إشراقة
مراجعات
العسكر .. والديمقراطية
المراجعات والنقد .استيعاب دروس الحياة – التمسك بما ثبتت صحته والتخلي الشجاع عما ثبت إنه خطأ والاعتراف بالخطأ – مقدمات أساسية للتقدم على المستوى الوطني والشخصي ، فالحياة في كل نواحيها تقوم على الهدم والبناء .
وانبثاق الجديد من باطن القديم حاملاً بعض مكوناته وملامحه بجانب ما هو جديد وكل ذلك يصبح قديماً تدور عليه الدائرة .
والفعل الضار والإنجاز الإيجابي ثمرة لعمل جماعي . فعلينا أن نراجع حياتنا ، وكانت إقامة حياة ديمقراطية سليمة أهم مقومات النضال الوطني وقد بدأت إرهاصاتها مع إشعاعات الاستنارة التي حملها رفاعة الطهطاوي ورفاقه من بعد والتي صرخ من أجلها عبد الرحمن الكواكبي محذراً من الطغيان والاستبداد ، وكانت أهم ملامح مشروع إسماعيل باشا والسيد الرئيس مع النهضة الشاملة وراء الإصرار الإنجليزي لتعطيل الدور المصري باستعمار مصر بعد معاهدة نفارين بين التحالف الأوروبي ومحمد علي باشا .
وحين اشتد عود المصريين بالجيش المصري، دوت صرخة عرابي في مواجهة الخديوي – لقد خلقنا الله أحراراً ، ولن نورث أو نستعبد بعد اليوم – وأبدع النديم بمضمونها مشعلاً حماس المصريين، واتخذها مصطفى كامل ومحمد فريد وسيلة لاستنهاض الشعب للتحرر من الاستعمار، وترسخت مضامينها في ثورة 1919 . وكانت جوهر مشروع الحزب الاشتراكي الذي اتخذ منه سعد زغلول موقفاً عدائياً وحله مع أول حكومة تلت دستور 1923 الذي زاوج بين حقوق الشعب في الاختيار وما كان باقياً من سلطة الملك وضغوط الاستعمار .
الاستعمار والاستقلال والظلامية
لم تكن مصادفة أن يحل مجلس النواب الذي انتخب عقب إعلان الدستور بعد انتخابات محايدة سقط فيها رئيس الوزراء، وجمع المصريون في نضالهم ضد الاستعمار ومن أجل ديموقراطية تركزت ممارستها لإجلاء الاستعمار، والمشروع الوطني في التنمية والعدالة والديمقراطية .. ولهذا رفض الشعب دستور 1930 بقدر ما رفض حكومات الأقلية المرتبطة بالقصر والاستعمار، وبلغ الكفاح الوطني ذروته بثورة 1936 . وأعطى الاستعمار قدراً من التراجع، وأعاد دستور 1923 ، وأجريت انتخابات جديدة وعمت الصحوة الوطنية .
ديمقراطية العمال والطلبة
أدى عجز حزب الوفد وأحزاب الأقلية إلى زيادة تأثير تحالف العمال والطلبة، مما أشعل الحركة الشعبية ضد الاستعمار وأحزاب الأقلية مما مهد الطريق للتغيير في مصر .. وكانت حركة الضباط أحد ملامحه، وما أن حدثت حتى وجهت الضربات القاصمة ضد كل تحرك شعبي ديمقراطي، والحجة جاهزة – حماية الثورة – ولها قدر من الصحة وأقداراً من الخطأ الذي نعاني منه حتى الآن، وقضي على الحياة الحزبية بحل الأحزاب، وكشف الضباط عن تخلف التكوين العسكري المعادي للديمقراطية في مارس 1954 . وبعدها توالت الكوارث، وفقدت الثورة أهم ضمانات استمرارها ونجاحها الحقيقي وحرم الشعب من المشاركة الديمقراطية في إدارة شئون الوطن .
وباستبعاد يوسف صديق الفاعل الأكبر في نجاح الثورة عن مجلس الثورة، لم يقف بجانب الديمقراطية سوى خالد محيي الدين وكان مصيره النفي خارج الوطن .
أكذوبة أحزاب السلطة
تستخدم السلطة أدوات التحكم والحكم لإنشاء كيان يأخذ من الشكل والوثائق والإعلانات ما يعطيه صفة حزبية مزيفة – لكن يبقى بوقاً يردد ما يؤمر به – يستجلب له أتباع أو مخبرين مدنيين، ويتصارع لأجل عضويته المتسلقين والانتهازيين وتجار وممارسي كل الممنوعات .
ولأن أجهزة الأمن هي مصدر الثقة لدى السلطة، فيوكل إليها مهمة اختيار من يملئ بهم مواقع حزب الحكومة ومجلسها النيابي، ومجالسها الشعبية المحلية . وتمتد هذه المهمة المدمرة لكل ما هو منتخب أو موظف يشغل وظائف عامة، والحجة ألا يصل أعداء السلطة إلى مواقع تمكنهم يوماً من مواقع التحكم أياً كان نوعها . ولأن أجهزة الأمن هي الباب الملكي لاغتصاب هذه المواقع، فإن شاغليها يزايدون في التمسكن والتستر ومهادنة هذه الأجهزة التي يزداد دورها في اختيار ورص هيئات المجتمع المدني ومؤسسات الدولة الخدمية والمدنية والعسكرية .. وتصبح هوية السلطة وهواها بوصلة كل الوصوليين والأنتهازيين .
ولأن الشعوب تلفظ هؤلاء في الانتخابات العامة، تقوم السلطة بتوظيف كل الهيئات الأمنية والشرطة والخدمية لتزوير الانتخابات، فيفقد المجس النيابي صفته ومضمونه، وتصبح السلطة صانعة لكل مواقع محتلي القيادة والتحكم وصاحبة القرار في كل صغيرة وكبيرة .. ويقع جهاز السلطة في كارثة التداخل والتشابك . يمسك بيده العاجزة أمور الاقتصاد والزراعة والتجارة والعلاقات الخارجية، وإن اختص بها مستوى معين من السلطة، والثقافة والإعلام والتعليم .. وتتزايد هيمنتها على مقدرات الحياة .
الحزب بالوراثة
بغياب الديمقراطية وتغييب الأحزاب ومنع الحياة السياسية وقهر من تسول له نفسه أن يكون مواطناً أو طامحاً للإصلاح أو مقاوماً للسلطة بالديمقراطية ويرونه عنف باعتباره خارجاً على الدولة وأجهزتها وهيئاتها ، يقابل ذلك سيادة الرشوة والواسطة وبمنطق الأقربون أولى بالمعروف والاطمئنان لمحتلي المواقع القيادية بوضع أبناء الكبار ومن صنعتهم السلطة والمتسلقين والدفيعة حيث يتم شراء الوظائف في أهم المواقع إرضاء للأتباع واطمئناناً لسير أبنائهم في طريق آبائهم ويمتد هذا الفساد إلى مؤسسات الدولة الأساسية كالجيش والشرطة، والمثال الأوضح لذلك .. تركيبة السلطة التي تكشفت بعد رحيل صدام بالعراق وغيره من الأنظمة العربية .. فتربى نخبة الحكم والتحكم لتملئ بها كل المواقع التي تضيق عن استيعاب أبناء الأكابر، أما أبناء الشعب فيستبعدون وإن سمح بدخولهم فليكونوا كعمال التراحيل يحال بينهم وبين مواقع التحكم إلا لمن خضع .
متواليات من الفساد والإفساد
بدوام الحكم والتحكم بيد أفراد معينة . حكام ووزراء ورؤوس عشائر وقبليات ورأسماليون .. وتوالي صدور التشريعات التي تحلل كل هذا الإجرام وتحرم كل ما يؤدي للإصلاح . تترسخ الأوضاع وتنشأ طبقة تتوارث الوطن والثروة والوطن وتستعبد الشعب . بل أن مصالحها اليومية تصبح متناقضة مع مصالح الشعب .. وتنتج هذه العملية تراث متكامل من الثقافة والتعليم والإعلام والقيم يبرر كل ذلك، لكنه بالضرورة يكون متصادماً مع مصالح الوطن العليا والمصالح العامة للشعب . مناقضاً للدين والقيم والأعراف حتى لو أخذ صياغة شكلية تتفق مع ذلك فالعبرة بالممارسة حيث تصبح الدولة حارسة لطبقة، أما الوطن فيفتقد الدولة التي ترعى مصالحه ومصالح الشعب والتي لا تتواجد بغير الديمقراطية .. هنا تكون مقومات الحكم الديكتاتوري قد اكتملت وأصبحت أمراً واقعاً مستقراً لا يزعجه أو يزيحه إلا تداول السلطة .. فيتم التحايل لتأييد كل شئ ... الحكم . الحومة . حزبها وهيئاتها، ويكون التوريث الصريح هو الحل لضمان استمرار الحال . فإن كان الحكم ملكي فالدستور وضعه واضعوه لذلك، وإن كان الحكم جمهوري فإن الأحوال السابقة تؤدي إليه، ولا يبقى إلا إخراج اللعبة . وهنا يزور القانون حتى لو حكم بعدم دستوريته .. وهكذا فعلى مجلس الشعب حين أخرج الانتخابات المحلية والاستثناءات التي تتم على الدستور، وحل مجلس الشعب والرئاسة من إشراف القضاء ليتسنى تمرير وراثة الحكم .. .. ونلتقي عن العسكرة . والديمقراطية . وأحزاب السلطة .
أبو العز الحريري
جريدة التجمع – العدد 112