لوحدة الدولة.
وتظهر المفارقة بوضوح في تجربة الأردن عام 1970 (أحداث أيلول الأسود)، حيث مثّل السلاح الفلسطيني المستقل تحدياً مباشراً لسلطة الدولة الأردنية، فانتهى الأمر بصدام دموي أسفر عن إخراج الفصائل من الأردن. هذه الحوادث تؤكد أن الأنظمة القومية كانت تعتبر "المقاومة" مشروطة بالولاء الكامل للنظام، وأن أي سلاح يتجاوز هذه القاعدة يُعدّ مصدراً للفوضى واللاشرعية.
في العقدين الاخيرين تشكل في المنطقة ما يسمى بـ"محور الممانعة والمقاومة" من إيران، سوريا، "حزب الله" في لبنان، بعض الفصائل الفلسطينية كـ"الجهاد الإسلامي" و"حماس"، إضافة إلى ميليشيات عراقية ويمنية "الحوثيين" ، تركز خطابه على شعار المقاومة ضد إسرائيل والهيمنة الأميركية، وتقديم نفسه كبديل عن الأنظمة "المستسلمة" أو "المطبّعة" ، لكنه عملياً تحوّل إلى أداة إيرانية لتوسيع النفوذ الإقليمي، أكثر من كونه مشروعاً تحررياً عربياً مستقلاً .
لذلك فإن الميليشيات الموالية لإيران ، تمثل حالة مغايرة؛ فهي سلاح خارج سيطرة الدول الوطنية، لكنه ليس مستقلاً بذاته، بل خاضع لمرجعية إقليمية متمثلة في إيران. وفي هذا الإطار يمكن ملاحظة التالي:
في لبنان: يمتلك حزب الله قوة عسكرية تتجاوز قدرات الدولة اللبنانية، ويحتفظ بحق اتخاذ قرار الحرب والسلم بمعزل عن المؤسسات الشرعية. وقد جعل من سلاحه أداة لتثبيت نفوذه الداخلي وهيمنته السياسية، مع تأكيده المعلن بوضوح عن ارتباطه المباشر بالقرار الإيراني.
و في العراق: رغم دمج "الحشد الشعبي" ضمن المؤسسة الأمنية منذ 2016، الا إن بعض فصائله الأساسية ما تزال تعمل باستقلالية (نشاطاً وسياسة) ، وتستخدم سلاحها في فرض و تثبيت تسلطها، مما يجعلها قوة موازية للدولة أكثر من كونها أداة وطنية للدفاع عنها.
أما في اليمن: فقد استطاع الحوثيون تحويل سلاحهم إلى وسيلة للسيطرة على العاصمة صنعاء وأجزاء واسعة من البلاد، وجعلوا من مشروع "المقاومة" ذريعة لإعادة تشكيل السلطة السياسية وفق الرؤية الإيرانية، وهو ما أدى إلى تفكيك الدولة اليمنية وتكريس الانقسام.
و في سوريا: لعبت الميليشيات الموالية لإيران دوراً بارزاً في دعم النظام خلال الحرب الأهلية، لكنها في الوقت نفسه كرّست وجودها العسكري بشكلٍ موازٍ لسلطة الدولة، مما حوّل سوريا إلى ساحة نفوذ مباشر لإيران.
إن الفارق الجوهري هنا ، هو أن الأنظمة القومية سعت دائماً إلى احتواء أو قمع أي سلاح مستقل حفاظاً على مركزية الدولة، بينما تمثل القوى الموالية لإيران نموذجاً يقوم على شرعنة السلاح الموازي، وتحويله إلى وسيلة لإضعاف الدول الوطنية وتعزيز التبعية لقرار خارجي. وهكذا يغدو "سلاح المقاومة" في صيغته الإيرانية الراهنة أداة لإدامة النفوذ الإقليمي لا لبناء مشروع تحرري وطني.
ان انتشار السلاح بيد جماعات وأحزاب وميليشيات يُفضي إلى ظاهرة الدولة الموازية، حيث تصبح بعض القوى قادرة على فرض إرادتها خارج مؤسسات الدولة. الى جانب ذلك تستعمل الاحزاب (المسلحة) السلاح كأداة ضغط في صراعها السياسي والانتخابي، ما يضعف الديمقراطية بشكل خطير، لان ظاهرة السلاح المنفلت تُعزز الولاءات الفئوية والطائفية على حساب الانتماء الوطني.
وليس خافياً ما يشكله السلاح خارج سلطة الدولة من اخطار جدية من خلال دوره في تأجيج وادامة النزاعات المسلحة الداخلية ، الامر الذي يُضعف ثقة المواطن بالأجهزة الأمنية، لأنه يشعر أن هناك جهات تفوق الدولة قوةً ونفوذاً، مما يجعل الدولة عاجزة تماماً عن ضبط الحدود ومنع التهريب والإرهاب والجريمة المنظمة.
لقد تحولت الميليشيات إلى دولة موازية ، تمتلك المال والسلاح والإعلام ، بل وتفرض إرادتها على مؤسسات الدولة الرسمية.
كل هذا ادى الى نتائج كارثية ، ابرزها إضعاف الدولة الوطنية اذ تحولت الحكومات إلى واجهة هشة أمام قوة الميليشيات. كما ادت الى تفكيك الهوية الوطنية من خلال تعزيز الهويات الطائفية على حساب الانتماء القومي أو الوطني. وبالنتيجة قاد ذلك الى تراجع السيادة، وبات القرار الوطني مرتبطاً بإرادة طهران بدرجة كبيرة. و رغم رفع شعار "المقاومة"، تراجعت القضية الفلسطينية فعلياً، وأصبحت مجرد ورقة في صراع المحاور. في وقت تواصل التدمير الاقتصادي بأنتشار الفساد وغسيل الأموال وتهريبها .
ان الموالين لإيران ضمن ما يُسمى بمحور "الممانعة والمقاومة" ساهموا بشكل مباشر في إضعاف الدولة الوطنية العربية وتدمير هيبتها، عبر تحويل السلاح من أداة مقاومة إلى أداة سلطة داخلية. القضية الفلسطينية استُخدمت كشعار تعبوي، لكنها لم تعد الهدف المركزي، بل غدت ذريعة لشرعنة النفوذ الإيراني وتقويض الكيانات العربية.
وفي النهاية لا اسرائيل انهارت ، ولا الولايات المتحدة خرجت من المنطقة ، بينما انهارت الدول العربية المنضوية تحت هذا المحور من الداخل .
#يونس_متي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟