|
صوت الأجراس الخافت: أزمة الوجود المسيحي في الأرض المقدّسة
سامي قره
الحوار المتمدن-العدد: 8417 - 2025 / 7 / 28 - 09:35
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
توطئة تواجه المجتمعات المسيحية في الشرق الأوسط – كالأقباط في مصر، والموارنة في لبنان، والكلدانيين والسريان في العراق وسوريا – تحدّيات متصاعدة تشمل التهميش السياسي والاقتصادي، والانتهاكات الأمنية، والهجرة القسرية، الأمر الذي يهدّد النسيج التاريخي والتعدّدي الذي ميّز هذه المنطقة عبر القرون. أمّا في مهد المسيحية، أي في الأرض المقدّسة، فيواجه المسيحيون الفلسطينيون أزمة وجودية عميقة ومؤلمة؛ فالإيمان الذي نشأ على أرضهم وتجلّى بلغة قريبة من لغتهم، لم يعد وحده كافيًا لمنحهم شعور الانتماء، إذ بات كثيرون منهم يشعرون بالغربة حتى في الأماكن المقدّسة المرتبطة بتقاليدهم وجذورهم الروحية. وتتفاقم هذه الأزمة مع واقع أن الكنائس التاريخية في القدس وبيت لحم والناصرة وغيرها من المدن، والتي تُعدّ معالم روحية لأكثر من ملياري مؤمن حول العالم، لا يُديرها في الغالب مسيحيون فلسطينيون، بل تخضع لسلطة مؤسسات كنسية أجنبية تعود جذورها إلى عواصم مثل روما وأثينا وبرلين ولندن وموسكو. يطرح هذا الواقع سؤالًا جوهريًا ومقلقًا: ماذا تبقّى للمسيحيين الفلسطينيين الأصليين في الأرض المقدّسة؟ لا تقتصر الإجابة على استحضار الماضي، بل تتطلّب استشراف المستقبل ورسم الطريق الذي يطمحون إلى سلوكه. إنها مسيرة شاقة ومحورية نحو استعادة دورهم وقدرتهم على تمثيل أنفسهم دينيًا وثقافيًا وسياسيًا، وإحياء حضورهم العميق في أرض الأجداد، وصون هويتهم العريقة في وجه التحدّيات المتزايدة.
الوصاية الأجنبية على الأماكن المسيحية المقدّسة لطالما شكّلت الأماكن المسيحية المقدّسة في الأرض المقدّسة مراكز روحية ذات رمزية كونية، تجتذب ملايين المؤمنين من أنحاء العالم. لكن خلف هذه الرمزية المهيبة، تختبئ تعقيدات عميقة تتعلق بمن يتحكم فعليًا في إدارة هذه المواقع، ومن يمثّل صوت المجتمعات المسيحية المحلية فيها، وخاصة المسيحيين الفلسطينيين الذين وُلدوا ونشأوا على مقربة منها. فعلى الرغم من ارتباط هؤلاء السكان ارتباطًا عضويًا بهذه الأماكن – تاريخيًا وثقافيًا وروحيًا – إلا أن مشاركتهم في إدارتها تظل محدودة، بل رمزية في كثير من الأحيان، بسبب نظام كنسيّ قديم يُعرف بـ"الوضع القائم"، الذي يكرّس توازنات طائفية وتاريخية مضى عليها أكثر من قرنين ونصف. يتناول هذا القسم نقدًا تحليليًا لهذا النظام، ويوضح كيف تُسهم البُنى الكنسية غير المحلية، أو ما يُعرف بـ"الوصاية الأجنبية"، في تهميش صوت المسيحيين الفلسطينيين داخل أماكنهم المقدّسة. كما تسلط الضوء على الدعوات اللاهوتية المتزايدة لإصلاح هذا الواقع، وإعادة الكنيسة إلى دورها النبوي كمكوّن وطني حيّ في مشروع العدالة والتحرّر الفلسطيني. تتمثل جذور هذه المعضلة في مسألة الإدارة والسيادة على الأماكن المسيحية المقدّسة. فعلى الرغم من أن المسيحيين الفلسطينيين يعيشون على مقربة من كنيسة القيامة في القدس وكنيسة المهد في بيت لحم، إلا أن دورهم في إدارة هذه المواقع المقدّسة يظل محدودًا، في ظل استمرار الهيمنة التاريخية لطوائف كنسية غير عربية على القرار الدّيني والإداري. هنا من المهم التمييز بين "الطوائف غير العربية" و"الوصاية الأجنبية". فبعض الطوائف، كالأرمن الأرثوذكس، ليست عربية من حيث اللغة أو الطقس، لكنها جزء من النسيج التاريخي المحلي منذ قرون، ولها حضور فعلي ومستمر في القدس وبيت لحم. أما "الوصاية الأجنبية"، فالمقصود بها تلك الكنائس التي تُدار فعليًا من خارج الأرض المقدّسة، وتخضع مرجعياتها الإدارية والمالية لعواصم خارجية، مثل البطريركية الأرثوذكسية اليونانية التي تتبع قيادة كنسية مقرّها في اليونان، أو الرهبانيات اللاتينية المرتبطة مباشرة بالفاتيكان. هذه المرجعيات الخارجية تؤثر بشكل مباشر على القرارات الكنسية في الأرض المقدّسة، وتُسهم في تغييب المسيحيين الفلسطينيين عن مواقع القرار الكنسي، وتعكس فجوة بين القيادة الروحية والمجتمع المحلي. يُعرف نظام "الوضع القائم" (الستاتيكو) في الأماكن المقدّسة المسيحية، وخصوصًا في كنيسة القيامة بالقدس، بأنه ترتيب تنظمه أعراف متوارثة منذ عام 1757، حين أصدرت الدولة العثمانية فرمانًا رسّخ التوزيع القائم آنذاك للحقوق والامتيازات بين الطوائف المسيحية المختلفة. وقد أكّدت الدولة العثمانية هذا النظام لاحقًا بفرمان آخر عام 1852، كما التزمت به سلطات الانتداب البريطاني، ثم الحكومة الأردنية، ولاحقًا الإدارة الإسرائيلية بعد عام 1967. في إطار هذه الصيغة، تتقاسم ثلاث طوائف رئيسية—البطريركية الأرثوذكسية اليونانية، وحراسة الأراضي المقدّسة التابعة للرهبنة الفرنسيسكانية الكاثوليكية، والكنيسة الرسولية الأرمنية—الصلاحيات الأساسية في كنيسة القيامة، بينما تنطبق ترتيبات مماثلة على كنيسة المهد، حيث تشترك الطوائف الثلاث نفسها في تنظيم شؤون المكان، مع مساهمة رمزية لكنيستي السريان والأقباط. ورغم قدسية هذه المواقع بالنسبة للمسيحيين الفلسطينيين، إلا أن مشاركتهم في إدارتها تبقى رمزية في الغالب، مما يعكس استمرار واقع تاريخي معقّد من التوازنات الدّينية والوصايات الكنسية. يفرض هذا النظام قيودًا صارمة على أي تعديل أو تغيير في إدارة أو صيانة الأماكن المسيحية المقدّسة. ونتيجةً لهذا الجمود المؤسسي، تصبح مشاركة المسيحيين الفلسطينيين المحليين في شؤون هذه المواقع محدودة، بما في ذلك جهود الحفاظ على تراثهم الروحي والثقافي. بعيدًا عن الخطابات الرسمية والتوازنات الكنسية المعقدة، يعيش المسيحيون الفلسطينيون يوميات مليئة بالتحدّيات التي تعكس هذا الواقع المتشابك. يشعر الكثير منهم بالغربة داخل أماكن ترتبط بتاريخهم وذاكرتهم العائلية، حيث يجدون أنفسهم محاصرين بين هويات متعدّدة وصراعات لا ينتمون إليها مباشرة. الحنين إلى الجذور يقابل بالحواجز الإدارية والسياسية، والأمل في الحفاظ على إرث الأجداد يتبدّد أمام غياب الدعم المحلي والقيادة التي تعبر عن همومهم الحقيقية. هؤلاء الناس هم قصص وجوه وأحلام تناضل من أجل البقاء، وتعيش قلق فقدان الهوّية، وشبح الهجرة التي باتت حلمًا يهربون إليه هربًا من واقع لا يحتضنهم. فهم لا يطالبون فقط بالحفاظ على أماكن عبادة، بل بحقهم في أن يشعروا بأن الأرض المقدّسة هي موطنهم الآمن الذي يحتضنهم كما احتضن آباءهم وأجدادهم. وعلى الرغم من أن ترتيبات "الوضع القائم" وُضعت في الأصل لضمان الاستقرار ومنع النزاعات بين الطوائف المختلفة، إلا أنها تحوّلت مع الزمن إلى إطار مغلق يجمّد الواقع القائم ويمنع أي تطور طبيعي. فباسم الحفاظ على "التوازن الطائفي"، يتم حرمان المجتمع المسيحي المحلي من تطوير دوره، كما تُكبّل الكنائس نفسها بعلاقات جامدة تعيق الإصلاح الداخلي. بالإضافة إلى ذلك، فإن اعتماد هذا النظام على مزيج من فرمانات مكتوبة وأعراف غير مدوّنة يجعله عرضة لتفسيرات متباينة، ويمنح سلطة اتخاذ القرارات المصيرية لعدد محدود من القيادات الكنسية، لا تُمثّل بالضرورة تطلعات المؤمنين على الأرض. إلى جانب ذلك، يُسهم نظام "الوضع القائم" في إدامة بنية سلطوية داخل الكنائس، حيث تتحكّم النخب الكنسية التاريخية—غالبًا ذات ارتباط خارجي—بمفاصل القرار، بينما يتم استبعاد الكوادر المحلية من مواقع التأثير. كما يغيب التركيز على البعد الإنساني والوجداني لحياة الناس اليومية، ما يعمّق الفجوة بين قدسية المكان وتجربة المؤمنين فيه. يسهم هذا التهميش المتواصل في تعميق شعور المسيحيين الفلسطينيين بالغربة عن مقدّساتهم رغم ارتباطهم التاريخي والوجداني بها. ويجدون أنفسهم في مواجهة تحدّيات جدّية عند السعي للدفاع عن حقوقهم الدّينية والإدارية، في سياق محلي وإقليمي بالغ التعقيد. تتخذ الكنائس الثلاث الرئيسية—البطريركية الأرثوذكسية اليونانية، واللاتينية الكاثوليكية، والأرمنية الرسولية—قرارات أساسية تتعلق باستخدام الممتلكات الكنسية، وترميم الأبنية المقدّسة، وتنظيم الطقوس الدّينية والصلوات، فضلًا عن التنسيق بشأن الوصول إلى المواقع المشتركة مثل كنيسة القيامة، ضمن ترتيبات داخلية وتاريخية لا تتضمّن عادة مشاركة فعلية للمؤمنين المسيحيين المحليين. هذا الواقع يكشف عن فجوة مستمرة وعميقة بين القيادة الكنسية والهياكل الإدارية من جهة، والمجتمعات المسيحية الفلسطينية المحلية من جهة أخرى. اللافت أن أي محاولة لإجراء تعديل على "الوضع القائم"—حتى لأغراض الترميم أو الصيانة الضرورية—تتطلّب موافقة جماعية من جميع الكنائس المعنية، وفقًا للتقاليد الراسخة. ونظرًا لتكرار الخلافات وعدم توافق المصالح بين هذه الطوائف، غالبًا ما تتعطّل أعمال الصيانة أو التطوير، مما يجعل تنفيذ أي تغيير عملي أمرًا بالغ الصعوبة، وأحيانًا شبه مستحيل. مثال على ذلك قضية ترميم القبر المقدّس داخل كنيسة القيامة، إذ تأخّر المشروع لسنوات بسبب الخلاف بين الطوائف المسيحية المختلفة بشأن حقوق الإدارة، ولم يتم إنجاز الترميم إلا في عام 2016، بعد وساطة دولية وتدخّل خارجي، أسهما في التوصل إلى توافق مؤقت بدعم جهات كنسية ودولية. رغم الأدوار التاريخية التي اضطلعت بها هذه الكنائس الأجنبية في حماية التراث المسيحي والحفاظ على الأماكن المقدّسة، فإن استمرار هيمنتها على المشهد الكنسي في الأرض المقدّسة يثير تساؤلات جوهرية حول من يعبّر عن صوت المسيحيين الفلسطينيين، ومن يملك الشرعية في تمثيلهم، ومن يحدّد أولويات مستقبل وجودهم في موطنهم التاريخي. لقد برزت أصوات لاهوتية فلسطينية في العقود الأخيرة، مثل البطريرك ميشيل صباح، والقس نعيم عتيق، والمطران عطا الله حنا، والقس منذر إسحق، والمرحوم الدكتور جريس خوري، وغيرهم، تطالب بكسر هذا الجمود التاريخي، وتحرير الكنيسة من الإرث الاستعماري الطائفي، وإعادة تمكينها كفاعل وطني وشعبي. وقد تبلورت هذه الرؤية في وثيقة "كايروس فلسطين" (2009)، التي صاغها لاهوتيون ومفكّرون مسيحيون فلسطينيون كصرخة إيمانية في وجه الظلم والاحتلال، ودعوة لتحرير الكنيسة من الصمت والتواطؤ، وجعلها قوة نبوية من أجل العدالة—أي أن تمارس دورها كضمير أخلاقي يواجه الظلم ويناصر الحق، على غرار الأنبياء الذين نادوا بالعدالة الإلهية في وجه الاستبداد والفساد. هؤلاء اللاهوتيون يرون أن الكنيسة يجب ألا تكون فقط حامية للطقوس والمقدّسات، بل صوتًا نبويًا للعدالة، ومكوّنًا حيويًا في مشروع التحرّر الفلسطيني. إن قضية الوصاية على الأماكن المسيحية المقدّسة في فلسطين لا تُختزل في بُعد إداري أو طقسي فحسب، بل تعبّر عن معضلة أعمق تتعلّق بالهوّية، والانتماء، والعدالة داخل الكنيسة والمجتمع. فقد أفضى نظام "الوضع القائم"، برغم نواياه الأصلية في الحفاظ على التوازن الطائفي، إلى واقع جامد يعيد إنتاج التهميش ويكرّس الغربة بين المؤمنين المحليين وأقدس رموزهم الروحية. تكشف هذه الأزمة عن فجوة مؤلمة بين الكنيسة كهيكل مؤسسي، والمجتمع المسيحي المحلي كجماعة حيّة تسعى للكرامة والدور والمشاركة. ومن هنا، فإن أي إصلاح حقيقي لا بد أن يبدأ من الاعتراف بهذا الخلل التاريخي، والسعي إلى تفكيك إرث الوصاية الأجنبية، وفتح المجال أمام مشاركة فلسطينية أصيلة وفاعلة في صنع القرار الكنسي. المستقبل مرهون بقدرة الكنائس على الاستجابة لنداءات التجديد اللاهوتي والاجتماعي، وعلى الإصغاء لصوت القواعد المؤمنة، لا الاكتفاء بإدارة الطقوس والمباني. إنها دعوة لإحياء البُعد النبوي في الإيمان، حيث تكون الكنيسة جسدًا حيًا ينطق بالحق، لا صرحًا صامتًا أمام الألم. تقول "وثيقة كايروس" (2009) إن رسالة الكنيسة المسيحية وكافة المؤمنين في الأرض المقدّسة هي رسالة صوت الحق من قلب المعاناة، هي صرخةَ رجاءٍ في وجه الظلم، وصرخة محبة من أجل الحرية والتعايش وإحقاق العدل. فهل يمكن أن تكون الأرض المقدّسة، مرة أخرى، موطنًا لكنيسة حيّة تنبع من ترابها وتخاطب شعوبها بلغتهم وتطلّعاتهم؟ ذلك سؤال لا يخص الفلسطينيين وحدهم، بل يضع العالم المسيحي بأسره أمام مسؤوليته الأخلاقية والتاريخية. انفصال القيادة الكنسية التقليدية عن المجتمع الفلسطيني المحلي يشعر عدد متزايد من المسيحيين الفلسطينيين بوجود فجوة كبيرة بينهم وبين بعض القيادات الكنسية. كثير من هذه القيادات تكون ذات مرجعية أجنبية أو غير متواصلة فعليًا مع الواقع الفلسطيني المحلي. في الكثير من الأحيان، تركز هذه القيادات على الجوانب التنظيمية، والمالية، والسياحية، بدلًا من بناء علاقة حقيقية وحيّة مع المجتمعات المسيحية المحلية. هذا الانفصال يزيد من شعور التهميش، خاصة مع غياب تمثيل فعّال أو دعم ملموس للمسيحيين الفلسطينيين، لا سيما في أوقات الأزمات والصراعات المتزايدة. في مقال نشر على مدونة "Mondoweiss" في 8 حزيران 2024 بعنوان “The invisibility of Palestinian Christians”، يشير الكاتب قسّام معدّي إلى أزمة حقيقية في تمثيل المسيحيين الفلسطينيين. يقول معدّي إن بعض قادة الكنائس وأفراد المجتمع المسيحي "ينأون بأنفسهم عن النضال الفلسطيني، ويساهمون في ترسيخ الانطباع بأنهم أقلية منعزلة"، مما يعزز شعور الغربة والتهميش لدى الشباب والمجتمع المسيحي عمومًا. اليوم، يعيش الشباب المسيحي الفلسطيني تحدّيات معقدة لا تقتصر على البعد الدّيني والاجتماعي فقط، بل تتعداه إلى أزمات سياسية واقتصادية عميقة. ورغم أن الكنيسة تمثل لهم منارة روحية واجتماعية، إلا أن كثيرًا منهم يشعرون بأن صوتهم لا يُسمع داخل الهياكل الكنسية التقليدية. حيث يهيمن كبار القادة الذين لا يشاركون الشباب حياتهم اليومية ولا تحدّياتهم المباشرة. هذا الانفصال يولّد فجوة عميقة تؤدي إلى شعور متزايد بعدم الانتماء والتهميش. تزداد هذه الأزمة بسبب غياب استجابة فعلية من الكنيسة تجاه القضايا التي تواجه الشباب، مثل العنف المجتمعي، والضغوط السياسية، والتضييق الاقتصادي. كما أن الدعم المقدّم لهم غالبًا ما يكون شكليًا أو كلاميًا دون وجود برامج عملية لتعزيز قدراتهم وتمكينهم من المشاركة الفاعلة في المجتمع والكنيسة. وقد أوضحت العديد من الدراسات والتقارير، مثل مقال بيتر أوبورن بعنوان “The last generation: How occupation is driving Christians out of Palestine” الذي نُشر في Middle East Eye بتاريخ 24 كانون الأول 2019، الضوء على شعور الشباب بأنهم غير محسوبين بالكامل في النسيج المسيحي الفلسطيني، مما يؤدي إلى شعورهم بالعزلة والخذلان. يروي أوبورن أن مؤسس منظمة "مصالحة"، سليم منيّر، يوضح أن الشباب المسيحيين يشعرون بأنهم غير محسوبين ضمن العائلة المسيحية المحلية، وأن الدعم الذي يتلقونه غالبًا ما يقتصر على دعمًا شفويًا دون ترجمة هذا الدعم إلى أفعال ملموسة. ويضيف منيّر أن الذين يبقون في البلاد يعانون من خيبة أمل عميقة، ويشعرون بأنهم خُذلوا من قِبل إخوتهم المسيحيين. كثير من هؤلاء الشباب، نتيجة لذلك، يختارون الهجرة بحثًا عن فرص حياة أفضل، وهو تهديد خطير لاستمرار الوجود المسيحي الفلسطيني على أرضه. تقف الكنيسة اليوم أمام خيار استراتيجي حاسم: إما الاستمرار في السياسات التقليدية التي تكرّس الوضع الراهن، أو الانخراط في إصلاحات جذرية تفتح المجال أمام الشباب للتعبير عن آرائهم والمشاركة الفاعلة في صنع القرار الكنسي والمجتمعي. وتشمل هذه الإصلاحات تطوير البرامج التعليمية، وتنمية القيادات الشابة، وتعزيز الحوار الداخلي، إضافة إلى دعم المبادرات والمشاريع التي تسهم في تعزيز صمود الشباب في مواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية المتزايدة. وعلى نحو أكثر إيجابية، تجدر الإشارة إلى أن بعض الكنائس بدأت بالفعل في اتخاذ خطوات عملية لدعم الشباب، من خلال تقديم مساعدات مالية تمكّنهم من استكمال تعليمهم والبقاء في وطنهم. فعلى سبيل المثال، تقدم مؤسسة الفرنسيسكان للأرض المقدسة، بالتعاون مع حراسة الأراضي المقدسة، منحًا دراسية وبرامج تنموية تهدف إلى الحد من هجرة المسيحيين، وتشجيع بقائهم في الأرض المقدسة، مع السعي إلى حماية حقوقهم كأقلية دينية تعاني من ضغوط متعدّدة. إن إدراك أهمية الشباب المسيحي وتمكينهم ليس مجرد ضرورة دينية واجتماعية، بل هو عنصر أساسي للحفاظ على النسيج المسيحي الفلسطيني، ومنح الكنيسة دورًا فاعلًا في مستقبل فلسطين، عبر تشكيل صوت نبوّي يعكس تطلعات العدالة والحرية. في الوقت نفسه، يزداد شعور المسيحيين الفلسطينيين بالاغتراب عن الكنيسة كمؤسسة يُنتظر منها أن تضطلع بدور أخلاقي وروحي في الدفاع عن الحق والعدالة. ينبع هذا الشعور من اعتقاد متزايد بأن الكنيسة لم تعد تمثل تطلعاتهم الوطنية ولا تعكس معاناتهم اليومية تحت الاحتلال. على سبيل المثال، خلال الانتفاضتين الأولى (1987-1992) والثانية (2000-2005)، لم يكن الحضور الكنسي في المشهد العام بارزًا من حيث التصريحات أو المواقف العلنية إزاء ما تعرّض له الفلسطينيون، بمن فيهم المسيحيون، وهو ما يشير إليه الباحث تشارلز سينوت في كتابه “The Body and the Blood” (2001). وقد دفع هذا الأمر بعض الأطراف إلى التفكير في إمكانية تعزيز دور الكنيسة في التعبير عن قضايا المجتمع الفلسطيني في مثل هذه الفترات الحساسة. كما اتُهمت بعض القيادات الكنسية، خصوصًا تلك المرتبطة ببطريركيات غير عربية، بالتركيز على الشؤون الإدارية والدبلوماسية بدلًا من التفاعل الحقيقي مع الواقع الفلسطيني، مما عمّق الشعور بالتهميش. تؤدي مواقف الكنائس من الاحتلال دورًا حاسمًا في تشكيل وعي المسيحيين الفلسطينيين، وفي تعزيز أو تقويض شعورهم بالكرامة والدعم المعنوي. فبينما تتبنى بعض الكنائس مواقف واضحة وأخلاقية تعبر عن دعم العدالة وحقوق الفلسطينيين، تختار أخرى الصمت أو الحياد، بل وأحيانًا تُفسر مواقفها على أنها تواطؤ ضمني مع الاحتلال. وفي ظل هذا التفاوت، يمكن طرح سؤال جوهري: هل تستطيع الكنيسة استعادة دورها التاريخي كصوت ضمير جماعي، أم ستظل محبوسة في حسابات مؤسساتية تبعدها عن نبض شعبها؟ مع ذلك، لا يمكن إنكار وجود مواقف إيجابية لبعض رجال الدّين المسيحيين العرب في مراحل مهمة من تاريخ فلسطين، الذين أكدوا التزامهم بالدفاع عن العدالة وحقوق الإنسان. من أبرزهم البطريرك ميشيل صباح، أول بطريرك لاتيني عربي للقدس منذ قرون، الذي لعب دورًا مهمًا في صياغة خطاب مسيحي فلسطيني أصيل يربط الإيمان بالدفاع عن الحرية والكرامة. كان من الداعمين البارزين لوثيقة "كايروس فلسطين" (2009)، التي وصفت الاحتلال بأنه "خطيئة ضد الله وضد الإنسان"، ودعت الكنائس العالمية إلى رفض الظلم وعدم تبرير الاحتلال. جاء في نص الوثيقة: "كلمتنا هي صرخة رجاء وأمل... نوجهها... إلى كل الكنائس والمسيحيين في العالم، نطالبهم فيها بالوقوف ضد الظلم والتمييز العنصري، ونحضهم على العمل من أجل السلام العادل في منطقتنا، داعين إياهم إلى إعادة النظر في أي لاهوت يبرر الجرائم المرتكبة ضد شعبنا، ويبرر قتله وطرده من وطنه وسرقة أرضه". لكن في المقابل، يشعر الكثير من المسيحيين الفلسطينيين بالإحباط من صمت بعض الكنائس أو مواقفها الحيادية والمرتبكة تجاه الاحتلال. وتوجه انتقادات خاصة للبطريركية اليونانية الأرثوذكسية في القدس، التي تُتهم بعدم تمثيل الشعب الفلسطيني بشكل فعلي، وبتورطها في صفقات عقارية مثيرة أثرت على الأراضي والمقدّسات، مما أدى إلى غضب واحتجاج واسع في المجتمع المسيحي، حيث اعتبرها كثيرون مسًّا مباشرًا بالمكانة الرمزية للأرض والمقدّسات، وانفصالًا خطيرًا بين القيادة الكنسية وطموحات الشعب. تتجاوز تبعات هذه السياسات الأبعاد الاقتصادية لتصل إلى جوهر الهوّية التاريخية والدّينية للمكان. فخسارة العقارات في قلب القدس لا تعني فقط خسارة مادية، بل تهديدًا مباشرًا للوجود المسيحي العربي في هذه المنطقة الرمزية. وبهذا التراجع، تتراجع أيضًا صورة الكنيسة كفاعل وطني وصوت ثبات، لتحل محلها صورة مرتبكة تشوّه فرص العدالة والصمود. كما تُوجَّه انتقادات إلى بعض الكنائس الغربية الكبرى، مثل الكنيسة الكاثوليكية في روما، بسبب خطابها الذي يركز على "الحياد والمصالحة" دون تسمية الاحتلال بوضوح أو دعم الفلسطينيين بشكل مباشر. يعتبر كثيرون هذا موقفًا نوعًا من "التواطؤ الصامت" مع الظلم، إذ بينما تدعو هذه الكنائس إلى "السلام لجميع الأطراف"، تتجنب تحميل إسرائيل مسؤولية الانتهاكات المستمرة، ما يُعطي انطباعًا بعدم الاكتراث لمعاناة المسيحيين الفلسطينيين. تُضاف إلى ذلك ظاهرة الزيارات الدّينية الدولية، التي غالبًا ما تكون طقسية أو سياحية بحتة، ولا تتواصل مع المجتمع المسيحي المحلي، مما يعمق شعور العزلة والخذلان لدى السكان المسيحيين. يعبّر كثير من المسيحيين الفلسطينيين عن إحساسهم بأنهم يُتركون وحدهم في مواجهة التحدّيات، في حين تغض الكنائس الأممية الطرف عن معاناتهم اليومية، ويُنظر أحيانًا إلى هؤلاء الزوار وكأنهم "حجّاج عُميان" يمرون فوق الألم دون أن يروه. ينتقد العديد من اللاهوتيين الفلسطينيين هذا الصمت، ويرونه تقاعسًا عن أداء دور "الشهادة" التي يفترض أن تلعبه الكنيسة في زمن الظلم. وقد عبّرت وثيقة "كايروس فلسطين" (2009) عن هذا الرفض بوضوح، داعية الكنائس العالمية إلى اتخاذ مواقف ملموسة تتجاوز الإدانة اللفظية، وتدعم حقوق الفلسطينيين، وتقاوم التواطؤ مع الظلم. في قلب هذا المشهد، تكمن معاناة يومية صامتة يعيشها كثير من المسيحيين الفلسطينيين، لا تُترجم دائمًا في البيانات أو التصريحات، بل تُرى في العيون المتعبة لأمهات ينتظرن أبناءهن العائدين من الهجرة، وفي صلوات كبار السن داخل كنائس شبه فارغة، وفي نظرات الأطفال الذين يرون المقدّسات من بعيد دون أن يشعروا بانتماء كامل إليها. هناك شعور متزايد بأن الكنيسة – تلك التي من المفترض أن تكون الحضن والملجأ – لم تعد ترى جراحهم، ولم تعد تسمع همومهم البسيطة: كمنع الوصول إلى أماكن العبادة، أو التضييق على مدارسهم، أو غياب الدعم في أوقات القلق والاحتياج. في البيوت الفلسطينية المسيحية، لا تزال الأيقونات معلّقة على الجدران، لكنّ الإيمان اليومي بات مثقَلًا بصمت الكنيسة وبثقل واقع يزداد تعقيدًا. التهميش الليتورجي والثقافي: اغتراب المسيحيين الفلسطينيين في كنائسهم يعاني المسيحيون الفلسطينيون من أزمة متفاقمة تهدّد جوهر هوّيتهم الروحية والثقافية، وتتمثل هذه الأزمة في تهميش واضح داخل كنائسهم ذاتها، على الصعيدين الليتورجي والثقافي. لقد شكّل التنوع اللغوي واللاهوتي في الأرض المقدّسة (السريانية، الآرامية، اليونانية، والعربية) عبر التاريخ ثراءً روحيًا يعكس تعدّد المجتمعات المسيحية وتقاليدها العريقة، لكنّه بدأ يتلاشى بمرور العقود بفعل سيطرة مؤسسات كنسية أجنبية تحوّلت الصلوات فيها إلى لغات أجنبية كاللغة اليونانية في الطقوس الأرثوذكسية، واللاتينية أو الإيطالية في الكنائس الكاثوليكية، وحتى الإنجليزية في الكنائس الأنجليكانية، وهو ما أدى إلى إقصاء اللغة العربية أو تقليص دورها إلى رمزية هامشية فقط، مما يفاقم شعور المؤمنين الفلسطينيين بالاغتراب. وقد تناول الباحثان & Konstantinos Papastathis Noah Haiduc-Dale في دراستهما “Arabic vs. Greek: The Linguistic Aspect of the Jerusalem Orthodox Church Controversy” نُشرت في 26 شباط 2020، مسألة تحوّل اللغة اليونانية إلى أداة للسيطرة الرمزية واللاهوتية داخل الكنيسة الأرثوذكسية في القدس، منذ أواخر العهد العثماني وحتى فترة الانتداب البريطاني، على حساب الحضور العربي المحلّي. في كنيسة القيامة، على سبيل المثال، لا تُقام الصلوات الرئيسية في الأعياد الكبرى إلا باليونانية أو اللاتينية، بينما لا تتاح للمؤمنين الفلسطينيين سوى صلوات جانبية باللغة العربية، مما يجعل الكثيرين يشعرون بأنّهم غرباء في كنيسة تُفترض أنها تمثّلهم روحيًا وتاريخيًا. وينطبق الأمر ذاته على كنيسة المهد في بيت لحم وكنيسة البشارة في الناصرة، حيث تُنظَّم الطقوس غالبًا بناءً على ما يُرضي الحجاج الأجانب، بينما تُهمَّش الرعيّة المحلية وتُدفع إلى هوامش الحياة الليتورجية. ولا يقتصر هذا التهميش على اللغة فحسب، بل يمتد أيضًا إلى تغييب رجال الدّين المحليين عن مواقع القيادة، خاصة في البطريركيات التاريخية. ففي الكنيسة الأرثوذكسية في القدس، ما تزال السلطة الكنسية مُحتكَرة من قِبل رهبان يونانيين يُعرفون بـ"الجريغوس"، وهي هيمنة تعود جذورها إلى العهد العثماني وتستمر حتى اليوم. يكتب داود كتّاب في رسالته الإخبارية لعام 2024: "إن الكنيسة الأرثوذكسية، أمّ جميع الكنائس المسيحية في الأرض المقدّسة، كيان غريب للغاية، ويعتبرها المسيحيون الفلسطينيون آخر معاقل الاستعمار الدّيني في الأرض المقدّسة. في حين أن جميع المؤمنين هم من العرب، فإن جميع كبار رجال الإكليروس فيها، بما في ذلك كل عضو في السينودس المقدّس، هم من المواطنين اليونانيين". يعبّر العديد من الشباب عن شعورهم بأن الكنيسة لم تعد تمثّلهم، وأنّ الطقوس لا تتّسق مع لغتهم أو همومهم اليومية. في مقابلة مع موقع Middle East Eye بتاريخ 12 أيلول 2024، أكد القس منذر إسحق أنّ المسيحيين الفلسطينيين يعانون من تهميش مزدوج: سياسي في ظل الاحتلال، وكنسي من خلال مؤسسات لا تعبّر عن واقعهم أو تمثّل صوتهم؛ ما يزيد من شعورهم بالعزلة داخل الكنيسة ويقوّض ارتباطهم بهويّتهم الروحية والثقافية. في مواجهة هذا التهميش المتراكم، برزت مبادرات فلسطينية لاهوتية وثقافية تدعو إلى تعريب الكنيسة، وتوطين القيادة الروحية، وإحياء الهوّية الثقافية المشرقية. وقد أوضحت دراسة Elizabeth Marteijn بعنوان (2020) “The Revival of Palestinian Christianity”، أن النخب اللاهوتية الفلسطينية بدأت منذ ثمانينيات القرن العشرين في بلورة لاهوت تحرّري سياقي، يهدف إلى ربط الكنيسة بالواقع السياسي والاجتماعي، وإعادة الاعتبار للمؤمن الفلسطيني كمحور أساسي في هوّية الكنيسة. كما أطلقت كلية بيت لحم للكتاب المقدّس برامج تهدف إلى تأهيل قادة لاهوتيين محليين، وتقديم بدائل روحية نابعة من السياق الفلسطيني ذاته، تُعبّر عن معاناة الإنسان الفلسطيني وآماله، وتُعيد وصل الإيمان بالمكان والهوية. كذلك شكّلت وثيقة "كايروس فلسطين" (2009) منعطفًا فكريًا وروحيًا بارزًا في اللاهوت الفلسطيني، حيث اعتبر اللاهوتيون الموقعون أن الكنيسة مدعوة إلى التحرر والانحياز الفعلي إلى قضايا العدل والكرامة. وقد شددوا على أن رسالة الكنيسة لا تنحصر في أداء الشعائر، بل في تمثيل صوت الناس، والوقوف إلى جانب المضطهدين، ومناهضة الاستعمار والتمييز. الانقسام الكنسي في الأرض المقدّسة: عامل خفي يُسرّع هجرة المسيحيين رغم أن الاحتلال الإسرائيلي، وتراجع الحريات، والانهيار الاقتصادي تمثل الأسباب الجوهرية لتآكل الوجود المسيحي في الأرض المقدّسة، إلا أن ثمة عوامل داخلية أيضًا تُقوّض قدرة المسيحيين على الصمود والبقاء. من بين هذه العوامل، يبرز الانقسام الكنسي — سواء بين الطوائف المختلفة أو داخل كل طائفة — كأحد الجوانب التي لا تحظى غالبًا بالنقاش الكافي في الخطاب العام، رغم أثره العميق على وحدة المجتمع المسيحي وتماسكه في الأرض المقدّسة. تضمّ القدس، قلب الأرض المقدّسة، فسيفساء غنية من الكنائس: الأرثوذكسية، الكاثوليكية، البروتستانتية، والأرمنية، والقبطية، والسريانية، والإثيوبية. ورغم أن هذا التنوع يعكس عمق التاريخ المسيحي وتعدّديته الثقافية، إلا أنه في الواقع المعاصر غالبًا ما يُترجم إلى تباين في المرجعيات، وضعف في التنسيق، وتنافس في الأجندات، خصوصًا في الملفات الحساسة كإدارة الأماكن المقدّسة والدفاع عن الأملاك المسيحية، ما يُضعف الموقف المسيحي العام. لكل كنيسة إدارتها الخاصة، وأولوياتها، وعلاقاتها السياسية والدبلوماسية. وغالبًا ما تعمل هذه الكنائس بشكل منفصل، وأحيانًا في أجواء تنافسية، خصوصًا في القضايا المرتبطة بإدارة الممتلكات أو الأماكن المقدّسة. وتُعد كنيسة القيامة مثالًا بارزًا على هذا التعقيد، إذ تُدار وفق نظام دقيق تشترك فيه عدة طوائف، ما يعوق أحيانًا حتى أبسط أعمال الترميم أو الإصلاح. هذا الواقع يُجسّد التحدّيات البنيوية التي تفرضها الانقسامات الكنسية على وحدة العمل المسيحي في الأرض المقدّسة. يواجه المسيحيون الفلسطينيون ضغوطًا وجودية يومية بفعل الاحتلال وتراجع الأمان الاقتصادي، في ظل غياب تمثيل جماعي موحّد أو صوت كنسي فاعل يدافع عن مصالحهم. ورغم أن الكنيسة يُفترض أن تكون سندًا روحيًا ووطنيًا، يشعر كثيرون بأنها غارقة في صراعات طائفية وحسابات سياسية لا تمثّلهم، بل تُكرّس شعورهم بالهامشية والخذلان. حين تُسأل العائلات المسيحية الشابة عن دوافع التفكير في الهجرة، غالبًا ما تُعبّر عن شعور بالعجز الجماعي وغياب مؤسسة موحدة تحمي مصالحها في التعليم، والعمل، والحفاظ على الوجود العقاري، ما يجعل خيار الهجرة يبدو أحيانًا وكأنه السبيل الوحيد لضمان مستقبل الأبناء. ورغم واقع الانقسام الكنسي والشعور بغياب الحماية المؤسسية، لا يمكن إنكار الدور التاريخي الذي لعبته الكنائس المسيحية في الأرض المقدّسة، من خلال مؤسسات تعليمية وصحية بارزة تخدم الفلسطينيين، مسيحيين ومسلمين على حد سواء، منذ القرن التاسع عشر. جامعات ومشافي مثل جامعة بيت لحم ومستشفى أوغستا فكتوريا في القدس تُجسّد هذا الدور الخدمي والتنموي. لكن حضور هذه المؤسسات، مهما كان مهمًا، لا يعوّض غياب صوت كنسي موحّد يدافع عن حقوق الناس اليومية في ظل أزمات متفاقمة. لا يمكن القول إن الانقسام الكنسي هو السبب المباشر لهجرة المسيحيين، لكنه بلا شك عامل يُضعف قدرتهم على الصمود. فغياب الوحدة، وتعدّد المرجعيات، وإدارة الشأن الكنسي من خارج الواقع المعيشي للمجتمع، كلها عوامل تُغذّي شعور التهميش، وتُعزز الرغبة في الرحيل بحثًا عن الأمان، والفرص، والانتماء الدّيني المستقر. فالحالة المعقّدة التي يعيشها المسيحيون الفلسطينيون تُفاقمها في كثير من الأحيان مظاهر التفكك الداخلي بين الكنائس، وافتقارها إلى آليات جماعية للدفاع عن المصالح المجتمعية المشتركة. وحين يشعر الناس أن مؤسساتهم الدّينية مفككة، وأن صوتهم موزّع بين كنائس متباعدة، وأن شؤونهم تُدار من خارج واقعهم اليومي، تتراجع قدرتهم على البقاء، وتزداد جاذبية فكرة الرحيل نحو دول تعد بالحماية، والفرص، والانتماء الديني المستقر. اليوم، أكثر من أي وقت مضى، الكنائس في فلسطين مطالبة بإعادة النظر في دورها، ليس فقط كهيئات طقسية، بل كقوة اجتماعية ووطنية فاعلة. التحدّيات التي تواجه الوجود المسيحي في الأرض المقدّسة لم تعد طائفية، بل وجودّية، وتتطلب وحدة في الرؤية والرسالة. فالدفاع عن الأرض والهوّية والتعليم والكرامة ليس مسؤولية طائفة واحدة، بل قضية مجتمع بأكمله. الانقسام الكنسي، رغم أنه ليس السبب المباشر لهجرة المسيحيين الفلسطينيين، يبقى من العوامل التي تُضعف قدرتهم على المقاومة والبقاء. وما لم تتوحد الكنائس خلف مشروع وطني واجتماعي حقيقي، سيظل الحضور المسيحي عرضة للتآكل، ليس فقط بسبب من يهاجمهم، بل أحيانًا بسبب من يفشل في حمايتهم. الانكماش الديمغرافي: نزيف الوجود المسيحي يشهد الوجود المسيحي في الأرض المقدّسة التاريخية (الضفة الغربية، القدس، قطاع غزة، وداخل الخط الأخضر) انكماشًا ديمغرافيًا متسارعًا ينذر بتراجع أحد أقدم المكوّنات الثقافية والدّينية في المنطقة. فعلى الرغم من الدور التاريخي البارز للمسيحيين الفلسطينيين في المشهد السياسي والثقافي والاجتماعي، فإن أعدادهم تتناقص بسبب عوامل متعدّدة، أبرزها الهجرة، سواء القسرية أو الطوعية. كانت المسيحية تشكّل غالبية سكان العديد من مدن الأرض المقدّسة، إلا أن هذا الواقع تغيّر بشكل حاد خلال العقود الماضية. ففي بيت لحم، المدينة التي وُلد فيها السيد المسيح، كان المسيحيون يشكلون أكثر من 85% من السكان في خمسينيات القرن الماضي، بينما انخفضت نسبتهم إلى حوالي 12% عام 2016، ومن المرجح أن تكون أقل اليوم. وفي القدس، مثّل المسيحيون نحو 1.7% من إجمالي السكان عام 2020، وتُشير تقديرات محلية إلى أن نسبتهم الحالية تقل عن 1%. وفقًا للأستاذ الدكتور حنا عيسى في مقال له بعنوان "التوزيع الديموغرافي للمسيحيين في الأراضي المقدّسة" نشره في موقع "مركز الناطور للدراسات والأبحاث" في 16 أيار 2019، فإن "الحضور المسيحي في المجتمع الفلسطيني في الوقت الحالي يشكل أقل من 1% فقط من تعداد سكان الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة"، وهو تراجع حاد مقارنةً بنسبة كانت تبلغ نحو 10%–11% في أوائل القرن العشرين، حسب تقرير المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسيحية لعام 2020 بعنوان: "المسيحيون الفلسطينيون في بيئة متغيرة. في قطاع غزة، تراجع عدد المسيحيين من نحو 3,000 قبل عام 2007 إلى حوالي 1,000 بحلول أواخر 2023، ثم انخفض مجددًا إلى ما بين 650 و800 بعد الحرب التي اندلعت في تشرين الأول 2023. أمّا في إسرائيل (داخل الخط الأخضر)، فيشكّل المسيحيون حوالي 185,000 – 187,000 نسمة، أي نحو 1.9% من إجمالي السكان، منهم حوالي 78.7% عرب مسيحيون، ويشكلون نحو 6.9% من السكان العرب في البلاد، استنادًا إلى نتائج جهاز الإحصاء المركزي الإسرائيلي لعام 2023–2024. وفي الناصرة، إحدى أبرز المدن المسيحية في الجليل، كانت المسيحية الغالبية حتى منتصف القرن العشرين، لكن بحلول عام 2009 وصلت نسبة المسيحيين إلى حوالي 31% من السكان العرب. تتساءل الصحافية رغدة عتمة في مقال لها عن هجرة المسيحيين صدر في منصة "اندبندنت عربية" في 12 تشرين الأول 2019 وتقول: "نسبتهم أقل من 1 في المئة... إلى أين ذهب مسيحيو فلسطين؟" ضغوط الحياة المستمرة في الأرض المقدّسة وأثرها على استقرار المجتمع المسيحي رغم تمسّك عدد من المسيحيين الفلسطينيين بالبقاء في أرضهم، يُواجه العديد منهم صعوبة متزايدة في تحمّل أعباء الحياة اليومية، خاصة في ظلّ الضغوط السياسية والاقتصادية المتراكمة. وبسبب صغر عددهم وتراجع الشعور بالأمان، يعاني كثير منهم من عزلة نسبية تجعل خيار الهجرة إلى دول توفر حياة أكثر استقرارًا وأمانًا خيارًا مغريًا. يبحث كثير من المسيحيين الفلسطينيين عن الاستقرار الاقتصادي والسياسي، وفرص التعليم والعمل الجيدة، وهو ما يجدونه في الخارج أكثر مما في الداخل. هذه الرغبة لا تعبّر عن ضعف، بل عن تآكل الأمل في التغيير من داخل المجتمع، في ظل استمرار الاحتلال وتراجع التأثير السياسي والاجتماعي للمسيحيين في الأرض المقدّسة. لا يُستثنى رجال الدّين من هذا الواقع. فقد اختار بعض القساوسة من كنائس محلية الهجرة مدفوعين بالبحث عن الأمان والاستقرار وتخفيف وطأة التوترات اليومية التي تثقل كاهل الحياة. ويبرّر بعض هؤلاء القساوسة اختيارهم بأن وجودهم في الغرب يمنحهم فرصة أكبر لإيصال صوت الفلسطينيين، خاصة المسيحيين، وتعريف المجتمعات الغربية بمعاناتهم. مثل باقي فئات المجتمع، يعاني المسيحيون من الاحتلال: مصادرة الأراضي، بناء الجدار الذي عزل مدنًا مسيحية مثل بيت جالا وبيت ساحور عن محيطها الحيوي، وقيود على حرية الحركة والتنقل تمنع رجال الدّين وطلاب المدارس والجامعات من الوصول إلى القدس، ما يؤدي إلى تآكل الروابط الاجتماعية والدّينية والشعور بالعزلة. في القدس نفسها التي تُعدّ قلبًا روحيًا وتاريخيًا للمسيحيين في الأرض المقدّسة، يواجه المسيحيون سياسات تهويد ممنهجة تهدف إلى تقليص وجودهم: تضييقات على مؤسساتهم التعليمية والدّينية، صعوبات في الحصول على تصاريح إقامة وتنقّل، خاصة لرجال الدّين القادمين من الضفة أو الخارج. هذه السياسات تُعتبر جزءًا من استراتيجية أوسع لفرض واقع ديموغرافي جديد في المدينة. كما ساهمت الحروب والنزاعات المسلحة في دفع أعداد كبيرة من المسيحيين إلى الهجرة، سواء في شكل لجوء قسري أو هجرة اختيارية مدفوعة بالخوف وفقدان الأمل. فقد شكّلت النكبة عام 1948 نقطة تحوّل حاسمة، حيث تمّ تهجير الآلاف من المسيحيين من مدن رئيسية مثل يافا واللد والرملة والقدس الغربية. وتكرّر المشهد عام 1967 خلال النكسة، حين سيطرت إسرائيل على الضفة الغربية والقدس الشرقية، ما أدّى إلى موجة هجرة جديدة. كذلك تسببت الانتفاضتان الأولى (1987-1993) والثانية (2000-2002)، وما تلاهما من حصار اقتصادي وأمني وإغلاق للمدن، في تدهور الحياة العامة وفقدان الأمان. وبهذا، خلقت هذه الحروب والسياسات أرضية خصبة لتآكل الحضور المسيحي في فلسطين التاريخية، ليس فقط بسبب الاقتلاع الجسدي، بل أيضًا نتيجة استنزاف الأمل بإمكانية البقاء والعيش الكريم. إن استمرار هذه الظروف الضاغطة، وفي ظل غياب أفق سياسي واضح أو حماية دولية فعالة، يجعل خيار الهجرة أكثر جاذبية لفئة واسعة من المسيحيين، خاصة الشباب منهم، الذين يبحثون عن مستقبل أكثر استقرارًا وكرامة في الخارج. الضائقة الاقتصادية ودورها في هجرة المسيحيين الفلسطينيين من الأرض المقدسة لم تعد هجرة المسيحيين الفلسطينيين من الأرض المقدّسة تقتصر على الأسباب السياسية أو الدّينية فحسب، بل باتت الضائقة الاقتصادية من أبرز العوامل الدافعة لهذا النزيف الديمغرافي المستمر. ففي ظلّ التقلّبات الاقتصادية، والقيود السياسية، وتراجع الدعم المحلي والدولي، يجد العديد من المسيحيين أنفسهم أمام واقع معيشي يزداد صعوبة. تشير نتائج استطلاع رأي مشترك بين Arab Barometer والمركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية (PCPSR) لعام 2020 إلى أن 59% من المشاركين المسيحيين يرون أن السبب الرئيسي للهجرة اقتصادي. وبحسب تقرير نشرته وكالة Catholic News Agency (2021)، فإن "المسيحيين الفلسطينيين أكثر ميلًا للهجرة من جيرانهم المسلمين"، ويُعزى ذلك إلى "الضائقة الاقتصادية، وهجمات المستوطنين، وانعدام الحماية القانونية". يُعاني كثير من المسيحيين الفلسطينيين من محدودية فرص العمل، وتقلّص الموارد، وتراجع القطاعات الاقتصادية الأساسية، خصوصًا في المدن التي كانت تقليديًا مراكز مسيحية نشطة، مثل بيت لحم، بيت جالا، وبيت ساحور. وتعتمد هذه المدن بشكل كبير على قطاع السياحة الدّينية، الذي تعرّض لنكسات متكرّرة بفعل الانتفاضات، جائحة كوفيد-19، ثمّ الحرب الأخيرة على غزة. وفقًا لتقرير نشرته "أخبار الفاتيكان" (Vatican News) بتاريخ 11 حزيران/يونيو 2025، فإن القطاع السياحي في بيت لحم "انهار بالكامل خلال حرب غزة، ما أدى إلى خسائر يومية تُقدّر بنحو 2.5 مليون دولار، ورفع معدل البطالة إلى 31%، ما أثّر بشكل مباشر على العائلات المسيحية. يشكو العديد من الشباب المسيحيين في مدينة بيت لحم من أنهم مضطرون لقبول وظائف مؤقتة أو غير رسمية بسبب قلة البدائل، مما يدفعهم للتفكير في الهجرة إلى الخارج حيث تتوفر فرص عمل مستقرة، خصوصًا في البلدان التي تحتضن جاليات مسيحية فلسطينية فاعلة، مثل كندا والولايات المتحدة. ورغم أن المسيحيين الفلسطينيين يتمتعون غالبًا بمستوى تعليمي ولغوي مرتفع، فإن غياب الاستثمارات في المناطق ذات الكثافة المسيحية – خصوصًا تلك الواقعة خلف الجدار أو ضمن مناطق "ج" – يُنتج بيئة اقتصادية طاردة. فالمؤسسات الصغيرة، كالجمعيات والعيادات والمدارس الكنسية، تعاني من نقص التمويل، ما يحدّ من قدرتها على توفير فرص عمل ثابتة أو مسارات مهنية طويلة الأمد في القدس الشرقية، تتفاقم الأزمة الاقتصادية مع الارتفاع الحاد في تكاليف المعيشة، وأسعار العقارات، مقابل محدودية الرواتب، ومشاكل الحصول على تصاريح بناء أو إقامة أو تنقّل، وهي مشكلات تمثل ضغطًا دائمًا على السكان المسيحيين هناك. كما أن عدم الاستقرار الوظيفي، والانقطاعات المتكررة الناتجة عن الإغلاقات السياسية، أو المواجهات العسكرية، أو القيود الإسرائيلية، تجعل من التخطيط الاقتصادي طويل الأمد شبه مستحيل. ويشكو كثير من الشباب المسيحي من اضطرارهم لقبول وظائف مؤقتة أو العمل في السوق غير النظامي، أو التفكير في الهجرة كخيار للحصول على أمان اقتصادي أكبر. رغم الدور التاريخي للكنائس في رعاية المجتمع، إلا أن مؤسساتها – وخصوصًا تلك التي تُدار من الخارج – لا توفّر اليوم بنية اقتصادية داعمة. وغالبًا ما تُنتقد حالة الجمود الإداري وغياب المبادرات المحلية من أجل تمكين الشباب اقتصاديًا. وقد أشار الباحث تشارلز سينوت في كتابه The Body and the Blood (2001) إلى أن ضعف الإدارة الاقتصادية للكنائس هو أحد الأسباب غير المرئية لتآكل الحضور المسيحي، إذ تصبح الكنائس "مواقع تراثية وسياحية أكثر منها فضاءات مجتمعية حيّة". من جهة أخرى، تُسهّل المهارات التعليمية واللغوية العالية لدى المسيحيين الفلسطينيين من اندماجهم في الأسواق الغربية، لا سيّما في دول مثل الولايات المتحدة، وكندا، وأستراليا، وألمانيا، حيث توجد جاليات فلسطينية مسيحية. وتوفّر هذه الجاليات دعمًا اجتماعيًا ومهنيًا يجعل الهجرة تبدو خيارًا آمنًا ومنطقيًا، لا سيما لدى الطبقة الوسطى المثقفة. وبالتالي، تصبح الهجرة وسيلة للبقاء بكرامة. فكثير من العائلات ترى أن مستقبل أولادها سيكون أفضل في الخارج، حيث يمكنهم الحصول على فرص تعليم وعمل واستقرار مادي لا تُتاح في الداخل. الضائقة الاقتصادية ليست سببًا منفصلًا، بل عاملًا مضاعفًا يتقاطع مع السياسة والهوّية والدّين. إن هجرة المسيحيين الفلسطينيين ليست مجرد انتقال جغرافي، بل خسارة عميقة للوجه التاريخي والثقافي لفلسطين. وإذا لم تُعالج جذور الأزمة الاقتصادية بشكل عادل وشامل، فإن الأرض المقدّسة قد تفقد أحد أقدم مكوّناتها الاجتماعية، وتتحوّل من مكان للعيش إلى موقع للزيارة فقط. العنف ضد المسيحيين الفلسطينيين: تهديد وجودي يتجاوز الأرقام رغم قلة أعدادهم، يظلّ المسيحيون الفلسطينيون جزءًا لا يتجزأ من النسيج التاريخي والثقافي للأرض المقدّسة. فهم من أقدم الجماعات الدّينية التي استقرت في هذه الأرض، حيث وُلدت المسيحية وانتشرت منها إلى العالم. على مدى قرون، شكّل المسيحيون ركيزة أساسية في حضارة المنطقة وهويتها المتنوعة، التي شهدت تحوّلات كبرى في الديانات الإبراهيمية المختلفة. ومع ذلك، في السنوات الأخيرة، تصاعدت وتيرة الاعتداءات التي تستهدف المسيحيين ومؤسساتهم، سواء من جانب قوات الاحتلال أو متطرفين يهود، ما أثار قلقًا بالغًا بشأن مستقبل هذا المكوّن الحيوي. هذه الاعتداءات ليست مجرد أحداث معزولة، بل تشكّل تهديدًا وجوديًا يهدّد طمس هوّية جماعة عريقة عمرها آلاف السنين. وفي هذا الخصوص، يقول رئيس أساقفة كانتربري، جستن ويلبي، في تصريح داعم للمجتمعات المسيحية في الشرق الأوسط: " إخواننا المسيحيون يواجهون الترهيب والعنف والعزلة، ومع ذلك يثبتون على إيمانهم وشهادتهم. من واجبنا ككنيسة عالمية أن نقف إلى جانبهم". تشهد مدينة القدس على وجه الخصوص تصاعدًا في وتيرة العنف تجاه المسيحيين ومؤسساتهم الدّينية. وثّقت تقارير عديدة اقتحامات للكنائس، اعتداءات على رجال دين، واستيلاء على ممتلكات تابعة للكنائس، ضمن سياسة تهويد المدينة. ومؤخرًا، تعرّضت ممتلكات الكنيسة الأرمنية لتهديدات من مستوطنين يسعون للسيطرة على أراضٍ تابعة لها بالقرب من حيّ باب الخليل، أحد المداخل التاريخية للقدس القديمة. وفي هذا السياق، عبّر البطريرك نورهان مانوغيان، بطريرك الأرمن الأرثوذكس في القدس، عن قلقه العميق قائلًا: "نحن نواجه محاولات ممنهجة للاستيلاء على أراضٍ تابعة لكنيستنا في القدس، ونتعرض لضغوط هائلة من مجموعات استيطانية مدعومة سياسيًا. إننا نحارب للحفاظ على وجودنا المسيحي في هذه المدينة المقدسة" (تصريح خلال مؤتمر صحفي في القدس – تشرين الأول 2023). ولا تقتصر الانتهاكات على الأراضي والمباني، بل تشمل أيضًا مضايقات مباشرة: بصق على رجال دين، تمزيق لرموز دينية مسيحية، وتهديدات لفظية وجسدية، غالبًا ما تمر دون مساءلة، مما يعزز شعورًا بالخوف وانعدام الأمان. المسيحيون في فلسطين يشكلون أقل من 1% من السكان في الأرض المقدّسة اليوم، ورغم تناقص أعدادهم، ساهموا بشكل كبير في الحياة الثقافية والتعليمية والصحية في فلسطين. جامعات، مستشفيات، ومدارس مسيحية لا تزال تقدم خدمات لجميع الفلسطينيين، مسيحيين ومسلمين على حد سواء. ولكن العنف، والتهجير، وتراجع الحريات الدّينية، تدفع بالمزيد من العائلات المسيحية إلى الهجرة، في حلقة تهدّد بتفريغ فلسطين من أحد مكوّناتها التاريخية الأصيلة. في حين تُسلّط الأضواء العالمية على أوضاع المسيحيين في دول مثل العراق وسوريا، يُقابل ما يحدث في فلسطين بصمت نسبي. هذا التجاهل يعكس ازدواجية في المعايير، ويعزز الشعور بأن المسيحيين الفلسطينيين يُعتبرون أقل استحقاقًا للدفاع عن حقوقهم. وفي تصريح له في صحيفة "ذا غارديان" البريطانية في كانون الأول 2021، حذّر بطريرك القدس للروم الأرثوذكس، ثيوفيلوس الثالث، من هذا الواقع بقوله: "نشهد حملة منهجية تستهدف تقليص الوجود المسيحي في القدس، عبر تهديدات مستمرة لأملاك الكنائس ووجودها، وهذا يشكّل خطرًا حقيقيًا على الطابع المتعدد الأديان للمدينة المقدّسة". إن العنف ضد المسيحيين الفلسطينيين ليس مجرد سلسلة من الحوادث المنفصلة، بل هو جزء من بنية أكبر تهدف إلى إقصاء غير اليهود من الأرض. بذلك، يتحول الأمر من مجرد انتهاك لحقوق الإنسان، إلى تهديد وجودي يستهدف التنوع الدّيني والتاريخي في فلسطين. بقاء المسيحيين في فلسطين ليس مجرد مسألة دينية أو عددية، بل هو قضية حضارية وثقافية وإنسانية. الدفاع عنهم هو دفاع عن التعدّدية، وعن هوّية فلسطين الجامعة، في وجه مشروع يسعى لإفراغ الأرض من تنوعها وإعادة تشكيلها وفق رواية أحادية. الهشاشة المزدوجة: المسيحيون الفلسطينيون بين التهميش والتهجير يواجه المسيحيون الفلسطينيون واقعًا من الهشاشة والعزلة، لا يقتصر على التحدّيات اليومية فحسب، بل يدفع كثيرين منهم إلى اتخاذ قرار الهجرة بحثًا عن حياة أكثر أمانًا وحرية. ورغم ارتباطهم العميق بالأرض المقدّسة وتاريخهم العريق فيها، يجدون أنفسهم في موقع هشّ، باعتبارهم أقلية مزدوجة التهميش: داخل مجتمع يغلب عليه الطابع الإسلامي، وتحت احتلال يفرض سياساته وقوته العسكرية والاقتصادية. يتجلّى هذا التهميش المزدوج في كون المسيحيين أقلية سكانية وثقافية داخل المجتمع الفلسطيني، وأقلية مضطهدة من قبل الاحتلال الذي يستهدف وجودهم الديمغرافي والدّيني. هذا الموقع الهوياتي المركب يجعلهم عرضة لمضايقات متنوعة: أحيانًا من متطرفين يهود، وأحيانًا من بعض أفراد المجتمع المسلم الذين قد ينظرون إليهم بريبة أو يهمّشون دورهم في الحياة العامة السياسية والاجتماعية. وفقًا لنتائج استطلاع الرأي بين المسيحيين الفلسطينيين أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسيحية (PCPSR) في الفترة ما بين 27 كانون الثاني و23 شباط 2020: "يشير معظم المسيحيين الفلسطينيين إلى أنهم لا يواجهون مضايقات أو تحرّشًا من جيرانهم المسلمين، سواء في الأحياء السكنية أو في المدارس وأماكن العمل. ومع ذلك، تُظهر النتائج أن ما بين خُمس إلى ربع المستطلَعين أفادوا بتعرضهم لكلمات نابية أو شتائم أو اتهامات بالتجديف. ويعتقد عدد كبير نسبيًا من المشاركين أن غالبية المسلمين لا يرغبون بوجودهم في البلاد. وعلى الرغم من أن الغالبية تشير إلى أنهم لا يعانون من التمييز الدّيني، إلا أن نسبة مشابهة (خُمس إلى ربع) تشعر بتمييز عند التقدّم للوظائف أو عند البحث عن عمل في مؤسسات السلطة الفلسطينية أو محاولة الحصول على خدمات منها. فيما يخصّ الشعور بالاندماج، تشير الغالبية إنها تشعر بأنها جزء من المجتمع الفلسطيني، إلا أن ثلاثة من كل عشرة من المستطلعين لا يرون أنفسهم مندمجين أو يشعرون بأنهم موضع كراهية من بعض المواطنين المسلمين. ويُشير نحو ربعهم إلى أن بعض معارفهم المسلمين يعرضون عليهم اعتناق الإسلام، في حين أفاد سبعة من كل عشرة مستطلعين إنهم سمعوا في وقت ما أن بعض المسلمين يؤكدون أن المسيحيين سيذهبون إلى النار". رغم أن هذه الممارسات لا تعبّر عن المواقف العامة للمجتمع المسلم الفلسطيني، فإن أثرها النفسي والاجتماعي كبير، خاصة في ظل غياب حماية سياسية أو مؤسساتية فاعلة. هذا الشعور بالعزلة يعزّز من قرار عدد متزايد من العائلات المسيحية بالبحث عن حياة أكثر استقرارًا في الخارج، ما يشكّل تهديدًا مستمرًا لاستمرارية وجودهم في وطنهم التاريخي. وعلى الرغم من الروابط العميقة بين المسلمين والمسيحيين الفلسطينيين، فإن بعض الأفراد المسيحيين يعبّرون عن شعور متكرّر بالتهميش أو الضغوط الاجتماعية. هذه المشاعر لا تنبع بالضرورة من سياسة منظمة، بل من تجارب فردية ومحلية تعكس أحيانًا حالة التوتر العام في المجتمع نتيجة الانقسام السياسي، وغياب الأفق الاقتصادي، وتراجع الحريات. في هذا السياق، يذكر تقرير منظمة "هيومن رايتس ووتش" حول حقوق الأقليات في الشرق الأوسط (2022) أن "المسيحيين في بعض المناطق الفلسطينية يعانون من حالات تمييز اجتماعي واقتصادي محدود، ولكن هذا لا يمثل سياسة ممنهجة، بل هو جزء من تعقيدات الوضع العام في الأراضي الفلسطينية". كما يقول مطران الروم الأرثوذكس في القدس عطا الله حنا في مقابلة له مع وكالة الأنباء الفلسطينية – وفا (2020): "نحن جزء لا يتجزأ من هذا المجتمع، لكننا نواجه أحيانًا تحدّيات اجتماعية تجعلنا نشعر بأننا أقلية مضغوطة، خاصة في ظل الظروف السياسية الصعبة التي يمر بها الجميع". وهذا الواقع، وإن لم يكن ناتجًا عن عداء معلن، يخلق شعورًا مستمرًا بعدم الأمان. فبعض المسيحيين يواجهون عزلة اجتماعية غير معلنة، واستبعادًا رمزيًا في بعض المناسبات الدّينية أو الوطنية، أو حواجز غير مرئية في فرص التوظيف والتمكين. ورغم كل ذلك، تبقى الغالبية من العلاقات اليومية بين المسلمين والمسيحيين قائمة على الاحترام والتعاون المشترك، وهو ما يظهر في التعايش اليومي، وتقاسم الأعياد، والخدمات المشتركة في المدارس والمشافي والمؤسسات المجتمعية. لكن الخوف من تفاقم حالات الاستثناء والتمييز، يجعل من الهجرة خيارًا دفاعيًا بالنسبة لكثيرين، وليس مجرد طموح اقتصادي أو فردي. إنّ هذه الهشاشة المزدوجة تعكس تعقيدات الهوّية في فلسطين، حيث تتقاطع العوامل الدّينية بالسياسية والاجتماعية، لتُنتج واقعًا هشًا محفوفًا بالتحدّيات. وإذا لم تُواجه هذه التحدّيات بخطاب وطني شامل يرسّخ العدالة والتعدّدية، فإن خطر تآكل هذا المكوّن الأصيل سيستمر في التنامي، ويفقد المجتمع الفلسطيني جزءًا مهمًا من تنوعه الثقافي والدّيني. الخلاصة تكشف أوضاع المسيحيين الفلسطينيين في الأرض المقدّسة عن واقع معقد يتسم بالتراجع الديموغرافي، والتهميش الاجتماعي والسياسي، والانقسام الدّيني الداخلي. فقد دفعتهم عوامل مثل الهجرة، والضغوط الاقتصادية، والعنف المتصاعد ضدهم، إلى الانسحاب التدريجي من مشهد هم أصلًا جزءٌ تأسيسي منه. وفي خضم هذا التراجع، لا يتم الاعتراف بهؤلاء المسيحيين الأصليين في كثير من السرديات السياسية والدّينية السائدة، إذ تُختزل هويتهم أو تُشوّه، حتى باتت كلمة "مسيحي" في بعض السياقات مرادفة للأجنبي، لا لابن الأرض. هذا في حين أن المسيحيين الفلسطينيين هم الامتداد الحيّ لتاريخ المسيحية نفسه، أحفاد الجليل والسيد المسيح والرهبان الأوائل الذين عاشوا وبشّروا في هذه الأرض. ليس تآكل الوجود المسيحي الفلسطيني مجرد مأساة محلية، بل هو خسارة للهوّية المسيحية العالمية. إن غياب هؤلاء المسيحيين من الأرض التي شهدت ميلاد الإيمان المسيحي يقطع صلة حيّة وفريدة بين الماضي والحاضر. الحفاظ على هذا الوجود لا يتطلب فقط تدخلًا سياسيًا أو دعمًا إنسانيًا، بل يفترض اعترافًا حقيقيًا بدورهم التاريخي والروحي، وتصحيحًا للسرديات التي تُقصيهم أو تهمّشهم. كما تزداد الحاجة إلى توحيد الصفوف الكنسية، والانفتاح على المبادرات التي تعزز صمودهم، حتى يبقى المسيحي الفلسطيني شاهداً حيًا لا منسيًا، في قلب الأرض المقدّسة.
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
التلقين الدّيني المبكّر: بين قدسية العقيدة وحقوق الطفل الفكر
...
المزيد.....
-
هكذا تخطط أكبر شركة طيران في أوروبا لحل مشكلة الأمتعة الزائد
...
-
جزيرة -مسكونة- في البندقية ستصبح ملاذًا حصريًا للسكان المحلي
...
-
بحضور فيروز، محبو زياد الرحباني يودعونه من بيروت إلى مثواه ا
...
-
بريطانيا -تضغط على ترامب لإنهاء المعاناة في غزة-، و14 وفاة ج
...
-
-شيعة تونس- - جدل في الداخل ومخاوف من الخارج؟
-
إسرائيل تؤكد -توزيع- حمولة 120 شاحنة مساعدات في غزة
-
غابات الأمازون: المعركة الصامتة
-
الاتفاق التجاري مع واشنطن: خفض الرسوم الجمركية مقابل صفقات و
...
-
شركات الذكاء الاصطناعي الصينية تتحد معا لمواجهة قيود الولايا
...
-
عاجل | الجزيرة تعرض بعد قليل مشاهد حصلت عليها لكمين خان يونس
...
المزيد.....
-
السيرة النبوية لابن كثير (دراسة نقدية)
/ رحيم فرحان صدام
-
كتاب تاريخ النوبة الاقتصادي - الاجتماعي
/ تاج السر عثمان
-
كتاب الواجبات عند الرواقي شيشرون
/ زهير الخويلدي
-
كتاب لمحات من تاريخ مملكة الفونج الاجتماعي
/ تاج السر عثمان
-
كتاب تاريخ سلطنة دارفور الاجتماعي
/ تاج السر عثمان
-
برنارد شو بين الدعاية الإسلامية والحقائق التاريخية
/ رحيم فرحان صدام
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
المزيد.....
|