أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - امير وائل المرعب - الكون الواعي: بحث في الضبط الدقيق، والواقع الكمومي، وطبيعة الوجود















المزيد.....


الكون الواعي: بحث في الضبط الدقيق، والواقع الكمومي، وطبيعة الوجود


امير وائل المرعب

الحوار المتمدن-العدد: 8424 - 2025 / 8 / 4 - 15:16
المحور: قضايا ثقافية
    


مقدمة

يتناول هذا التقرير مجموعة من الأسئلة العميقة التي تقع عند تقاطع الفيزياء الحديثة والميتافيزيقا، مستجيبًا لسلسلة من التأملات الفكرية التي تربط بين حجة الضبط الدقيق للكون، والطبيعة الإشكالية للوعي، والآثار الفلسفية لنظرية الكم. سيقوم هذا البحث بتحليل منهجي لحجة الضبط الدقيق، والتحدي الفلسفي الذي يطرحه الوعي، ودلالات ميكانيكا الكم، وصولًا إلى تقييم رؤية عالمية مقترحة تعتبر الوعي جانبًا جوهريًا من المادة، مقدمةً بذلك بديلًا لكل من فكرة التصميم التقليدي والصدفة المحضة. سنبدأ بالاعتراف بالعمق الفكري للاستفسار المطروح، وتأطيره كتركيب متطور للفكر العلمي والفلسفي المعاصر، ثم نوضح هيكل التقرير كرحلة استكشافية عبر هذه الأفكار المترابطة.
________________________________________
القسم 1: المصادفة الكونية: كون مهيأ للحياة

يؤسس هذا القسم للسياق العلمي والفلسفي لحجة الضبط الدقيق، التي تمثل نقطة الانطلاق في هذا البحث. سنسلط الضوء على قوة هذه الحجة، ثم نستكشف الحجج المضادة الرئيسية التي ألمح إليها الاستفسار الأصلي.

1.1. أوركسترا الثوابت: الأساس العلمي للضبط الدقيق

في قلب الكون الذي نعرفه، توجد أربع قوى أساسية تشكل أعمدة بنيته المعمارية: الجاذبية، والكهرومغناطيسية، والقوتان النوويتان القوية والضعيفة.1 هذه القوى، إلى جانب مجموعة من الثوابت الفيزيائية الأخرى مثل الثابت الكوني، ونسب كتل الجسيمات، وسرعة الضوء، تبدو قيمها وكأنها معايرة بدقة متناهية للسماح بوجود كون قادر على دعم بنى معقدة، وفي نهاية المطاف، الحياة.1
هذا "الضبط" ليس مجرد فكرة مجردة، بل هو ملاحظة علمية تستند إلى أمثلة ملموسة. على سبيل المثال، قوة الجاذبية، التي تحكم تكوين المجرات والنجوم والكواكب، لو كانت قيمتها أكبر بنسبة ضئيلة، لاحترقت النجوم وقودها بسرعة هائلة، مما يجعل الكون عنيفًا وقصير العمر وغير مناسب للحياة.1 وبالمثل، القوة النووية القوية، المسؤولة عن تماسك نوى الذرات، لو كانت أضعف قليلًا، لما تكون سوى الهيدروجين في الكون، ولو كانت أقوى قليلًا، لاستهلكت النجوم وقودها بسرعة كبيرة جدًا.1 إن أي تغيير طفيف في مقدار هذه القوة سيجعل تكوين العناصر الفلزية مستحيلًا.1
تصل هذه الدقة إلى مستويات مذهلة. الثابت الكوني، الذي يصف كثافة طاقة الفراغ ويؤثر على معدل تمدد الكون، يُعتقد أنه مضبوط بدقة تصل إلى جزء واحد من 10120.4 هذا الرقم يفوق الخيال، وقد دفع العديد من الفيزيائيين إلى وصفه بأنه المثال الأعظم على الضبط الدقيق في الكون.5 إن أي انحراف بسيط عن هذه القيمة كان سيؤدي إما إلى انهيار الكون على نفسه بعد وقت قصير من نشأته، أو إلى تمدده بسرعة تمنع تكون المجرات والنجوم.4
ما يزيد من دهشة هذا التوازن هو أن هذه القوى وثوابتها يُعتقد أنها تشكلت في أقل من جزء من المليون من الثانية بعد الانفجار العظيم.2 لو تأخر هذا التشكل قليلًا، لتشتتت مواد الانفجار دون أن تتمكن من تكوين أي بنى كونية.6 كما أن النسب بين قوى هذه الثوابت تظهر توازنًا دقيقًا؛ فالقوة النووية القوية، على سبيل المثال، أقوى من الجاذبية بمعامل يصل إلى
1038.7 هذا التوازن الهائل بين القوى هو ما يسمح بوجود كون مستقر ومعقد يمكن أن تنشأ فيه الحياة.

1.2. ردود من الصدفة والاختيار: تفكيك استدلال التصميم

في حين أن الضبط الدقيق هو ملاحظة علمية، فإن الاستنتاج بوجود "مصمم" هو استدلال فلسفي.3 هذا الاستدلال، المعروف تاريخيًا باسم "الحجة الغائية"، يواجه تحديات من تفسيرات غير إلهية تحاول تقديم إجابات بديلة.

1.2.1. فرضية الأكوان المتعددة

تُعد فرضية الأكوان المتعددة (Multiverse) الرد العلمي والفلسفي الأبرز على حجة الضبط الدقيق. تقترح هذه الفرضية أن كوننا ليس سوى واحد من عدد هائل، وربما لا نهائي، من الأكوان "الفقاعية"، حيث يمتلك كل كون قوانينه الفيزيائية وثوابته الخاصة.4 في ظل هذا "اليانصيب الكوني"، يصبح من المحتم إحصائيًا أن بعض الأكوان، بمحض الصدفة، ستمتلك الشروط المناسبة لنشوء الحياة.6 وبالتالي، فإن وجودنا في كون مضبوط بدقة لا يعود أمرًا مفاجئًا، بل هو نتيجة حتمية لوجود مجموعة واسعة من الاحتمالات.
تستمد هذه الفكرة دعمها النظري من مجالات مثل نظرية الأوتار، التي تتنبأ بوجود "مشهد" (Landscape) هائل من الحالات الفراغية الممكنة، يصل عددها إلى 10500، حيث يمثل كل منها كونًا بقوانين فريدة.7 ومع ذلك، تواجه فرضية الأكوان المتعددة اعتراضات جوهرية. أبرز هذه الاعتراضات هو أنها، في الوقت الحالي على الأقل، غير قابلة للاختبار التجريبي أو للدحض. لا يمكننا رصد هذه الأكوان الأخرى أو التفاعل معها، مما دفع نقادًا مثل الفيلسوف كريج كاندلر والفيزيائي جورج إليس إلى القول بأنها أقرب إلى "الميتافيزيقا" أو "الافتراض الفلسفي" منها إلى العلم التجريبي.8
إن اللجوء إلى الأكوان المتعددة يكشف عن توتر فلسفي عميق. لتفسير الخصائص الاستثنائية لكوننا، يبدو أنه يجب علينا إما اللجوء إلى مصمم خارق للطبيعة، أو إلى واقع طبيعي لكنه غير قابل للرصد (الأكوان المتعددة). كلا الحلين يتطلبان خطوة تتجاوز حدود ما يمكن اختباره تجريبيًا. وبالتالي، فإن الانتقال من الإيمان بوجود خالق إلى الإيمان بالأكوان المتعددة ليس انتقالًا من الإيمان إلى العلم، بل هو انتقال من إطار ميتافيزيقي إلى آخر.

1.2.2. المبدأ الإنساني

غالبًا ما يُستدعى المبدأ الإنساني (Anthropic Principle) جنبًا إلى جنب مع فرضية الأكوان المتعددة. من الضروري التمييز بين صيغتيه الضعيفة والقوية.
● المبدأ الإنساني الضعيف (Weak Anthropic Principle - WAP): هذا المبدأ هو في جوهره حجة تتعلق بتأثير الاختيار الرصدي (selection effect). ينص على أنه لا ينبغي لنا أن نندهش من أننا نجد أنفسنا في كون ذي ثوابت تسمح بوجود الحياة، لأنه لو كانت الثوابت مختلفة، لما كنا هنا لنطرح هذا السؤال أصلًا.6 إنه قول تحصيل حاصل، لكنه مفيد في تصحيح تحيزاتنا الرصدية؛ فنحن لا نرصد سوى كون يتوافق مع وجودنا.
● المبدأ الإنساني القوي (Strong Anthropic Principle - SAP): هذه الصيغة أكثر إثارة للجدل، حيث تقترح أن الكون يجب أن يمتلك خصائص تسمح بنشوء الحياة في مرحلة ما من تاريخه.10 يمكن تفسير هذه الصيغة بطريقة غائية (teleological)، مما يعني وجود غاية أو هدف، وهذا يقربها من حجة التصميم. وبدلاً من ذلك، يمكن تفسيرها كإحدى نتائج وجود أكوان متعددة تتحقق فيها جميع الاحتمالات الممكنة.
إن الجدل حول الضبط الدقيق ليس مجرد مواجهة بين العلم والدين، بل هو صراع أساسي بين أطر تفسيرية مختلفة: الضرورة، والصدفة، والتصميم. هل الثوابت الفيزيائية على ما هي عليه لأنها لا يمكن أن تكون إلا كذلك (ضرورة)؟ أم أن كوننا هو مجرد نتيجة محظوظة في يانصيب كوني (صدفة)؟ أم أنها صُممت لغاية معينة (تصميم)؟ البيانات العلمية 1 تخبرنا "ماذا" يوجد، لكن سؤال "لماذا" يظل سؤالًا فلسفيًا بامتياز. إن فرضية الأكوان المتعددة والمبدأ الإنساني لا يعملان كحجتين منفصلتين، بل كاستجابة فلسفية-علمية متكاملة لمشكلة التصميم الظاهري، حيث توفر الأكوان المتعددة الاحتمالات الإحصائية، ويعمل المبدأ الإنساني كمرشح يفسر لماذا نرصد هذا الكون المحدد وغير المحتمل.
________________________________________
القسم 2: النسيج الواعي للواقع: استكشاف وعي المادة

يتناول هذا القسم الفرضية المركزية والأكثر أصالة في الاستفسار المطروح: أن الوعي ليس خاصية طارئة، بل هو سمة جوهرية للمادة نفسها، تتجلى في السلوك غير العشوائي للجسيمات دون الذرية.

2.1. اللغز الكمومي: اللاحتمية ودور الراصد

إن الشك في أن العالم دون الذري لا يتبع القواعد الكلاسيكية الحتمية هو شك في محله. فميكانيكا الكم (QM) تكشف عن واقع غريب ومخالف للحدس.
● الازدواجية الموجية-الجسيمية والتراكب (Superposition): يمكن للجسيمات مثل الإلكترونات أن توجد كجسيمات وموجات في آن واحد، في حالة "تراكب" لجميع حالاتها الممكنة، إلى أن يتم قياسها.15 هذه الحالة توصف رياضيًا بـ "الدالة الموجية" (
ψ).17
● اللاحتمية الكمومية (Quantum Indeterminacy): على عكس الفيزياء الكلاسيكية الحتمية، التي تسمح بالتنبؤ الدقيق بمسار الأحداث إذا عُرفت الشروط الأولية 19، فإن ميكانيكا الكم احتمالية في جوهرها. لا يمكنها التنبؤ بالنتيجة الدقيقة للقياس، بل فقط باحتمالات النتائج المختلفة.17 هذا يتوافق تمامًا مع الشعور بأن سلوك الجسيمات ليس "عشوائيًا بالكامل" ولكنه ليس محددًا بشكل صارم أيضًا؛ إنه يوجد في حالة من الإمكانية.
● تأثير الراصد وانهيار الدالة الموجية (Wave -function- Collapse): هنا يكمن جوهر المسألة. إن فعل الرصد أو القياس يجبر الجسيم على "اختيار" حالة واحدة ومحددة من بين جميع الحالات الممكنة، وهو حدث يُعرف بـ "انهيار الدالة الموجية".15 هذا يثير تساؤلًا فلسفيًا عميقًا حول ما إذا كان الراصد مجرد متفرج سلبي أم مشارك نشط في خلق الواقع على المستوى الكمومي.16
من المهم هنا توضيح أن مصطلح "الراصد" في الفيزياء السائدة لا يعني بالضرورة وجود وعي بشري. أي تفاعل مع جهاز قياس أو مع البيئة المحيطة يمكن أن يؤدي إلى فك الترابط الكمومي (decoherence) وانهيار الدالة الموجية.23 ومع ذلك، فإن الآثار الفلسفية، خاصة تلك التي استكشفها رواد مثل جون فون نيومان ويوجين فيغنر، قد فتحت الباب أمام فكرة أن الوعي نفسه قد يكون هو السبب النهائي لهذا الانهيار.15

2.2. الروحانية الشاملة (Panpsychism): عقل في كل جسيم؟

هنا نقدم الإطار الفلسفي الرسمي للفرضية المطروحة: الروحانية الشاملة (Panpsychism). وهي وجهة نظر ترى أن الوعي (أو شكلًا بدائيًا منه يُعرف بالوعي الأولي) هو خاصية أساسية وشاملة في العالم المادي.25 هذه ليست فكرة جديدة، فلها جذور في الفلسفة القديمة (أفلاطون، سبينوزا)، لكنها شهدت انتعاشًا حديثًا كحل محتمل لـ "المشكلة الصعبة للوعي" (Hard Problem of Consciousness)، أي كيفية نشوء التجربة الذاتية من مادة فيزيائية غير واعية.29
هناك أشكال مختلفة من هذه الفلسفة، منها:
● الروحانية الشاملة التكوينية (Constitutive Panpsychism): تفترض أن الوعي المعقد (مثل الوعي البشري) يتكون من تجمّع الوعي البسيط للجسيمات الأساسية (كالإلكترونات والكواركات). لكنها تواجه "مشكلة التركيب" (combination problem): كيف تتحد هذه العقول الصغيرة والبسيطة لتشكل وعيًا واحدًا معقدًا وموحدًا؟.30
● الروحانية الشاملة الأولية (Panprotopsychism): ترى أن الكيانات الأساسية تمتلك خصائص "ظاهراتية أولية" (protophenomenal)، وهي ليست واعية في حد ذاتها، ولكنها اللبنات الأساسية التي ينشأ منها الوعي.30
● الأحادية الرسلية (Russellian Monism): تُنسب هذه النظرة إلى برتراند رسل، وتقترح أن الفيزياء تصف فقط الخصائص الخارجية والعلاقية للمادة، لكن للمادة أيضًا خصائص جوهرية (intrinsic) لا يمكن للفيزياء الوصول إليها، وقد تكون هذه الخصائص الجوهرية هي ما يشكل الوعي.30 هذا يتوافق بأناقة مع فكرة أن الوعي هو "الطبيعة الداخلية" للعالم المادي.

2.3. الوعي الكمومي: جسر بين العقل والمادة؟

يبحث هذا الجزء في النظريات المحددة التي تحاول ربط الوعي بالظواهر الكمومية داخل الدماغ.
● نظرية "Orch-OR" لبنروز وهاميروف: تُعد هذه النظرية من أبرز النظريات في هذا المجال، وإن كانت تخمينية إلى حد كبير. تقترح أن الوعي ينشأ من عمليات حسابية كمومية وانهيار موضوعي للدالة الموجية (objective reduction) يحدث في الأنيبيبات الدقيقة (microtubules) داخل الخلايا العصبية في الدماغ.15 تربط هذه النظرية بشكل مباشر "اختيار" الحالة الكمومية بلحظات التجربة الواعية.
● النقد والتحديات: على الرغم من جاذبية هذه النظريات، إلا أنها تواجه عقبات علمية كبيرة. يُعتبر الدماغ بيئة "دافئة ورطبة وصاخبة" للغاية، مما يجعل من الصعب الحفاظ على الترابط الكمومي الدقيق المطلوب لهذه العمليات.32 وقد أجرى فيزيائيون مثل ماكس تيغمارك حسابات أظهرت أن الترابط الكمومي في الدماغ سيفقد بشكل شبه فوري.33 ورغم أن دراسات حديثة تشير إلى أن بعض التأثيرات الكمومية قد تلعب دورًا في العمليات البيولوجية 32، فإن هذا بعيد كل البعد عن إثبات أن الوعي نفسه ظاهرة كمومية عيانية (macroscopic).
إن الفرضية القائلة بأن للمادة وعيًا ينشأ من الحركة غير العشوائية للجسيمات دون الذرية هي مزيج بديهي ومتطور يجمع بين الروحانية الشاملة وتفسيرات ميكانيكا الكم. إنها محاولة لحل مشكلتين في آن واحد: أصل الوعي (المشكلة الصعبة)، ومصدر النظام في الكون (كبديل للخالق أو الصدفة المحضة). إنها تربط بين غموض السلوك الكمومي (ليس عشوائيًا بالكامل، ويتأثر بالرصد) 17 وغموض الوعي (كيف ينشأ من المادة؟) 27، وتقترح أن "غرابة" ميكانيكا الكم هي في الواقع بصمة وعي أساسي داخل المادة.
علاوة على ذلك، يكشف التركيز على "اتجاه حركة الجسيمات دون الذرية" عن رغبة في وجود غائية (teleology) على المستوى الأساسي. هذا يربط الأفكار الكمومية بالنقد الموجه لحجة الضبط الدقيق. فبدلاً من وجود مصمم كوني خارجي (كما في الضبط الدقيق الإلهي) 3، يُفترض وجود
غائية داخلية مجهرية، حيث يمتلك كل جسيم اتجاهًا أو "وعيًا" بدائيًا. وبهذا، يتم نقل مصدر الغائية من خالق متعالٍ إلى الطبيعة الكامنة في المادة نفسها، مما يقدم نظامًا ميتافيزيقيًا متكاملًا يوفر مصدرًا بديلاً للنظام والغاية الظاهرة في الكون.
________________________________________
القسم 3: تفكيك الخلق: السببية، والاختيار، والاستعارات الرياضية

يحلل هذا القسم الحجج الفلسفية والرياضية الأكثر تجريدًا التي تشكل السقالات المنطقية للرؤية الكونية المقترحة.

3.1. لغة الطبيعة: الدوال مقابل العلاقات الاحتمالية

إن التمييز الذي تم طرحه بين "الدوال" و"العلاقات الاحتمالية" هو استعارة قوية ومتبصرة تعكس تحولًا كبيرًا في تاريخ الفيزياء.
● تعريف المصطلحات: من الناحية الرياضية، العلاقة (Relation) هي أي مجموعة من الأزواج المرتبة، أي ارتباط عام بين مجموعتين من القيم.36 أما
الدالة (-function-) فهي نوع خاص من العلاقات حيث يتم ربط كل مدخل من المجموعة الأولى بمخرج واحد فقط من المجموعة الثانية.36 على سبيل المثال، الدائرة هي علاقة ولكنها ليست دالة، لأن قيمة واحدة لـ
x يمكن أن تقابل قيمتين لـ y.36
● الكون الكلاسيكي كـ "دالة": فيزياء نيوتن ولابلاس هي فيزياء حتمية. إذا عرفنا الحالة الأولية (الموضع والزخم) لكل جسيم في الكون، فإن مستقبل وماضي الكون يصبحان محددين بشكل فريد. تعمل قوانين الحركة كدالة رياضية مثالية: مدخل واحد (الحالة في الزمن t1) ينتج مخرجًا واحدًا فقط (الحالة في الزمن t2).19 هذا يتوافق مع رؤية الدوال كأدوات لبناء آلات يمكن التنبؤ بسلوكها.
● الكون الكمومي كـ "علاقة احتمالية": تكسر ميكانيكا الكم هذا الربط الوظيفي الواحد لواحد. فالدالة الموجية 17 تمثل حالة يكون فيها مدخل واحد (الجسيم) مرتبطًا
بمخرجات محتملة متعددة (مواضع، دورانات، إلخ). إنها علاقة "واحد إلى متعدد"، وهو بالضبط ما تصفه العلاقة العامة (التي ليست دالة). إن البصيرة التي مفادها أن الطبيعة تعمل وفق "علاقة احتمالية" أعم، وأن "الدالة" هي مجرد حالة خاصة منها، هي تشبيه دقيق بشكل ملحوظ للانتقال من الفيزياء الكلاسيكية إلى الفيزياء الكمومية.
لتوضيح هذا التباين بشكل منهجي، يمكن استخدام الجدول التالي الذي يرسخ هذه الاستعارة في مفاهيم فيزيائية ورياضية دقيقة.

جدول 1: نظرة مقارنة على الواصفات الرياضية في الفيزياء


المفهوم الفيزياء الكلاسيكية (عالم "الدالة") ميكانيكا الكم (عالم "العلاقة الاحتمالية")
المبدأ الحاكم الحتمية (Determinism): المستقبل محدد بشكل فريد بالماضي. اللاحتمية (Indeterminacy): المستقبل هو طيف من الاحتمالات.
حالة الجسيم محددة (Definite): له موضع وزخم دقيقان في جميع الأوقات. احتمالية (Probabilistic): توصف بدالة موجية من الإمكانيات المتراكبة.
التطور عبر الزمن وظيفي (-function-al): تتطور الحالة وفقًا لربط واحد لواحد (قوانين نيوتن). علائقي (Relational): تتطور الدالة الموجية بشكل حتمي (معادلة شرودنغر)، لكن القياس احتمالي.
نتيجة القياس قابلة للتنبؤ (Predictable): تكشف عن الحالة المحددة والموجودة مسبقًا للنظام. احتمالية (Probabilistic): "تخلق" حالة محددة عن طريق انهيار الدالة الموجية من احتمالات متعددة.
الأداة الرياضية دوال (مثل x(t))، معادلات تفاضلية.40 مؤثرات على فضاءات هلبرت، دوال موجية (علاقات بين الحالات والاحتمالات).18

3.2. أصل الاختيار: حول "السبب الصفري" والمحرك الأول

يتناول هذا الجزء النقد الميتافيزيقي الموجه لفكرة الخالق. إن القول بأن اختيار الخالق سيكون له "سبب صفري" هو رفض لفكرة الخلق التعسفي غير المبرر.
يمكن تأطير هذا ضمن الجدل الفلسفي الكلاسيكي حول السببية. يقدم أرسطو مفهوم "المحرك الذي لا يتحرك" أو "السبب الأول".42 من المهم توضيح أن هذا المفهوم عند أرسطو لم يكن كائنًا شخصيًا يتخذ قرارًا في الزمن، بل كان أساسًا ضروريًا وغير عرضي لكل وجود وحركة — مبدأ للفعلية يسبب الحركة عن طريق الجذب (مثل الشيء المحبوب)، وليس من خلال فعل إرادي زمني. هذا يقدم بديلاً فلسفيًا لصورة الخالق التعسفي.
يمكن مقارنة ذلك بالأفكار الكوسمولوجية الحديثة. إن نشوء الكون من تقلب كمومي في الفراغ 44 يمثل شكلاً من أشكال "الخلق من لا شيء" (أو بشكل أدق، من حقل كمومي موجود مسبقًا). هذا "سبب" احتمالي وغير سببي بالمعنى الكلاسيكي، ولكنه محكوم بقوانين فيزيائية. إنه يتجاوز الحاجة إلى مختار شخصي.
هذا يعيد صياغة مشكلة "السبب الصفري". فالاختيار ليس بين إله شخصي والعدم، بل بين تصورات مختلفة للواقع النهائي: أساس ضروري للوجود (أرسطو)، مجموعة من القوانين الفيزيائية الأزلية التي تحكم الحقول الكمومية (علم الكونيات الحديث)، أو الاقتراح المطروح هنا — مادة واعية جوهريًا توجه تطورها بنفسها.
إن التشبيه الرياضي (الدالة مقابل العلاقة) ليس مجرد استعارة، بل هو مفتاح الرؤية الكونية بأكملها. إنه يوفر "الآلية" للكون الروحاني الشامل المقترح. فـ "العلاقة الاحتمالية" في ميكانيكا الكم هي فضاء الإمكانية، و"وعي المادة" هو المبدأ غير العشوائي الذي يختار من بين هذه الإمكانيات. فالحالة الكمومية الاحتمالية توفر الخيارات (العلاقة)، والوعي الجوهري للجسيم يوفر مبدأ الاختيار الذي يوجه انهيار الدالة الموجية (الاختيار). وهذا يخلق كونًا مكتفيًا ذاتيًا، ومنظمًا ذاتيًا، وغائيًا. لا يحتاج إلى خالق خارجي لأن "الاختيار" و"الخيارات" كلاهما جوهريان في المادة نفسها، مما يشكل حلقة ميتافيزيقية كاملة ومغلقة.
إن نقد "السبب الصفري" والإشارة الشعرية إلى المتنبي ("تطابق الصفات") هما وجهان لعملة واحدة. كلاهما يرفض الاختيار التعسفي غير المسبب، ويفضل بدلاً منه مبدأ الألفة أو الرنين المتأصل. هذا المبدأ يشير إلى أن النتائج ليست عشوائية، ولا هي بإرادة شخصية، بل تتكشف بناءً على التوافق أو الرنين المتأصل بين الإمكانيات. هذا يتردد صداه مع أفكار في الفيزياء (مثل ظواهر الرنين 27) والفلسفة (مثل فكرة سبينوزا عن الأشياء التي تتدفق من جوهر الإله/الطبيعة الضروري). إنه اقتراح لكون محكوم
بالجذب والتوافق بدلاً من المرسوم أو الصدفة.
________________________________________
القسم 4: التركيب: نحو رؤية كونية متماسكة

يهدف هذا القسم الختامي إلى دمج نتائج التقرير لتقديم تقييم شامل للإطار الميتافيزيقي المقترح، مع تسليط الضوء على نقاط قوته، وتوتراته الداخلية، ومكانته ضمن الخطاب الفلسفي الأوسع.

4.1. الكون المتعدد الروحاني الشامل: تقييم للنموذج المركب

يقدم النموذج المقترح صورة متكاملة: كون متعدد من الاحتمالات، يتم فيه تحقيق كوننا المحدد وتوجيهه من خلال الوعي الأساسي للمادة.
● نقاط القوة: يكمن مصدر قوة هذا النموذج في محاولته تقديم تفسير موحد لثلاثة من أكبر الألغاز: الضبط الدقيق (الذي يفسره يانصيب الأكوان المتعددة)، وأصل الوعي (الذي تحله الروحانية الشاملة)، وطبيعة الواقع الكمومي (الذي يفسره الاختيار الواعي). إنه يوفر مصدرًا جوهريًا للغاية والاتجاه دون الحاجة إلى مصمم خارجي.45
● نقاط الضعف والتوترات: على الرغم من أناقته، يواجه النموذج تحديات كبيرة. إنه يجمع بين فكرتين تخمينيتين للغاية (الأكوان المتعددة والروحانية الشاملة)، وكلاهما غير قابل للاختبار حاليًا. كما أنه يواجه "مشكلة التركيب" في الروحانية الشاملة 30، بالإضافة إلى صعوبة شرح كيف يمكن للوعي، كمبدأ للنظام، أن يعمل من خلال الطبيعة الاحتمالية والظاهريًا عشوائية للانهيار الكمومي.17

4.2. مبدأ الألفة: من المتنبي إلى الفيزياء

يمكن الارتقاء بالإشارة الشعرية إلى المتنبي ("هو الجدُّ حتى تفترق العينُ أختها") إلى مفهوم فلسفي أساسي: مبدأ الألفة أو الرنين.
يعمل هذا المبدأ كقانون نهائي في النظام المقترح. إنه ما يحكم "العلاقة الاحتمالية". فهو يشير إلى أنه من بين المجموعة اللانهائية من الاحتمالات في الكون المتعدد، يتم تحقيق الأكوان بناءً على تناسق داخلي أو ألفة بين خصائصها. وداخل كوننا، "تختار" الجسيمات حالاتها بناءً على رنين مماثل.
هذا يقدم غائية جميلة وغير آلية وغير إلهية. إنه يستبدل "الصدفة العمياء" للإلحاد و"الاختيار الواعي" للألوهية بـ "ألفة غير شخصية"، كون ينظم نفسه من خلال الانسجام والرنين.27

4.3. أفق الفهم: رحلة الباحث

يختتم التقرير بالتأكيد على قيمة هذا المسعى الفكري. إن هذه الأسئلة حول الواقع النهائي تدفع حدود العلم والفلسفة.14 يمكن وضع الإطار الفكري المقترح كشكل حديث ومتطور من فلسفة الصيرورة (Process Philosophy) أو الغائية الكامنة، ويتقاطع مع أفكار فلاسفة مثل وايتهيد وسبينوزا.
الرسالة النهائية هي رسالة تواضع فكري ورهبة. إن هذه المجموعة المعقدة والمتشابكة من الأفكار هي شهادة على الدافع البشري لإيجاد معنى في كون دقيق رياضيًا وغامض بعمق في آن واحد. إن الهدف من مثل هذا البحث ليس بالضرورة إيجاد إجابة نهائية وقطعية، بل تعميق انخراطنا مع الأسئلة الأساسية للوجود.
ا



#امير_وائل_المرعب (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العراق عبر العصور 10 الاف عام من الحضارة والصراعات
- المادة والوعي
- رقصة الالكترونات هل تحمل مفتاح اللغز
- المادة الوعي الديالكتيك
- حوار مع الذكاء الاصطناعي عن لغز الوجود
- لغز الوجود
- حقوق الطفل العراقي ومساهمة منظمة هشام الذهبي


المزيد.....




- ستيفي نيكس تؤجل حفلاتها بعد إصابتها بكسر في كتفها
- من هو المستوطن الإسرائيلي المتهم بإطلاق النار على الفلسطيني ...
- الحكومة الإسرائيلية تصوت بالإجماع على إقالة النائب العام غال ...
- مقتل الطالب السعودي محمد القاسم طعنا في مدينة كامبردج البريط ...
- -اليد الميتة-.. ما هو سلاح روسيا النووي الانتقامي الذي حرك ل ...
- التين الشوكي -كنز غذائي- ربما لا يعرفه كثيرون
- غزة: تسجيل مقتل 94 شخصا اليوم وتأكيدات بأن المساعدات الملقاه ...
- في الذكرى الخامسة لانفجار مرفأ بيروت: عون يؤكد أن القانون سي ...
- قطاع غزة: مقتل عشرات الفلسطينيين قرب مراكز لتوزيع المساعدات ...
- ماذا نعرف عن متلازمة غيلان باريه المتفشية بين الأطفال في قطا ...


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - امير وائل المرعب - الكون الواعي: بحث في الضبط الدقيق، والواقع الكمومي، وطبيعة الوجود