أحمد زغلول شلاطة
الحوار المتمدن-العدد: 8396 - 2025 / 7 / 7 - 22:59
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
على مَدار عُقود من حُضور الظاهرة الحركية الاسلامية بتنظيماتها المُختلفة تم ترسيخ العديد من أسانيدها المركزية سياسيا وفكريا، محليّا وإقيلميّا، بحيث حدث تماهي في الوعي المسلم بأن تلك التصورات هي صحيح الإسلام.حيث رسخت مُختلف الاشتباكات التي اتيحت لهم في المجال العام لممارساتهم الاحتكارية للدين الأمر الذي أنتج ازمات مُختلفة في مجتمعاتها لحقت بتلك التيّارات وتَنظيماتها قبل وبعد 2011. لتَظل الحاجة ماسة للتّفكير في المُستقبل وبناء الوعي المُسلم بصورة تَجعله قادرًا على عَدم الخضوع لمثلها مُستقبلاـ وفي ظل هذا السّياق يبرز خلال العقد الأخير اسم الشيخ عبدالله بن بيه (1935- ) كأحد أبرز العلماء المعاصرين الذين استطاعوا بصورة لافتة بلورة مَشروع تَجديدي مُتراكم المُستويات ينبثق من خَلفية معرفيّة شرعيّة، تنبثق بصورة مركزية من دعوته لتجديد علم أصول الفقه ومن ثم تصحيح المفاهيم التي يتم استخدامها في تأطيرات التطرف.ما جعله واحدًا من أكثر 50 شخصية إسلامية تأثيرا في العالم للأعوام 2009- 2016وفقا لجامعة جورج تاون الأمريكية..
لماذا تجديد أصول الفقه؟
تستند أُطروحات الفقيه "عبد الله بن بيه" في مشورعه لتجديد الخطاب الديني إلى دعوته المركزية لتجديد علم أصول الفقه. وفقا لكتابه"إثارات تجديدية في حقول الأصول، 2013) فإن ذلك "يمكن أن يُسهم في تأصيل التجديد العظيم في حياة الأمة الإسلامية الباحثة منذ قرون عن الطريق المثلى لاستئناف المسيرة الكبرى للأمة الإسلامية في أوج تألقها وعطائها على امتداد القرون( 1).
يُعرّف "بن بيه" التّجديد على أنه" تحريك المفاهيم التي تُشكل المنظومة الأصولية، وتُمثل الصّورة المُحددة لها لإبداع مفهوم جديد، أو إدراج مضمون حديث في مفهوم قديم في قراءة جديدة للأصول؛ قواعد ومقاصد وعلاقتها بالجزئيات الفقهية على ضوء مستجدات العصر"(2 ). ويُرجع سبب "حاجة الأمة إلى مُجددين لحاجتها إلى؛ تجديد الإيمان ، وتقديم فقه للعصر، ولحُكام يَقومون بإصلاح أمة في حالة فساد واختلال، وللحاجة إلي نظام يردع السّفهاء، ويُسن وَسائل الزجر لإيقاف الإخلال بالأمن(3 ). كما يذهب إلى "أن يكون التجديد في الشريعة في هذا العصر -عصر المؤسسات- جماعياً تتضامن فيه مختلف الخبرات والتخصصات؛ ليكون مرآة لسمات العصر وعاكساً لتحولات العالم، ويشترك فيه الخبراء إلى جانب الفقهاء في شتى المجالات المستهدفة"( 4).
السبب الذي يدفع “بن بيه” لدعوته تلك يتعلق بعدم قيام علم أصول الفقه الآن بوظيفته والتي حددها في كل من(5 ):
• الوساطة الصحيحة بين المبادئ والقواعد والنصوص والمقاصد وبين الواقع والمتوقع في حياة الناس لتحقيق المصالح.
• قديم التصور السليم الجدير بحقيقة الإسلام الجالب للمصالح الدارئ للمفاسد.
يأتي ذلك في ظل ما يعكسه الواقع من "عجز في التّواصل بين الواقع وبين الأحكام، وأحيانا إلى عدم الانضباط في الاستنتاج والاستنباط"( 6).
نحو تصحيح المفاهيم
وفق رؤية “بن بيه” فإن "قراءة النصوص الشرعية والاستنباط منها هي المعضلة وهي الحل"( 7)، لذلك يحرص على الدفع نحو تجديد الخطاب الديني عبر "إعادته إلى أصوله، وإعادة تركيب المفاهيم الحقيقية الصّحيحة لغة وعقلاً ومصلحة، ومُقاربة إعادة برمجة العقول من خلال منهجية جديدة في صياغتها، قديمة في جذورها، وبإنتاج خطاب جديد في مضامينه الزمنية، قديم في ثوابته الأزلية"(8 ). وفي إطار العمل على الجانب لتطبيقي لدعوة التجديد اهتم"بين بيه" بالنظر إلى المَفاهيم وبيان سُبل تعريفها كمدخل للتّجديد، حيث يرى أن(9 ) "مَسألة صُنع الأداة التي هي هُنا القاعدة أو المفهوم أو الكلي، هو أهم وسيلة لإنتاج فِكر أو إصدار حُكم في قضايا الواقع وفروع الشرع والقانون"، كما يؤكد أن "بؤرة التجديد تكون في صنع هذه المفاهيم صياغة مستقلة مبتكرة أو مراجعة المفاهيم المعتمدة في العلم المُستهدف، وهو هنا “علم الأصول والفروع " وما يتولد عنه من الأحكام، لتهذيبها وتشذيبها". وأشار إلى أن صياغة هذه المفاهيم تتم عبر "مُراجعة المدلول اللغوي والشرعي، وكذلك المقاصد والعلل المولدة للأحكام، والواقع والبيئة التي هي مجال التنزيل".
يأتي اشتباك "بن بيه" مع ظاهرة التطرف الديني عبر مفاهيمها المركزية التي تُغذي بتفسيراتها المقدمة حالة التطرف حيث يُقدم صورة مُغايرة لتلك المفاهيم التي تُعيق من تجديد الخطاب الإسلامي. ويرى أنها في الأصل مفاهيم لخدمة السلم تم تحويلها إلى ضده، نتيجة كثافة خطابات الحركيين وأطروحاتهم التي أصبحت بمثابة الأصل على غير الحقيقة. ويُرجع “بن بيه” أسباب ذلك: إلى كل من(10 ):
• فك الارتباط بين خطاب التكليف وخطاب الوضع.
• غموض العلاقة بين الوسائل والمقاصد.
• ضمور القيم الأربعة التي تقوم عليها الشريعة، وهي: الحكمة والعدل والرحمة والمصلحة.
ومن أبرز تلك المَفاهيم التي قدمت تأويلاتها الفَاسدة صُورة مُغايرة لجوهر الدّين وقِيمه (11 )؛
أ- الجهاد بنوعيه الداخلي والخارجي: فالجهاد ليس مرادفاً للقتال، ولكن بينهما نسبة العموم والخصوص، أي عموم من وجه، وخصوص من وجه. فليس كل جهاد قتالاً وليس كل قتالٍ جهاداً ، فمفهوم الجهاد في الأصل كان من أجل السلم والرحمة.
ب- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: ويراه مبدأ من مباديء نشر السلم في المجتمع المسلم حيث يعتمد على ضمائر الناس وتعاونهم وتضامنهم، لحفظ النّظام العام. ويذهب “ابن بيه” إلى أنّ الأمر مَتروك للإمام وليس لعُموم الأفراد، مُراعاة للضوابط الشرعية".
ج- تطبيق الحدود والتعزيزات الشرعية: يشير إلى أن "وجوب إقامة الحدود في الظروف الاعتيادية لا غبار عليه، والاعتراف به والإقرار يدخل في دائرة الإيمان. أما إيقاعها على الناس فيدخل في دائرة العمل، والذي يقدر ذلك هو الحاكم.
د - الديمقراطية والحداثة: يؤكد على أن "مفهوم الديمقراطية –لا يجب أن تكون ديانة ويجب التعامل معه بتحفظ، كما أن مفهوم الحداثة يحتاج لمراجعة، بحيث لا تعني التغريب والتحلل من الأخلاق، بل تعني أن نتمسك بثوابت الأصل، ونتواصل مع العصر في انسجام دون خصومة.
ه- الطاعة: ويرى أن يجب أن لا تُفهم على أنها استسلام للظلم من خلال الدعوة الى السلم، بل إنها التماس للعدل من طرق أقل ظلماً وأقرب رحماً. ويستند في ذلك إلى خمس مؤشرات هي؛ النصوص الواردة في المنع من إراقة الدماء، تعظيم حرمتها. المحافظة على الجماعة، المآلات المجهولة للفتن إذا نشبت.الأمل في إصلاح الأمور في السلم أكثر من احتمال إصلاحها بالحرب والخصومة".
و- مفهوم الولاء والبراء: وهو من المفاهيم التكفيرية الرائجة ويرى أن من يعتمدون عليه لا يكلفون أنفسهم بالمفهوم ولا قيوده ولا بنوده، ولا يجمعون بين النصوص، ولا يذكرون النصوص الداعية الى البر بالآخر، وحرفوا المفهوم الذي كان عاملاً للسلم؛ لأنه كان ولاء للدين وبالتالي فهو للوطن ليصبح طارداً وإقصائياً.
الخاتمة
في ضوء ما سبق تتبدى أزمة الفكر الديني المعاصر للمراجع الدينية في ظل حالة الجمود الغالبة على الفكر الإسلامي، وبالتالي فإن البيئة الفكرية لا تزال صالحة لاستمرار التّأويلات السّلبية المُخاصمة لصحيح الدين والعقل والعصر، وبالتالي تبقى للأفكار المتطرفة لديها القدرة على الإستمراية والتمدد من حين لآخر .
ورغم تشابك وتعقد الواقع اليومي وإشكالاته وأهمية وجود اجتهاد مؤسسي في المقام الأول بما يتيحه ذلك من بلورة للأفكار والاستفادة من مختلف التخصصات فضلا عن القدرة على نشر التأصيلات التي انتهت إليها المنظومة. إلا أن ذلك لا يحول دون أن تكون هناك اجتهادات فردية تحتاج إلى تسليط الضوء عليها ومأسستها كلما أمكن ذلك لتعظيم الاستفادة منها. فجهود الفرد مهما كانت كثيفة ومبدعة إلا أن استمرارها وتعميق تأصيلاتها لايتم بمعزل عن العمل المؤسسي، المتصل و طويل الأجل.
وهنا تمثل جهود العلامة الشيخ عبدالله بن بيه التجديدية نموذجا مهما خاصة أنها بدأت بجهود فردية قبل أن يعمل لاحقًا على مَأسستها -عبر "مُنتدى أبوظبي للسلم"- وتمثلت إضافته الرئيسة في تفكيك المفاهيم وإعادة تعريفها لأنها مدخل معرفي مُهم في تفكيك منظومة الفِكر المُتطرف. فضلا عن دورها في بناء الوعي المسلم بصورة تجعله قادرًا على عدم الخضوع لمثل تلك التّنظيمات وأفكارها مستقبلا، وهو ما يحول دون إعادة بناء تلك التنظيمات مرة أخرى.
1 - عبدالله بن الشيخ المحفوظ بن بيّه، إثارات تجديدية في حقول الأصول، (جدة: سيبويه للطباعة والنشر والتوزيع، 2013)، ص18
2- إثارات تجديدية في حقول الأصول، م س، ص15
3 -إثارات تجديدية في حقول الأصول، م س، ص 17
4- إثارات تجديدية في حقول الأصول، م س، ص 158
5- إثارات تجديدية في حقول الأصول، م س، ص23
6- إثارات تجديدية في حقول الأصول، م س، ص23
7- عبدالله بن الشيخ المحفوظ بن بيّه، السِّلم تأصيلا وممارسة واستشرافا- الملتقى الثاني، (دبي: مسار للطباعة والنشر، 2015)،ص 84
8- السِّلم تأصيلا وممارسة واستشرافا، م س،85
9- إثارات تجديدية في حقول الأصول، م س، ص153
10- عبدالله بن الشيخ المحفوظ بن بيّه، في الحاجة إلى فقه السِّلم- الملتقى الأول، (دبي: مسار للطباعة والنشر، 2015)، ص100
11- في الحاجة إلى فقه السِّلم، م س،ص 52 إلى 74 بتصرف
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟