شيرين جواد
الحوار المتمدن-العدد: 8425 - 2025 / 8 / 5 - 18:24
المحور:
الادب والفن
الشاعر والكاتب الكبير الأستاذ سعدني السلاموني طرح لنا إشكالًا هو "الأمية البصرية"، والمعروف والمألوف لدينا هو الأمية، والمقصود بها الجهل بالقراءة والكتابة، ثم أصبحت فيما بعد "الأمية الرقمية"، ويُقصد بها الجهل بالتكنولوجيا الحديثة وأعمال الحاسوب، وهذا آخر ما عهدناه.
لكن الكاتب الكبير السلاموني لم يقف عند هذه النقطة، بل قدَّم لنا رؤية جديدة، واكتشافًا فريدًا، هو في واقع الأمر مشروع له هدف محدد، وهو "محو الأمية"، ولكنها ليست خاصة بالقراءة ولا بالكتابة ولا بالتكنولوجيا الحديثة، بل تتعلق بالجهل البصري؛ أي "محو الأمية البصرية"، وهي إزالة الجهل بكل ما تراه العين.
في واقع الأمر، فإن "محو الأمية البصرية" مشروع يطرح إشكالية غاية في الأهمية، هو بمثابة جرس إنذار في وجه القبح، وفي الوقت نفسه تنبيه لإدراك ماهية الجمال وإعادة ترسيخه؛ لأن الجمال قيمة عُليا من أعلى وأسمى القيم.
الجمال فضيلة، ومهمتنا في الحياة جعله يسود. الجمال هو الوجه الآخر للرقي. الله جميل يحب الجمال، والجمال من صنع الخالق. والطبيعة هي معلمنا الأول، وهي أعلى درجات الجمال. الجمال قيمة سامية تُهذِّب النفس وتُكسبها الفضيلة.
ونحن من أكثر الشعوب التي نشأت على رؤية الجمال؛ أولًا: في الطبيعة من حولنا، وثانيًا: في ميراثنا الضخم والعظيم من أجدادنا قدماء المصريين، من معابد وأهرامات إلى متاحف ممتلئة بميراث الأجداد.
الطبيعي أن نُكمل مسيرة الجمال البصري الذي ورثناه، وكما تعرَّف المصري القديم على الحياة بطريقته الخاصة من تأمُّل، ومراقبة، وإعمال للبصر، ومن ثم البصيرة، مرورًا بالتجربة التي قام بتدوينها بالمثل.
امتلك السلاموني فلسفته الخاصة من خلال تكوينه الشخصي الفريد والمختلف عن أقرانه، كما لا نغفل انتماءه لعالم التصوف المتعمق إلى بواطن الأمور، بطريقته الفلسفية التي لا تخلو من أبعاد بصرية، مكنته من اكتشاف وتدوين وطرح نظريته عن "محو الأمية البصرية".
تحضرني هنا مقولة رائعة لأفلاطون: "علِّموا أولادكم الفنون ثم أغلقوا السجون"، فالشخص المتذوق للجمال، الواعي للجمال داخل النفس البشرية قبل خارجها، لا مفر من انعكاس الجمال على سلوكه، ولا مفر من أن يتصرف بطريقة لائقة وراقية.
كما تحضرني جملة غاية في الروعة من موسوعة "محو الأمية البصرية" في جزئها الأول، للأستاذ السلاموني: "اللغة البصرية هي شجرة الأشجار".
وأتفق معه؛ لأن اللغة البصرية أداة تواصل عالمية بين الشعوب، وقد تُغني أحيانًا عن الكلام.
أتذكّر موقفًا لطيفًا في أحد المعارض خارج البلاد، كان المشاركون من دول متعددة ومختلفة، ومع العدد الكبير كان من الصعب الإلمام بجميع اللغات، فكانت لوحاتنا هي بوابات التعارف بين الفنانين دون الحاجة لإجادة لغة البلد، ولم يكن هناك أي عائق في التواصل.
أحيّي الشاعر والكاتب الكبير سعدني السلاموني على هذا الهدف النبيل الذي يسعى إليه، وهو الرغبة في بناء إنسان العصر الحديث، والارتقاء بالوعي البصري على أُسس علمية، انطلاقًا من رؤيته التي تقول:
> "إن أكثر من 90٪ من بناء الإنسان وتكوينه يعتمد على الذاكرة البصرية".
وله في ذلك كل الحق؛ لأن الذاكرة البصرية غاية في الأهمية، فهي لا تتعلق فقط بما يُرى بالعين ويُخزن كذاكرة بصرية، بل أيضًا الكلمات المسموعة تتشكل في هيئة صورة.
فعندما نحكي لطفل حكاية، يسمعها بأذنه، لكن تتكون لديه صور ومشاهد تُخزن في الذاكرة البصرية.
قال كونفوشيوس: "الصورة خير من ألف كلمة"، فالصورة هي أولى مراحل تعلُّم الطفل منذ ولادته، قبل الكلام؛ فهو يتعلم مما يراه أمامه من صور متحركة طوال اليوم، وفي أعوامه الأولى في الدراسة يتعلم بالكتب المصورة، يتعرف على النبات والحيوان من صورته.. وهكذا.
والجميل أن الطفل يولد ولديه ميل فطري للفن والجمال، وهذا لا خلاف عليه؛ لأنه يولد على الفطرة السليمة، دون مؤثرات خارجية، ويكون لديه ميول واستعدادات ومواهب يكون من السهل صقلها بالممارسة والتعليم.
فالتعليم البصري في عمر صغير، مثل المرحلة الابتدائية، تكون ثماره مضاعفة وسريعة للغاية؛ لأننا وقتها ننمّي الشعور الداخلي بالجمال الموجود أصلاً.
ونحن كفنانين تشكيليين درسنا الفن، والآن نقوم بتدريسه لطلاب الفنون، وندرك تمامًا أن التكوين الوجداني للبشر يقوم على فكرة "الصورة المُبصَرة". حتى في كلامنا مع بعضنا البعض نكون متخيلينه في صورة ذهنية.
ولذلك من أهم التدريبات التي نُكلف بها الطلاب، تدريب "رسم أغنية"؛ يسمع كلماتها، ويتخيلها، ثم يُطبق ذلك في لوحة. وهذا من أهم تدريبات الخيال.
وطبعًا يأتي هذا بعد مرحلة رسم الطبيعة الصامتة والحية، حيث يأتي دور الخيال وتطبيقه في صورة بصرية.
نحن في أمسّ الحاجة إلى تطبيق مشروع "محو الأمية البصرية" وتنفيذه على أرض الواقع، وفقًا للتدريب الذي ذكره الأستاذ السلاموني، بدءًا من:
مدرسة محو الأمية البصرية، المعهد العالي للتعليم البصري، كلية محو الأمية البصرية (علم وتعليم)؛ لأن هناك صعوبة في قراءة وتذوق العمل الفني لدى الشخص العادي، وهذا يرجع إلى تعدد المذاهب الفنية التي ظهرت بعد اختراع الكاميرا.
ففي البداية، كانت الفنون أكاديمية تقليدية، تتلخص في رسم المناظر الطبيعية والصور الشخصية للملوك، وكانت بالتالي مفهومة. لكن بعد اختراع الكاميرا، أصبح من العبث الاستمرار في محاكاة الطبيعة، ومع تطور الفن وفقًا للأحداث السياسية والاقتصادية المصاحبة لكل عصر، تعددت المذاهب الفنية (من تعبيرية إلى تكعيبية، إلى تجريدية، إلى سريالية... إلخ)، وهذه المذاهب غالبًا ما تكون غامضة ومجهولة للشخص العادي؛ لأنه غير قادر على فهم رموزها، وبالتالي غير قادر على تذوقها، لأنها تبدو له مبهمة.
وبغض النظر عن اختلاف وجهات النظر حول شيء جديد، فإن مشروع "محو الأمية البصرية" قد نجح في تجميع كتّاب وشعراء وعلماء وفنانين تشكيليين حول فكرته، وتجسَّد ذلك بالفعل على أرض الواقع في "المعرض الدولي الأول لمحو الأمية البصرية"، وما تبعه من ندوات ولقاءات، واجتماع أكثر من أربعين فنانًا من مختلف فروع الفن، اجتمعوا على حب الوطن، والرغبة في الارتقاء بالفرد ليصلح المجتمع؛ لأن أي خلل يصيب الفرد ينتقل إلى الجماعة، ويليه إلى المجتمع، ويصبح السلوك المضطرب سمة للعقل الجمعي، ونحن في غنى عن ذلك.
-----
*د. شيرين جواد
دكتوراه في فلسفة الفنون الجميلة
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟