جهينة الركاب
الحوار المتمدن-العدد: 8429 - 2025 / 8 / 9 - 23:38
المحور:
قضايا ثقافية
في المشهد الأدبي المغربي، يُعتبر محمد شكري أحد أبرز الأصوات التي حملت تجربة الهامش بكل تجلياتها، وبرز كرمز للكتابة الصادقة التي تُجسد واقع الفئات المهمشة اجتماعياً واقتصادياً. وُلد شكري في أسرة فقيرة بمنطقة شفشاون شمال المغرب، وعاش طفولة قاسية مليئة بالفقر والجوع والتشرد، حتى وصلت حياته إلى مرحلة درامية مليئة بالمعاناة التي لم تخلو من الجريمة والإدمان. كل هذه التجارب شكلت خلفية أدبية غنية، حولته إلى شاهد حي على واقع مجتمع يعيش في الظل، بعيدًا عن أضواء المدن الكبرى والنخب الثقافية.
الكتابة عند شكري لم تكن مجرد سرد تجارب شخصية، بل كانت صرخة احتجاجية على حالة التهميش والحرمان، وعلى الظلم الاجتماعي والسياسي الذي يعانيه الفقير والمهمش. في روايته الشهيرة «الخبز الحافي»، يفتح شكري نافذة على حياة الأطفال الذين يعيشون في حافة المجتمع، متناولاً التفاصيل اليومية للحياة التي تبدو للبعض عادية، لكنها عنده معاناة مركبة مليئة بالألم النفسي والجسدي. لم يلجأ إلى التجميل الأدبي أو إلى استحضار لغة رفيعة، بل اعتمد على لغة مباشرة وصادمة، تعبّر عن واقع لا يحتمل المراوغة.
من خلال سيرته، استطاع شكري أن يثبت أن صوت الهامش يستحق أن يُسمع، وأن أدب المهمشين له مكانته في التراث الأدبي المغربي والعالمي. وهذا التوجه جعله قريبًا من الفكر اليساري الذي يؤمن بضرورة إظهار معاناة الطبقات الشعبية، وبأن الأدب أداة فعالة في الكشف عن آلام الواقع وتحريك الوعي الجماهيري نحو التغيير.
أسلوب شكري في السرد يقوم على الصراحة المطلقة، لا يخفف ولا يتغاضى عن قسوة الحياة، بل يواجهها بلا مواربة. وهذا ما يجعله ذا مصداقية عالية لدى قرائه، ويضعه في مصاف كبار الكتّاب الذين قدموا أدبًا موجعًا لكن ضروريًا لفهم الواقع الاجتماعي. وتجربته تحمل بُعدًا إنسانيًا عميقًا، إذ يرى الكاتب أن الكشف عن المعاناة هو بداية للشفاء والتغيير.
كما يمكن القول إن تجربة شكري تمثل شكلًا من أشكال المقاومة الثقافية التي تخترق جدران الصمت، فتفضح البؤس والتهميش، وتطالب بتحولات اجتماعية وسياسية جذرية. فهي ليست فقط قصة فرد، بل شهادة على واقع متعدد الأوجه، وعلى مجتمع بحاجة إلى الإصلاح.
في هذا الإطار، يلعب أدب شكري دورًا مزدوجًا: من جهة هو تسجيل تاريخي لحياة المهمشين في المغرب، ومن جهة أخرى هو فعل احتجاجي يحمل أبعادًا فلسفية وسياسية، يسعى إلى إعادة رسم معالم الهوية الوطنية على أسس أكثر عدالة ومساواة.
لقد ترك محمد شكري إرثًا أدبيًا لا يُنسى، يجعلنا نعيد التفكير في قيمة الإنسان المهمش، ويرفع من شأن الكلمة التي تتحدث نيابة عن الغائبين، مقدّمًا نموذجًا حيًا لأدب الهامش الذي يصنع ثورة وعي داخل المجتمع
في حين أن محمد زفزاف وتجربته الفريدة: صوت المهمشين في مواجهة مأساة الاغتراب والنهضة
في مشهد الأدب المغربي والعربي في مرحلة ما بعد الاستعمار، برز محمد زفزاف كأحد الأصوات الأدبية المتميزة التي جسدت تجربة الهامش وصراع الهوية، وهو موضوع ظل محورياً في الأدب العربي المعاصر. وُلد زفزاف في طنجة عام 1942، ونشأ في بيئة اجتماعية واقتصادية صعبة انعكست بوضوح على تجربته الإبداعية. لم يكن مجرد كاتب سردي، بل كان شاهدًا على معاناة الطبقات الشعبية، حاملاً هموم المهمشين في مدينته وأحيائها الشعبية، ومعبّرًا عن أزمة الإنسان بين العولمة والهوية، بين التراث والحداثة.
خلال فترة النهضة والانفتاح التي عرفها المغرب والعالم العربي عموماً، ظهر جيل من الأدباء الذين تناولوا موضوعات الاغتراب والهوية والانقسام الثقافي والسياسي. وكان زفزاف من بين هؤلاء الذين جابهوا التحديات بإصرار، مبرزين مأساة الاغتراب الثقافي والوجداني في نصوصهم. وكان من أبرز معاصريه كتاب عرب شاركوه هذا الهم، منهم الجزائري محمد ديب الذي تناول في أعماله الفقر والاستعمار في الجزائر، والمفكر المغربي سعيد يقطين الذي تطرق للحداثة وقضايا الهوية، والأديب المصري طه حسين الذي خاض معارك فكرية ضد الجمود الاجتماعي والثقافي.
هذه التجارب الأدبية المتنوعة تشترك في خلفيات تاريخية وثقافية متشابهة، حيث تعكس المرحلة الانتقالية من الاستعمار إلى الاستقلال، وما صاحبه من تحديات في بناء الهوية الوطنية والمواجهة مع قيم الحداثة الغربية، التي شكلت بدورها حالة من التوتر والتشرذم في وعي الإنسان العربي.
يتميز أدب زفزاف بدمجه بين السرد الشعري والواقعي، ما أضفى على أعماله حيوية وعمقاً. ففي روايته الشهيرة «المرأة والوردة»، تظهر الوردة رمزًا مركبًا يعبر عن الصمود والضعف في آن واحد، رمز الحياة وسط الخراب، والجمال الذي يقاوم ظروفًا قاسية. من خلال هذه الرمزية، استطاع زفزاف أن يصور مأساة الإنسان الذي يعيش في حالة من التشظي والاغتراب، ما بين الانتماء إلى مجتمع لم يعطه حقه، وبين رغبة في التحرر من القيود الاجتماعية والسياسية.
اللغة التي استخدمها زفزاف في كتاباته كانت حيوية، قريبة من لغة الناس اليومية، تعكس نبض الشارع والواقع اليومي للمهمشين. أسلوبه الحاد والمباشر جعله مختلفاً عن عدد من الأدباء الذين اعتمدوا الأساليب التقليدية أو الرصينة في التعبير. فقد اختار زفزاف أن يكون صوت من لا صوت لهم، وأن يحمل هموم الفقراء والعمال والنساء المهمشات، مستعرضًا قضايا مثل القهر الطبقي، والتمييز الاجتماعي، وانتهاك حقوق الإنسان.
بالإضافة إلى السرد، تميز زفزاف بشعره الذي أضفى على تجربته الأدبية بعدًا فلسفيًا وإنسانيًا. تناول في قصائده مواضيع الغربة، والتمرد على الواقع، والحاجة الماسة للتحرر، مساهماً بذلك في حركة ثقافية وفكرية أوسع سعت إلى بناء هوية مغربية جديدة، متحررة من تبعات الاستعمار والهيمنة الداخلية. هذه الحركة لم تقتصر على الأدب فقط، بل امتدت إلى السياسة والفكر، مما جعل تجربة زفزاف جزءًا من مشروع نهضوي شامل.
كانت كتابات زفزاف تعبيرًا عن وعي جمعي يرفض الصمت على الظلم والفساد، وينادي بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. وتحولت أعماله إلى منبر للمتضررين، حيث عبر من خلالها عن الألم الجماعي، وفتح أبوابًا للنقاش والوعي حول التحديات التي تواجه المجتمع المغربي والعربي.
بهذا المعنى، لم تكن تجربة زفزاف فردية بحتة، بل انعكاس لصراعات مجتمع بأكمله يسعى لإعادة بناء ذاته، ويتحدى صور القهر والظلم التي فرضتها ظروف التاريخ والسياسة. ومن خلال أدواره ككاتب وناشط ثقافي، ساهم في تأسيس أدب الهامش كفضاء هام في المشهد الثقافي المغربي والعربي، يعبر عن صوت الإنسان العادي بكل تناقضاته وأحلامه.
في النهاية، تبقى تجربة محمد زفزاف شهادة حية على قدرة الأدب في أن يكون مرآة صادقة للمجتمع، وفضاءً للتحرر، وأداة لثورة الوعي، حاملة رسالة تتجاوز الزمان والمكان، وتدعو إلى إنسانية حقيقية تنبع من أعماق الحياة اليومية
مما أعطى ادب الهامش أهلية ليمثل الفئات الثائرة المتمردة على واقع ضرير مأساوي قاتم
أدب الهامش وتأثير الفكر اليساري: صرخة الفقراء والعاطلين في أعمال محمد زفزاف وحسن شكري
في ظل التغيرات الاجتماعية والسياسية التي عرفها العالم الحديث، برز الفكر اليساري كإطار نقدي للرأسمالية وأثرها المدمر على الطبقات الشعبية، حيث دعا إلى العدالة الاجتماعية وتوزيع الثروة، ونبذ الاستغلال الطبقي. هذا الفكر لم يقتصر على المجال السياسي فقط، بل انتقل إلى المجال الثقافي والأدبي، فبرز أدب الهامش كأدب يعبر عن صوت المهمشين، الفقراء، والعاطلين، ويشكّل وسيلة احتجاجية ضد سطوة النظام الرأسمالي.
إن أدب الهامش هو في جوهره ثورة ثقافية تنطلق من تجربة فئات مغلوبة على أمرها، تعيش في ظل التهميش الاقتصادي والاجتماعي، حيث يعكس هذا الأدب مآسي الفقر والبطالة والاغتراب الذي يعيشه ملايين من البشر في مدن الألفية الثالثة. وهذا التجسيد لا يقتصر على مجرد وصف أو سرد، بل هو فعل احتجاجي قائم على توثيق الواقع وكشف آثاره الإنسانية والوجودية.
يقول الناقد المغربي محمد الأشعري في هذا الصدد:
"أدب الهامش هو الحنجرة التي تصرخ بالحق في وجه صمت الأنظمة، إنه يشكل الوعي الجماهيري الذي يناضل ضد نير الاستغلال والهيمنة، إنه مرآة تعكس معاناة الطبقات الكادحة وأملها في التغيير."
هذا الكلام يؤكد أن الأدب الذي ينبثق من الهامش ليس أدبًا هامشيًا بالمعنى التقليدي، بل هو أداة فكرية وسياسية تحمل صوت الفقراء والمهمشين وتحاول من خلاله اقتلاع جذور الظلم الطبقي.
من أبرز الكتاب الذين جسّدوا هذا المفهوم في المغرب، يبرز اسم محمد زفزاف، الذي يُعد واحدًا من أبرز رواد أدب الهامش. ففي أعماله مثل رواية "اللعاب" و"الفرس بعيداً"، يقدم زفزاف قراءة عميقة وواقعية للحياة الاجتماعية في المغرب، خاصة في الأحياء الشعبية التي تعاني من الفقر والبطالة والاستبداد.
يتحدث زفزاف عن هذا الواقع بقلم حادّ وصادم، يقول في أحد تصريحاته:
"أنا أكتب من أجل أولئك الذين لا يُسمع صوتهم، أكتب من أجل المهمشين الذين تُقفل في وجوههم أبواب الحياة."
في رواية "اللعاب"، يعرض زفزاف حياة عائلة تعيش في ظروف قاسية داخل المدينة، ويُبرز الصراعات النفسية والاجتماعية التي تواجهها هذه العائلة، التي تعاني من الجوع، الفقر المدقع، والاغتراب الاجتماعي، مما يجعل الرواية شهادة حية على واقع الطبقة الشعبية.
يرى الناقد عبد اللطيف اللعبي أن زفزاف كان "صوتًا حقيقيًا للطبقات المهمشة، لم يكتب عنهم بصفة مراقب بل كان من بينهم، ينقل معاناتهم كما هي، دون رتوش أو تجميل". ويضيف:
"أعماله تحمل في طياتها بعدًا ثوريًا يرفض الظلم الاجتماعي ويطالب بالتغيير العميق."
بالمثل، يعتبر حسن شكري من الأصوات الأدبية التي جسّدت هموم الفقراء والعاطلين عن العمل في المدن المغربية. من خلال مجموعاته القصصية التي تنقل واقع أحياء الصفيح والأحياء الشعبية، يحكي شكري قصصًا يومية لأناس يعيشون في ظل التهميش، من دون أن يتلقوا الدعم أو التقدير. في مقدمة إحدى مجموعاته، يؤكد:
"أنا أروي قصص منسية لأشخاص يعيشون في هوامش المدن، قصصهم مليئة بالآلام والانتظار، يبحثون عن أمل ولو ضئيل."
تتميز كتابات شكري بلغة صريحة وواضحة تجعل من السهل على القارئ الشعور بالواقعية والتعاطف مع الشخصيات، حيث يقول النقاد مثل فاطمة الزهراء الحسني:
"شكري يستعمل السرد كأداة نقد اجتماعي، يفضح من خلاله استغلال الرأسمالية المتوحشة ويجعل من أدبه مرآة للواقع الاجتماعي المرير."
الأدب الهامشي، كما هو واضح في هذه الأعمال، ليس مجرّد سرد لحياة المهمشين، بل هو فعل ثوري يفضح آليات القهر والاستغلال، ويطرح تساؤلات حاسمة عن العدالة والكرامة الإنسانية. إن أدب الهامش يستند إلى المبادئ الفكرية اليسارية التي تنادي بالعدالة والمساواة، ويرفض أن يكون الفقراء مجرد أرقام في تقارير إحصائية، بل يدافع عنهم كأشخاص لهم حقوق وكرامة.
يقول المفكر الفرنسي بيير بورديو:
"الأدب هو ساحة صراع ثقافي بين القوى التي تحاول فرض سلطتها وبين تلك التي تناضل من أجل التعبير عن نفسها. أدب الهامش هو ذلك المجال الذي يكسر هيمنة النخب ويعطي صوتًا لمن هم في مواقع الضعف."
هذا الطرح يوضح كيف أن أدب الهامش يعكس صراعًا أيديولوجيًا وثقافيًا حقيقيًا، وهو جزء لا يتجزأ من الثورة الفكرية اليسارية التي تسعى لتغيير الواقع الاجتماعي والاقتصادي.
ختامًا، يمكن القول إن تأثير الفكر اليساري على أدب الهامش هو تأثير جوهري، حيث تحوّل الأدب من مجرد فن جمالي إلى فعل سياسي وثقافي يحمل مطالب العدالة والكرامة. وقد تجسّد هذا في أصوات قوية مثل محمد زفزاف وحسن شكري، اللذين أبدعا نصوصًا تنطق بمعاناة الفقراء والعاطلين، وتدعو إلى إعادة النظر في بنية المجتمع الرأسمالي الذي يستمر في إفقار وتمييز الفئات الضعيفة.
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟