طه قاسم الملاحي
الحوار المتمدن-العدد: 8413 - 2025 / 7 / 24 - 15:22
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
كان الإله وحيدًا يشعر بالملل، يتفحّص أرجاء الكون من عرشه الأبدي. كل شيء يسير وفق المخطط: كواكب تدور بانضباط فلكي، نجوم تنتحر بصمت، وثقوب سوداء تبتلع كل شيء بدون أنين... لكنه لم يكن راضيًا.
الإله يحب اللون الأحمر، ولم يجد ما يروي نهمه إلا نظرة يومية عابرة إلى كوكب المريخ. وفي ذات يوم أدار التليسكوب الإلهي نحو كوكب أزرق مجاور. لم يُغره لونه، لكنه استوقفه شيء غريب.
كانت الساعة الثانية عشرة ظهرًا بتوقيت الصحراء، أدار التلسكوب شمالًا فرأى قبيلة بدوية تسكن أورشاليم، تعيش بسلام، ترعى أغنامها وتختبئ من الشمس عند الظهيرة. راقبهم الإله يومًا بعد يوم، الى أن رأى رجلا يذبح شاة ليطعم بها اولاده، فتهلل وجه الإله. ها هو الدم! وجد أخيرًا ما قد يسلّيه: مشروع دموي صغير.
المشروع الأول: شعب الله المختار
دعا الإله وجهاء القبيلة ورسم لهم بعصاه على الرمال خريطة: "هذه أرضكم الموعودة". وعندما سألوه: "وماذا عن القبائل المجاورة التي نعيش معها بسلام؟"، أجاب: "إن لم تقتلوا جيرانكم، سأنقل المشروع إلى قبيلة أخرى!"
رضخ الوجهاء، وبدأ الغزو. كلما انتصروا، نسب الفضل لنفسه، وكلما خسروا، وبّخهم على ضعف إيمانهم وتقصيرهم .
ومع الوقت، أنشأ مجلس إدارة ذا طابع عائلي من الكهنة والأنبياء ، وأغرق الشعب في طقوسٍ دموية، من الرجم والجلد والحرق وتقطيع الايدي والارجل وذبح القرابين وحرق شحومها له لأنه كما اخبرهم سرا أنه يحب رائحة الشواء. ومع ذلك، لم تحقق القبيلة "الأرباح الدموية" المرجوة. بدأ المشروع بالانحدار. وسئم الإله من فشلهم. فاتخذ قرارًا مصيريًا...
المشروع الثاني: الإبن المتمرّد
قرر الإله إرسال ابنه الوحيد ليتولى الإدارة. لم يُقِل الإداة السابقة، ولم يقدّم خطاب تكليف رسمي، حاول الابن أن يثبت أنه الوريث الشرعي، لكن الإدارة القديمة أنكرت نسبه: "الإله عقيم!" واتهموه بأنه ابن غير شرعي.
الابن، بشبابه وحنكته، أعاد صياغة المشروع، عدّل القوانين، غيّر مواد الدستور، ودعا إلى المحبة والرحمة. شعر الإله بالمؤامرة، فدبّر مع السلطات الرومانية والإدارة السابقة مؤامرةً لاغتياله.
قُتل الابن، وترك وراءه تلاميذَ حيارى، لا يملكون خطة واضحة، فانقسموا: بعضهم تمسّك بالتعاليم الجديدة، وبعضهم أعاد تدوير قوانين المشروع الأول.
انتشر المشروع الثاني بجهود التلاميذ وبدون تدخل الإله: فُتحت فروع في روما، اليونان، أثيوبيا، والشرق الاوسط. الإله يراقب من بعيد. أعجبه توسع السوق ، لكن المؤشر الدموي كان متدنّيًا. حقق المشروع أرباحًا هائلة من العبيد والأموال، لكن البورصة الإلهية كانت تبحث عن الدم.
فعاد للتحالف مع الكهنة: منحهم حق غفران الخطايا مقابل أن يحرضوا الملوك على الغزو باسمه، وألا ينسوا حصته من القرابين.
المشروع الثالث: المدير الصحراوي
حين بدأ المشروع الثاني يفقد حرارته، اتجه الإله صوب الصحراء. وفي هذه المرة عين مديرا من البسطاء، لا يحمل نسبًا نبويًا ولا مؤهلات لاهوتية. وقف المدير حائرا في البداية، فاستشار رجلًا متقاعدًا كان قد خدم في المشروع الأول ،فأكد له أن الإله قد اختاره لإدارة مشروع دموي جديد، وكعادة الإله لا تكليف خطي ولا إقالة للإدارات السابقة،
رفضت القبيلة الصحراوية هذا التكليف بحجة أن الإله لم يزر الصحراء من قبل
وبعد ثلاثة عشر عامًا من المحاولة والتأمل والرفض والنبذ، فكر المدير الصحراوي بالاستقالة مرات ومرات أخرى بالانتحار ، هنا قرر الإله التدخل، أمره بالهجرةالى قبيلة أخرى، وهناك، سلّمه الخطة مكتوبة على جلد ماعز: خطة قتال شاملة، فيها كل التفاصيل: اغزُ، اقتل، اسبِ، ارجم، أقطع، لا ترحم. حتى الإدارتين السابقتين أصبح من الواجب قتال أتباعهما.
نفذ المدير الخطة بدقة مدهشة: ثمانون غزوة في عقدٍ واحد، آلاف القتلى، إبادة قرى، رجم نساء، تقطيع أوصال، جلد ،سبي، اغتصاب، وبيع بشر، ابتسم الإله أخيرًا: هذا هو المشروع الذي طالما حلم به.
قبل أن يموت، أخذ المدير وعدًا من الإله: لا مشاريع جديدة. مقابل هذا، سيضمن استمرار النزيف. كتبوا العهد الأخير، ووقّعوه بالدم، وأمر المدير أتباعه ألا يتوقفوا، لأن توقف الدم يعني غضب الإله، وقد يُنقل المشروع إلى قبيلة أخرى.
حفظ المسلمون العهد، ودرسوا الخطة جيدًا، ونفّذوها كما وردت. قتلوا من لا يشبههم، وبدأوا يقتتلون فيما بينهم. وحتى اليوم... لم يتوقف الدم.
لم يظهر الإله مجددا في الشرق الاوسط ، لم يفكر بمشروع جديد، ولم يعيّن خليفة للمدير الصحراوي. وهذا، على الأرجح، دليل رضاه. فكل شيء يسير كما يجب: القتل لا ينقطع، والناس تُذبح باسمه، والسماء ساكنة، تراقب بابتسامة.
وهكذا هي مشاريع الإله من مشروع إلى آخر، كان الدم هو العملة. من ذبيحة إلى تفجير، من خشبة الصلب إلى حزام ناسف، ظلّ الإله يتغذى على الطاعة والخوف.
المشروع الرابع: الإنسان
في زاوية أخرى من العالم، بعيدًا عن الصحارى والأنبياء، كان شيءٌ آخر يتكوّن لا وحي، ولا ألواح، ولا أصوات في الكهوف. بل عقول تعمل، ونفوس تتألم، وضمائر تبحث عن معنى.
بعد آلاف السنين من المجازر باسم الإله، بدأ بعض البشر في الحلم بمشروع لا يحتاج إلى دم أو قرابين
كان ميلادًا بطيئًا، من رحم العصور المظلمة خرجت شرارات العلم والفلسفة، جيوناردو برونو ، غاليلو ، ابن رشد، داروين ديكارت، روسو، فولتير، كانت، نيتشه، وماركس. كل منهم أزاح حجرًا من بناء الهيكل الدموي. أحس الإله بالخطر شكل محكمة مستعجلة ، وحكمت بإعدامهم بعضهم وحرق آخرين ولم تغفل عن حرق منتوجهم الفكري والعلمي،
وفي عام 1789، اشتعلت باريس. خرج الناس يهتفون: لا تاج، لا صليب، لا دم. فقط الإنسان.
ارتبك الإله. اجتمع بالكهنة في نوتردام، وأمرهم بقمع الثورة. لكن الشعب لم يعد يُخيفه الغضب الإلهي. حاصر الثوار الآلهة، أنزلوهم من السماء إلى قاعة محكمة، ووجّهوا لها تهمة: التحريض على القتل.
حاول الإله الاعتذار، لكن العالم كان قد تغيّر. لم يكن هناك مكانٌ في الدستور للآلهة. وأُعدِم الإله... لا برصاصة، بل بفكرة.
وفي 1948، اجتمعت أمم الأرض المتعبة، وأعلنت ميلاد شيء لم تكتبه السماء: الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. بلا نبي، بلا معجزة، بلا عذاب. فقط بشر، يقولون: لا مزيد من الدم.
في الشرق الأوسط، حيث الرمل لا يزال يتذكر الدم، لم تصلهم أخبار الوفاة بعد. ما زال الناس هناك يعتقدون أن الإله حيّ، ويحتاج إلى مزيد من الدم والقرابين. ما زالوا يبنون له بيوتًا ويتقاتلون على ادارتها ما زالوا يحكمون بدساتير الدم، ويحلمون بخلافة تملأ الأرض جثثًا.
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟