عبد علي سفيح لازم
الحوار المتمدن-العدد: 8439 - 2025 / 8 / 19 - 18:29
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
عبد علي سفيح
كثيرا ما يقال أن العراقي أقل وطنية من جاره الايراني أو التركي أو المصري أو اللبناني،وأنه لا يتعصب لبلده كما يفعل الآخرون. هذه التهمة تتكرر حتى عادت أشبه بحقيقة في الخطاب الشعبي، لكنها، حين نضعها تحت مجهر التاريخ والجغرافيا، تكشف لنا عن صورة مختلفة تماما.
تهدف هذه الدراسة الى تحليل مفهوم الهوية الوطنية على أساس استقرارها أو قلقها، بالاعتماد على الجغرافيا والتاريخ كعاملين حاسمين. وتنطلق من فرضية أن الهوية الوطنية ليست مجرد شعور جماعي، بل هي نتاج تفاعل طويل الأمد بين البيئة الطبيعية والمسار التاريخي.
الهوية ليست مجرد شعارات ترفعها الشعوب، بل هي احساس عميق بالانتماء تشكله قرون من التعايش ضمن حدود معينة. وتشير الأدبيات الى أن الهوية الوطنية هي بناء اجتماعي ثقافي يتشكل عبر تراكم التاريخ، فيتأثر بالجغرافيا والسياسة والاقتصاد(1). وهنا، تدخل الجغرافيا كأهم مهندس لهذا الشعور: فهناك شعوب ولدت هويتها في أحضان أرض ثابتة، وحدود طبيعية واضحة، وتاريخ متصل( العراق ومصر والشام)، وهناك شعوب أخرى عاشت على أمجاد امبراطوريات كانت حدودها تتغير مع كل حرب أو زواج ملكي، ثم وجدت نفسها فجأة في دولة وطنية صغيرة بعد سلسلة من الهزائم(تركيا وايران وفرنسا وايطاليا وبريطانيا). والهوية ليست جوهرا ثابتا، بل منظومة رمزية قابلة لاعادة التشكيل في ضوء التحولات الكبرى(2).
الهوية المستقرة(غير القلقة):
1.العراق، وادي الرافدين: مثال حي على الهوية المستقرة(غيرالقلقة). منذ آلاف السنين، ظل دجلة والفرات يرسمان حدود وادي خصب احتضن نينوى( آشور) وبغداد(بابل) والبصرة(سومر). تغيرت اللغات، تبدلت الأديان، قامت وسقطت الامبراطوريات، لكن ظل هناك شعور واحد بأن هذه الأرض هي وطن الأوطان(3). الأمر نفسه ينطبق على مصر وادي النيل التي وهبها النيل شخصية موحدة، وبلاد الشام التي رغم كونها ممرا للحضارات، حافظت على تماسك هويتها عبر القرون(4).
يمثل الكرم العراقي، بمختلف مناطقه وأديانه وطوائفه، أحد أعمق الشواهد الحية على استقرار الهوية الرافدينية. هذا السلوك الاجتماعي المتجذر ليس وليد ظرف اقتصادي أو سياسي، بل هو امتداد لثقافة الضيافة التي عرفتها حضارات وادي الرافدين منذ آلاف السنين، حين كانت المدن الكبرى محطات للتجار والمسافرين. بينما في المجتمعات القلقة، تبنى العلاقات على الحذر أو الانغلاق، ولذلك مفهوم الهوية عند الغرب هو كل ما يميز الفرد عن الآخر، وخير دليل هو قول الفياسوف الفرنسي جون بول سارتر ٌجهنم هو الآخرٌ بينما مفهوم الهوية عند العرب هو كل ما يشترك مع الاخر.
2.بلاد الشام: بحكم موقعها بين البحر الأبيض المتوسط والصحراء، شكلت بلاد الشام معبرا حضاريا حافظ على وحدة ثقافية وتجارية رغم تعدد الكيانات السياسية(5).
3.مصر وادي النيل: النيل كوحدة مائية حددت مجال الحياة منذ العصور الفرعونية، فاستمرت الهوية المصرية رغم الغزوات، اذ كان النهر مركزا موحدا للأنشطة الاقتصادية والثقافية والدينية معا(6).
يظهر التحليل لوادي الرافدين وبلاد الشام ووادي النيل، أن الجغرافيا ليست مجرد خلفية للهوية، بل عامل بنيوي في تشكيلها. فالمجتمعات التي ولدت داخل اطار جغرافي محدد ومغلق نسبيا تميل الى انتاج هوية مستقرة عبر الزمان، حتى مع تغيير اللغات والأديان(7).
في المقابل، هناك هويات قلقة، نشأت على اتساع امبراطوري، ثم انكمشت تحت ضغط الهزائم مثال على ذلك:
1. تركيا الحديثة: ولدت من أنقاض الارث العثماني كمجال توسعي متعدد القوميات، انحصرت بعد الحرب العالمية الأولى في حدود قومية جديدة، مما ولد هوية دفاعية قومية متشددة، فارتبط وعيها السياسي بالدفاع عن الذات واستعادت الهيبة المفقودة(8).
2.ايران(بلاد فارس): غياب حدود ثابتة قبل العصر الصفوي جعل الهوية الفارسية مرتبطة بالمشروع الامبراطوري. ومع خسائر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، تبلورت هوية ايرانية قلقة تحاول استعادة النفوذ المفقود، مما جعل القومية الفارسية تميل الى خطاب تعبوي(9).
3.فرنسا: التي نراها دولة قومية، لم تسلم من اهتزاز هويتها بعد هزائم نابليون بونابرت وانهيار امبراطوريتها الاستعمارية. فقدان المستعمرات وما رافقه من تراجع المكانة العالمية، أسهم في تكوين هوية سياسية قلقة تجاه الهجرة والتعددية(10)، وهذا ما عبر عنه الأكاديمي الفرنسي الفيلسوف ألان فنكلكروت في كتابه الهوية التعيسة.
4.بريطانيا: الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس حتى منتصف القرن العشرين، ثم فقدت معظم مستعمراتها، مما عزز التيارات القومية المحافظة(11).
5.ايطاليا: مركز الامبراطورية الرومانية ثم مجموعة دول متفرقة حتى القرن التاسع عشر، وحاليا قوة أوربية متوسطة الحجم(12).
يظهر التحليل لهذه الشعوب، بأن المجتمعات التي ولدت مع امبراطوريات وتوسعت بفضل القوة العسكرية، فان تقلصها يترك أثرا نفسيا عميقا، يتحول الى قلق هوية دائم.
الفرق الجوهري أن الهوية المستقرة(غير القلقة) تمنح أصحابها أمانا داخليا، فلا يحتاجون الى الصراخ للتأكيد على وطنيتهم، أما الهوية غير المستقرة(القلقة)، فهي تعيش في ظل الماضي، وتظل مشدودة لمحاولة استعادتها أو الدفاع عنها. من هنا نفهم أن العراقي ليس قليل الوطنية، بل هو ابن هوية غير قلقة، سعيدة بوجودها منذ آلاف السنين،لا تحتاج الى البرهنة المستمرة على ذاتها.
الهوامش
1.Benedict Anderson, Imagined.
2.Communities : Reflection on the origin and spread of Nationalism, 1983.
3.Harriet Crawford, Sumer and the sumerians. Cambridge University press,2004.
4.Eric Hobsbawn, Nation and Nationalism since 1780, Cambridge University press, 1990.
5.Philip Hitti, History of Syria, Macmillan, 1951.
6.Toby Wilkinson, The rise and fall of ancient Egypt, Random House,2010.
7.Fernand Braudel, The Mediterranean and the Mideterranean world in the age of philip III, Harper and Row,1972.
8.Bernard Lewis, The Emergence of Modern Turkey, Oxford university press,2002.
9.Ervand Abrahamian, A History of Modern Iran, Cambridge university press, 2008.
10.Sudhir Hazereesingh, How the French think, Basic Books,2015.
11.Darwin John, The Empire project,1830-1970, Cambridge University press, 2009.
12.Duggan Christopher, The force of Destiny, A History of Italy since 1796.
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟