دخيل شمو
الحوار المتمدن-العدد: 8428 - 2025 / 8 / 8 - 03:01
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
دخيل شمو
إعلامي وصحفي مقيم في واشنطن
يمر الإيزيديون اليوم بإحدى أخطر مراحل وجودهم، ويكمن هذا الخطر في بروز مجاميع متطرفة داخل المجتمع، لديهم خلافات حادة على الهوية القومية للإيزيديين، وكذلك حول إجراء إصلاحات دينية، بل المحزن في الأمر أن هؤلاء المتطرفين مثلهم مثل كل الجماعات المتطرفة في العالم، يعتقدون بأنهم يملكون الحقيقة المطلقة، لذلك فهم يتجنبون الدخول في أي حوار حضاري عقلاني هادئ، من شأنه تقليص الفجوة بينهم وبين معارضيهم الذين يجمعهم العقيدة والدم.
فقد ظهرت في السنوات الأخيرة هذه الجماعات مدفوعة بخلافات حادة حول مسألتين محوريتين: الهوية القومية والإصلاح الديني، فبينما يرى البعض أن الإيزيديين جزء لا يتجزأ من الأمة الكردية، يعتبر آخرون أن لهم هوية قومية مستقلة لا تخرج من أطر المعتقد نفسه، مما ولد هذه إنقسامات داخلية وتم استثمارها سياسياً، بدليل أن جميع الأطراف السياسية المتخاصمة في المنطقة لها موطئ قدم في
وغالباً ما ينشأ التطرف عندما يشعر الأفراد بتهديد هويتهم أو معتقداتهم، خاصة إذا ما تزامن هذا الشعور مع تراجع الثقة بالمؤسسات والقيادات التقليدية، فهذا الشعور بالتهديد يُهيئ بيئة خصبة لتبني الأفكار المتطرفة كرد فعل على ما يعتبرونه انتهاكاً لوجودهم وقيمهم المشتركة.
هل الإصلاح الديني ضرورة حتمية أم تهديد؟
على صعيد الإصلاحات الدينية، فقد أثارت دعوات سابقة إلى تحديث الفكر الإيزيدي وبنيته المؤسساتية حالة من الجدل، قبل سنوات، إذ أن بعض التيارات ترى في الإصلاح تهديداً للتراث الإيزيدي وهويته النقية، بينما ينظر إليه آخرون كضرورة ملحة للحفاظ على الدين وإدامته وتطويره في زمن التحولات الكبرى.
وغالباً، يُساء فهم الديانة الإيزيدية على أنها ديانة مغلقة على نفسها لا تقبل التغيير أو التحديث، لكن الواقع التاريخي والفكري أثبت العكس تماماً، فالإيزيدية ليست فقط ديانة ذات جذور عميقة في التاريخ، بل هي أيضاً منظومة دينية وثقافية مرنة، قادرة على التجدد من الداخل دون أن تفقد ماهيتها الفكرية والروحية.
لذلك فالإصلاح ليس تهديداً، بل فرصة لبناء مستقبل أكثر إشراقاً، ويمنح المجتمع الإيزيدي القوة للنهوض من جديد، ويعزز التفاعل الإنساني، لا سيما فيما يتعلق بالانفتاح على العالم، فبدون إصلاحات تواكب روح العصر، فإن الإيزيدي بعد جيلين أو ثلاثة قد يجد نفسه أمام واقع قد يفقده القدرة على لملمة جذوره، ويجعله عاجزاً عن الحفاظ على هويته، إذا أخذنا بعين الاعتبار حقيقة أن الزمن كفيل بتآكل المجتمعات التي لا تجدد نفسها.
الخلافات حول الهوية القومية تمهيد للانقسام
لم يبدأ الانقسام داخل المجتمع الإيزيدي حول الهوية القومية كإحدى تداعيات الإبادة الجماعية على أيدي متطرفي الدولة الإسلامية - داعش كما يظنه البعض، ولكنه أخذ طابع التطرف كرد فعل لتلك الإبادة. ففي أعقاب حملات الإبادة التي شنها العثمانيون، وبتعاون العشائر الكردية على الأرمن والإيزيديين بدايات القرن العشرين، وتحت ضغوط بعض الأرمن الذين كانوا يعادون الكرد، ظهرت اتجاهات متباينة حول الانتماء القومي للإيزيديين ولا تزال موجودة، غير أنها لم تؤدِ إلى العنف، وهذا أمر مفرح.
ولكنني أعتقد أن الخلافات الأخيرة داخل المجتمع الإيزيدي حول الهوية القومية لا تتعدى كونها رد فعل عنيف للسياسات الخاطئة التي انتهجتها الأحزاب الكردية، وبخاصة الحزب الديمقراطي الكردستاني (الپارتي) الذي كان مهيمناً ومتنفذاً في شنگال أبان الإبادة في 3 أب 2014.
ولكن اليوم يقف الإيزيديون على أعتاب مرحلة جديدة تحتم عليهم أن يختاروا بين الاستعداد للانقسامات أو معالجة التطرف الداخلي الذي غذته الخلافات حول الهوية القومية، والتي تتطلب شجاعة في مواجهة تحديات العصر بأساليب حضارية، وانفتاحاً على الحوار، وتمسكاً بقيم الاعتدال التي كانت دوماً جزءاً من هوية الإيزيديين.
ولا أعتقد أن هنالك شخصين يخالفان في الرأي بأن التطرف داخل المجتمع الإيزيدي يمثل تهديداً خطيراً لوحدته وتماسكه، فبينما يواجه الإيزيديون تحديات خارجية متواصلة مثل التمييز والهجرة، والتهميش، وآثار الإبادة الجماعية، هم لا يزالون هدفاً للأيديولوجيات الدينية المتطرفة.
لذلك فإن بروز أصوات متطرفة من داخل المجتمع نفسه يمكن أن يزيد من الانقسامات ويسرعها، ويهمش الخطاب المعتدل والجهود الجماعية المبذولة من أجل التعافي، فعلى مر التاريخ كان الإيزيديون ضحايا هذا التطرف، وقد أثبتت تجارب الشعوب أن التطرف لم ولن يكون الحل أبداً، ولا يجلب غير الدمار لمن يمارسه، ولن يغير شيئاً من هذه الحقيقة إن كنت تتخذ من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار موقعاً لهذا التطرف.
الحوار الهادئ كفيل بمعالجة التطرف
ولأن معالجة التطرف لا تتم بالعداء أو العقاب أو الإقصاء، بل في مواجهة الخطابات التي تروّج لعقيدة الحقيقة المطلقة، ففي غياب خطاب معتدل وموحد مبني على أسس علمية وعقلانية، قد تعمق الأيديولوجيات المتطرفة الفجوة التي تخلقها التنافر والشرذمة، وتقدم نفسها على أنها الخلاص الحقيقي والحل الأوحد.
أما مواجهة النزعات المتطرفة داخل المجتمع الإيزيدي فإنه مرهون بالعمل على فتح مساحات آمنة للتفاهمات بين مختلف المكونات الفكرية والسياسية والدينية، وتشجيع الحوار حول الهوية والموروث والدين والإصلاح بعيداً عن التخوين أو التكفير، ولاسيما الحوار الذي يمهد لتشكيل مجالس استشارية تضم ممثلين عن أطياف المجتمع كافة، مع تمكين شخصيات تحظى بالمصداقية والثقة لتقود جهود بناء الجسور وتعزيز ثقافة الحوار، إلى جانب الوقوف بوجه كل من يبث خطاباً تحريضياً أو تكفيرياً يهدد السلم المجتمعي.
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟