السعدية حدو
الحوار المتمدن-العدد: 8424 - 2025 / 8 / 4 - 17:17
المحور:
الادب والفن
**المقدمة
تشكّل مسألة التجنيس الأدبي أحد المرتكزات الأساسية في مقاربة النصوص السردية المعاصرة، خصوصًا تلك التي تتداخل فيها الأشكال وتتقاطع الأساليب. وفي هذا السياق، تُقدَّم رواية "سوناتا الغراب" للكاتبة العراقية فيحاء السامرائي بوصفها عملًا روائيًا، سواء من خلال الغلاف أو الترويج أو حتى الاستقبال القرائي الأولي. غير أن القراءة المتأنية لبنية النص وخطابه، تكشف عن مسافة فاصلة بين التصنيف المعلن والبنية الفعلية للنص، ما يضعنا أمام إشكالية نقدية جوهرية: هل تُعدّ "سوناتا الغراب" رواية بالمعنى التقني للكلمة؟ أم أننا أمام سيرة ذهنية مغلّفة بغلاف روائي؟
إنّ سوء التجنيس لا يُعدّ تفصيلًا شكليًا، بل يتسبب أحيانًا في ظلم العمل الأدبي نفسه، حين يُخضع لمعايير جنس أدبي لا ينتمي إليه بنيويًا. وبهذا المعنى، تغدو إشكالية تجنيس "سوناتا الغراب" مدخلًا لفهم علاقتها بالتصنيف الأدبي، ومساءلة مشروعها الفني، وتفكيك بنيتها الداخلية. في هذا الإطار، لا بدّ من التمييز النظري بين الرواية والسيرة الذهنية. فالرواية جنس سردي يقوم على بناء حبكة مترابطة، وشخصيات نامية، وزمن يتسم بالخطية أو التدوير، ومكان فاعل في السرد، كما يتميّز بتعدد الأصوات والانفتاح على العالم الخارجي. بينما السيرة الذهنية، فهي شكل تعبيري ذاتي، يركّز على وعي الفرد وتجاربه الداخلية، حيث تحضر الذات باعتبارها مركزًا للسرد، ويهيمن التأمل والمونولوج، بينما تتراجع الحبكة والشخصيات لصالح التداعي والانعكاس. من هذا التمايز، ينشأ مسار القراءة النقدية التي تُنصف النص من خلال مقاربته في ضوء شكله التعبيري الحقيقي.
يمثّل إقحام "سوناتا الغراب" ضمن خانة الرواية إشكالًا نقديًا يتجاوز الخطأ الاصطلاحي إلى خلخلة أسس التلقي. فالنص حين يُدرج في جنس أدبي لا يطابق بنيته، يُحاكم بمقاييس لا تخصه، مما يُفضي إلى تقويم ناقص، أو إلى افتراض نقص في عناصره السردية. إن معيار الحبكة، على سبيل المثال، يغدو عديم الجدوى حين نواجه نصًا لا يسعى إلى بناء حدث أو ذروة، بل يشتغل على انفعالات متقطعة وتمثيلات ذهنية. كذلك فإن غياب الفاعلية في الشخصية أو غموض المكان لا يُعدان عيبين إذا قُرئ النص في ضوء أجناس بديلة كالسيرة الذهنية أو الكتابة التأملية.
في ظل هذه التوترات، لا يعود سؤال التجنيس مجرّد بحث في الشكل، بل يصبح معنيًا أيضًا بمشروعية القراءة. فالقارئ، حين يتعامل مع "سوناتا الغراب" بوصفها رواية، يصطدم بما يظنه نقصًا أو انقطاعًا أو تكرارًا. لكن حين يُعيد موضعة النص ضمن سياق السيرة الذهنية، تتبدد هذه الأحكام، ويُفهم التكرار بوصفه تموّجًا نفسيًا، والانقطاع كتعبير عن وعاء الذاكرة المهزوز، واللغة المتوترة كامتداد لحالة ذهنية مأزومة.
من هنا، لا يتعلق الإنصاف النقدي بمقدار الإعجاب أو الرفض، بل بقدرة القراءة على احترام خصوصية النص، وتشريحه بحسب منطق اشتغاله لا بحسب قوالب جاهزة. ومن المهم أن يُدرك المتلقي أنّ التجنيس الخاطئ قد يُشوّه فعل التلقي، ويُقصي نصوصًا كثيرة عن فضاء الإنصاف، فقط لأنها لم تُقرأ من الزاوية المناسبة.
**إشكالية التجنيس الأدبي في "سوناتا الغراب"
تُطرح "سوناتا الغراب" كـ"رواية"، إلا أن فحص بنيتها الداخلية وخصائصها السردية يقود إلى مساءلة هذا التصنيف. فالنص يُبنى على خطاب ذاتي تأملي يغلب عليه الطابع الذهني، ويتفكك عبر وحدات سردية قصيرة، أقرب إلى المقطوعات أو الشذرات منها إلى فصول روائية.
*غياب الحبكة الروائية: لا تتضمن "سوناتا الغراب" مسارًا سرديًا واضحًا أو تطورًا دراميًا. الأحداث متناثرة، غير مرتبة زمنيًا، وتفتقر إلى التوتر القصصي أو العقدة والحل.
*الذات بدل الشخصية: الشخصية المركزية في العمل لا تُبنى دراميًا، بل تُقدّم كذات متأملة، منغلقة على وعيها، دون ملامح روائية خارجية.
*الزمن المتشظي: يُبنى الزمن من خلال لحظات استرجاع وتداعٍ داخلي، دون خطية أو تطور، ما يعطّل الإيهام بالواقعية.
*اللغة والمونولوج: يغلب على النص الطابع المونولوجي التأملي، مع حضور خافت للحوار، واختزال للأحداث لصالح الانفعالات الذهنية.
هذه الخصائص تقرّب العمل من جنس السيرة الذهنية، لا الرواية بالمعنى التقليدي.
**بنية التشظي بين القارورات والتقنيات السردية في أفق السيرة الذهنية
يتخفى التشظي البنيوي في "سوناتا الغراب" تحت صورة جمالية معلنة، تتمثل في تقسيم النص إلى "القارورات"، حيث تعتمد الكاتبة على هذا اللفظ رمزيًا ليمنح النص بنية مجزأة لكنها ذات دلالة سردية خاصة. تكسب هذه الأقسام المعنونة بـ"قارورات" الشكل المجزأ شرعية داخلية، تجعل من التفكك البنيوي عنصرًا جماليًا مقصودًا، لا عيبًا سرديًا.
تشكل القارورات في هذا السياق تمويهًا للتشظي البنيوي، إذ كل قارورة تضم مقطعًا سرديًا منفصلًا عن غيره، سواء من حيث الموضوع أو الزمان أو حتى الحالة النفسية، مما يجعل بنية النص أقرب إلى دفتر تأملات يومية أو شذرات ذهنية متفرقة، لا إلى نسيج روائي متصل ومتسلسل. هذه الفواصل تفصل النص إلى محطات ذات استقلال نسبي، توحي بأنها تجمعات من الأفكار والمشاعر لا أكثر، بدلاً من تطور درامي أو سردي. هذا الشكل البنيوي يعكس طبيعة السيرة الذهنية، التي تتميز بالتفتت الزمني والمكاني، والتركيز على النفس الداخلية والوعي المبعثر، بعيدًا عن البناء الروائي التقليدي المرتبط بالحبكة المتماسكة وتطور الشخصيات. إضافة إلى ذلك، يمكن اعتبار استخدام المجاز البيئي للقارورة كأداة تبرير جمالي للتقطيع البنيوي، في انزياح واضح عن الشكل الروائي التقليدي نحو شكل سردي أقرب إلى السيرة الذاتية المتشظية، حيث يصبح التفكك والتمزق وسيلة للتعبير عن حالة ذاتية داخلية متفتتة. بذلك، يعكس هذا الأسلوب التقني وعيًا سرديًا مختلفًا، يستثمر التشظي كعنصر جمالي وتعبيري، معيدًا ترتيب النص على أسس التجربة الذهنية الفردية، وليس على قواعد الحبكة أو التطور السردي.
** تعطل الزمان والمكان كأدوات سردية
في "سوناتا الغراب"، لا يظهر الزمن بوصفه إطارًا حاكماً لتطور الشخصية أو تطور الحدث السردي، بل يتحول إلى أداة للتداعي الحر والارتجاع الذهني. الزمن هنا غير خطي، متقطع ومفتت، إذ لا يسير وفق تسلسل منطقي أو تسلسلي يفرض إيقاعًا واضحًا على النص، بل يطفو على سحب الذكريات والتأملات، مما يعكس طبيعة الوعي الذاتي المتشظي.
أما المكان، فهو في النص رمزي أكثر منه واقعي. الشقة، شجرة التوت، الجبل، ليست مواقع مادية فاعلة تؤثر في مجريات السرد، بل تشكّل خلفيات ذهنية ونفسية تعكس الحالة الانفعالية والذهنية للذات المتكلمة. هذه الأمكنة تتحول إلى رموز تشحن النص بمعانٍ داخلية عميقة، لكنها لا تتفاعل سرديًا مع شخصيات أو أحداث خارج ذاتية السرد.
قرائن تؤكد انتماء العمل إلى السيرة الذهنية:
*السرد المونولوجي الداخلي: حيث يسيطر صوت الذات على النص دون وجود راوٍ خارجي أو تعدد للوجهات السردية.
*غياب الخط الدرامي التقليدي: لا يوجد تصعيد أو ذروة أو نهاية درامية واضحة، بل تدفق مستمر من الانفعالات والتفكّر الذاتي.
*التشظي الزمني والمكاني: يظهر النص كلوحة فسيفسائية من الذكريات والمشاعر غير المرتبة زمنياً، مما يكرّس طبيعة التأمل الذهني.
*التركيز على الذات والوعي: السرد مكرّس لاستكشاف الذات، وتحليل المشاعر الداخلية، والصراعات النفسية، دون اهتمام بالسياق الخارجي أو التطورات الحدثية.
هذا التعطيل في استخدام الزمان والمكان، مقرونًا بهذه القرائن، يتناغم مع منطق السيرة الذهنية التي تركز على التجربة الذاتية الفردية داخل مساحة وعي متحررة من قيود الزمن والمكان الواقعي. ومع ذلك، قد يسبب هذا الأسلوب إرباكًا للقارئ المعتاد على معايير الرواية التقليدية التي تعتمد على تتابع زمني واضح وأمكنة ذات حضور سردي ملموس.
**مقارنة صورة المثقف بين "سوناتا الغراب" والسرد الروائي التقليدي
تقدّم "سوناتا الغراب" صورة مثقف/مثقفة مأزوم/ة ضمن أفق السيرة الذهنية، حيث تغدو الذات متأملة ومنكسرة، عاجزة عن اتخاذ قرارات فاعلة أو إحداث تغييرات سردية ملموسة. ينحصر دور هذا المثقف في الاحتكاك بالذات، اللغة، والعزلة، ما يعكس هشاشة وجودية وصراعًا داخليًا مستمرًا، بعيدًا عن أي فعل تغييري أو قيادة سردية.
في المقابل، يُصوَّر المثقف في الرواية التقليدية عادةً كفاعل بنيوي قادر على التأثير في مسار الأحداث، حاملًا لصوت نقدي أو رؤى تفسيرية تحرك الحكاية وتُعرّف المواقف. يكون المثقف هنا شخصية فاعلة، يملك قرارًا أو موقفًا، ويساهم في رسم التفاعلات بين الشخصيات أو صراعها مع المحيط.
هذا التباين يوضح الاختلاف الجوهري بين أفق السيرة الذهنية الذي يركّز على التأمل الذاتي والوعي المبعثر، وأفق الرواية التقليدية التي تمنح المثقف دورًا تحويليًا وتفاعليًا في بناء النص. إذن، في "سوناتا الغراب"، المثقف هو نموذج لتأمل هشّ وذات منكسرة، بينما في الرواية الكلاسيكية يكون المثقف عنصرًا ديناميكيًا يتحرك في فضاء الحكي ويُحدث تغييرات.
**الخاتمة
يُظهر تحليل "سوناتا الغراب" أن تصنيفها كرواية يتعارض مع بنيتها الفعلية. فالعمل، بما يتضمنه من تشظي سردي، ومونولوج داخلي، وغياب للحبكة التقليدية، وانغلاق على الذات، ينتمي في جوهره إلى جنس السيرة الذهنية، لا الرواية. سوء التجنيس هنا لا يُعدّ خطأً تقنيًا، بل مدخلًا إلى محاكمة نقدية ظالمة، إذ يُقاس العمل بمعايير لا تخصه. ومن ثم، فإن قراءة "سوناتا الغراب" كسيرة ذهنية تُعيد لها توازنها الفني، وتتيح فهمها ضمن أفق مغاير للأنواع السردية الحديثة في الأدب العربي. إن هذه الإشكالية تفتح المجال أمام مراجعة نقدية أوسع، تُعيد التفكير في حدود الأجناس، ومرونة التصنيف، وحق النص في أن يُقرأ ضمن شروطه، لا شروط السوق أو الغلاف.
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟