الإنسان يولد غير مكتمل

علي جاسم ياسين

الحوار المتمدن-العدد: 8440 - 2025 / 8 / 20 - 01:05
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    

يولد الإنسان في هذا العالم ضعيفاً، صغير الجسد، عاجزاً عن مواجهة أبسط تحديات الحياة دون سند. وعلى خلاف أغلب الحيوانات التي تفارق أمهاتها قادرة على الحركة والبحث عن غذائها، يبقى الطفل الإنساني محتاجاً إلى عناية طويلة الأمد، ممتداً اعتماده سنوات وسنوات. هذه الهشاشة الأولى، وإن بدت ضعفاً، تكشف في عمقها سرّاً عظيماً: أن الإنسان مخلوق لم يكتمل عند الولادة، بل هو مشروع يتشكل وينمو، مفتوح دائماً على التحول والاكتساب.
هذا النقص في البداية ليس مجرد حالة بيولوجية، بل هو أساس المسيرة الإنسانية كلها. فلو وُلد الإنسان كاملاً في قدراته، لما احتاج إلى التعلم ولا إلى اللغة ولا إلى تبادل الخبرات. لكن اعتماده على غيره منذ اللحظة الأولى فرض عليه أن يعيش في جماعة، وأن يبتكر وسائل للتواصل والتعاون. ومن هذا الاعتماد نشأت الروابط الاجتماعية، وتكوّنت القيم الأخلاقية، ونمت الفنون والمعارف.
يتفق مع هذا الفكر المفكر الألماني أرنولد غيلين الذي يقول:
“الإنسان يولد كائناً غير مكتمل، ناقص التهيؤ بيولوجياً، ولذلك فهو يحتاج إلى الثقافة والمجتمع ليعوض هذا النقص.”
وهذه الفكرة تشرح لماذا الإنسان منذ طفولته يتعلم شيئاً فشيئاً، يتعثر ويقوم، يختبر ويعيد المحاولة، حتى يغدو قادراً على أن يختار طريقه ويصوغ مصيره. فهو الكائن الذي لا تحدده غريزة واحدة، بل يتسع وجوده لاحتمالات لا نهاية لها. يولد ناقصاً ليبحث عن الكمال، ويبدأ محدوداً ليصنع اللامحدود عبر فكره وإبداعه.
ولعل في هذا ما يفسر أن الإنسان لا يكتفي بالعيش من أجل البقاء، بل يسعى وراء المعنى، ويبدع الفلسفة والشعر والعلم، لأنه لا يرضى بما هو معطى له بل يتوق دوماً إلى ما هو أبعد. ولو لم يكن ناقصاً عند ولادته، لما امتلك هذه الطاقة على التغيير الدائم، ولا هذا الشغف بالارتقاء والتجاوز.
الإنسان إذن يولد غير مكتمل، وهذا هو سر عظمته. فهو لا يُلقى في الدنيا كائناً منتهياً، بل يُوضع فيها بداية مفتوحة قابلة لأن تُبنى وتتغير. إن ضعفه الأول هو الذي يدفعه إلى طلب القوة، وعجزه الطفولي هو الذي يفتح له مجال التعلم والاكتساب. وهكذا يصبح الكائن الأضعف عند الميلاد هو في الوقت نفسه الأكثر قدرة على البناء والإبداع والتجاوز. نقص الإنسان عند الولادة ليس قصوراً، بل هو الدعوة الأبدية لأن يواصل طريق الاكتمال.

---

ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages

---

الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل