هنري كافنديش: فيلسوفُ الدقّة ووَزّانُ الأرض: العالم الذي وزن الكوكب في صمت.

رُقَية مُحَمد

الحوار المتمدن-العدد: 8404 - 2025 / 7 / 15 - 10:00
المحور: سيرة ذاتية
    

«أحيانًا تكون العزلة رفيقة المعرفة والصمت صوتًا للعبقرية.»

لم يكن هنري كافنديش مجرد عالم فيزيائي أو كيميائي بل روحًا تتنفس الدقة ورجلًا صاغ علاقته بالكون عبر التجربة والحساب. عاش في عصرٍ كانت فيه الفيزياء تُبنى على الحواس والتجارب الملموسة فكان من القلائل الذين أعادوا تعريف الظواهر بالمنهج الرياضي والتحليل التجريبي.

نشأته وتعليمه

وُلد هنري كافنديش في 10 أكتوبر 1731 في نيس بفرنسا لعائلة أرستقراطية بريطانية. والده اللورد تشارلز كافنديش كان رجلًا ذا اهتمام علمي وقد تولّى رعايته بعد وفاة والدته المبكرة. التحق هنري بأكاديمية هاكني ثم بجامعة كامبريدج (كلية بيترهاوس) عام 1749 لكنه لم يحصل على شهادة جامعية وهو أمر لم يكن غريبًا في ذلك الزمن.

غادر الجامعة بعد ثلاث سنوات فقط وبدأ مسيرته العلمية بشكل مستقل. امتلك مختبرًا خاصًا وأجرى فيه تجاربه دون انقطاع. انضم للجمعية الملكية البريطانية سنة 1760 ليصبح واحدًا من أعضائها البارزين حيث قدّم أبحاثًا غيرت مسار الفهم العلمي لعدة قرون.

منهجه العلمي وشخصيته

امتاز كافنديش بشخصية انطوائية متحفظة إلى أقصى الحدود يتجنب الاجتماعات الاجتماعية ويفضل العزلة. لم يكن له علاقاتٌ شخصيةٌ عميقةٌ خارج نطاق عائلته وكان يرتدي دائمًا بدلةً تقليدية تزيد من عزلته وجموده الاجتماعي. حتى إن كثيرًا من إنجازاته ظلّت طي الكتمان طوال حياته. لم يكن يكتب بغرض الشهرة أو الاعتراف بل من أجل فهمٍ خالص للعالم من حوله. كانت ملاحظاته دقيقة وحساباته حادة وأسلوبه التجريبي صارمًا. نادرًا ما تحدّث إلى أحد ونادرًا ما اقترب منه أحد حتى أن خدمه كانوا يتلقون تعليماتهم منه كتابة.

ورغم طبيعته المنعزلة إلا أن أثره العلمي كان مدويًا. اكتشف أن الماء مركب من غازين (الهيدروجين والأوكسجين) واستطاع تحديد تكوين الهواء وميّز بين “الهواء الثابت” (ثاني أكسيد الكربون) و”الهواء القابل للاشتعال” (الهيدروجين) وهي مفاهيم لم تكن معروفة بعد في عصره وقد كانت تمثل نقلة نوعية في فهم تركيب الهواء.

تجربة وزن الأرض: تجربة كافنديش

في عام 1797 أجرى كافنديش تجربته الشهيرة لقياس كثافة الأرض باستخدام جهاز التوائي دقيق يُعرف باسم “ميزان الالتواء” (torsion balance) صمّمه العالم جون ميشيل. كانت هذه أول محاولة ناجحة لقياس قوة الجاذبية بين كتلتين في المختبر ومن خلالها تمكن من حساب “كثافة الأرض” والتي تعني ضمنيًا حساب الكتلة الكلية لكوكب الأرض.

وقد وصف كافنديش تجربته في جملة بسيطة لكنها عظيمة:
“أنا لا أقيس الجاذبية، أنا أزن الأرض.”

تجربته لم تكن فقط لحظة علمية لامعة، بل كانت إعلانًا صامتًا عن ولادة علم الجاذبية التجريبية وبقيت أساسًا للعديد من الحسابات الفلكية والجيوديسية حتى اليوم.

دراساته في الكهرباء والحرارة
وضع كافنديش نظرياتٍ في الكهرباء حيث افترض وجود سائلٍ كهربائيٍ يمارس ضغطًا. كما تناول مشكلة طبيعة الحرارة موضحًا أنها نتيجة لحركة المادة مما ساهم في تطوير نظرية الحرارة الميكانيكية.
كما وضع صيغة كمية للعلاقة بين الشحنات الكهربائية، والتي عُرفت لاحقًا بمبدأ كافنديش ومهّد بذلك الطريق أمام النظرية الكهربائية الحديثة.

وفاته وإرثه العلمي

توفي هنري كافنديش في 24 فبراير 1810 عن عمرٍ ناهز الثامنة والسبعين. مات كما عاش بهدوء دون ضجة، وترك خلفه تركة علمية ضخمة كثيرٌ منها لم يُنشر إلا بعد وفاته. كان من بين من اكتشفوا قيمة إرثه الحقيقي الفيزيائي جيمس كليرك ماكسويل الذي نشر العديد من أبحاث كافنديش بعد أن وجدها محفوظة بعناية في دفاتره.

هنري كافنديش لم يكن عالمًا تقليديًا بل كان عقلًا رياضيًا خالصًا رجلًا بلغ به حبّ الدقة حدًّا غريبًا حتى قيل إنه كان يقيس درجة حرارة الماء الذي يشربه. عزلته لم تكن ضعفًا بل كانت وسيلته للتركيز المطلق ومن خلالها توصّل إلى نتائج سبقت عصره بعقود ورغم قلة ما نشره فإن تأثير كافنديش في العلوم كان عميقًا. تجاربه الدقيقة وأدواته المعدّلة بعناية بالإضافة إلى نظرياته جعلته أحد أعظم العلماء في عصره.

إن إرث كافنديش لا يُقاس بعدد الجوائز أو شهرة اسمه بل بمدى عمق أفكاره وأصالتها وبالثورة الصامتة التي قادها داخل مختبره الخاص بعيدًا عن الأضواء. وبفضله وُضعت اللبنات الأولى لمفاهيم علمية عظيمة في الكيمياء والفيزياء بقيت حيّة حتى يومنا هذا.

الخاتمة

هنري كافنديش العالم الذي تحدثت تجاربه بصوتٍ أعلى من كلماته ترك إرثًا علميًا لا يُقدّر بثمن في صمته كان هناك علمٌ، وفي عزلته وُلدت اكتشافاتٌ غيّرت فهمنا للعالم.

---

ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages

---

الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل