صالح الرزوق
الحوار المتمدن-العدد: 8390 - 2025 / 7 / 1 - 23:07
المحور:
الادب والفن
تبدأ رواية “بين غربتين” لسعاد الراعي* برحلة هروب امرأة مناضلة من العراق إلى بلغاريا، ثم إلى اليمن الجنوبي، ويتبع ذلك ذكريات ومونولوجات عن سيرة حياة حسين أحمد الموسوي المعروف باسم سلام عادل، والذي أعدمه البعث بعد انقلابه الأول عام 1963.
وإذا كانت هذه المحطات وتداخلها تفيد في تحريك الأحداث والتفاصيل فهي أيضا تلقي بقعة من الضوء على عدة قضايا ملحة، أصبحت جزءا من إشكالية حركات التحرير العربية، وبالأخص التي ربطت مصيرها بالاتحاد السوفياتي. وسبق للسياب أن وجه سهام نقده اللاذع لهذا الارتباط في كتابه “كنت شيوعيا”، والذي يعتبر ردة سياسية لا يوازيها غير ردة نازك الملائكة على تحديث الشعر في كتابها “قضايا
الشعر المعاصر”.
وعلى ما يبدو أن خوف العرب من الهزيمة، ساعد على توالد حكومات عسكرية. في حين أن خوف دول المعسكر الشرقي من انتصار الحلفاء ساعد على تمكين حكومات أمنية.
وأذكر هذا الكلام لأن “بين غربتين” كانت أقرب إلى جرد حساب مع المشهد السياسي العربي. فاليسار كان محتارا بين دعم الدكتاتوريات الموالية لموسكو وبين القبول بحرية ضعيفة تتيحها لهم هياكل شبه عسكرية. وكانت النتيجة احتكار طبقة من العسكر لكل السلطات، وتغييب نصف المعارضة – الموالية (جدلا) في السجون وفرار النصف الآخر.
كانت بلغاريا حظ بطلة الرواية، ولكن منذ أول سطر يتضح أن الهروب عبارة عن تكملة لمحنة الداخل. فالمستشفى عاملها بعنصرية ص46. وقامت الممرضة بشد شعرها خلال الولادة ص47.
وكان الأطباء البلغار بواد والمرضى العرب بواد آخر ص46. وتوجد عدة إشارات تؤكد على عزلة الشيوعي العراقي وتحديد حركته وكأنه استبدل السجن السياسي بسجن إيديولوجي.
وفي هذا الظرف القاسي، كان للمحاباة والوساطة دور أيضا ص37. زد على ذلك الطبقية السياسية التي جعلت البطلة تشعر بالذل والمهانة وهي في بيتها ص30. وكأن الحزب الشيوعي لم يتعلم كلمة واحدة من ماركس عن مساوئ التمايز بين الطبقات والقوميات.
ثم جاء عقد العمل مع اليمن الجنوبي ليرفع الستار عن مأساة اليسار، وليقدم شهادة مباشرة عن التخلف وضعف الخدمات. ناهيك عن الشك والإحاطات الأمنية. هذا غير جو الرعب والخوف الذي يقيد النوايا الحسنة. وكنت أتمنى لو استغلت الكاتبة هذه الفرصة لتبين جناية التخلف على برامج التطوير. أو على الأقل لتتابع الفرق المأساوي بين التعليم الإيديولوجي – ما نسميه كلام الصحف، والتعليم المهني- والذي يبدو أنه سياسة الشركات متعددة الجنسيات (وهي البديل الوحيد عن عولمة الاقتصاد أو أممية الخدمات).
ومثلما كانت الشخصيات بعزلة – تشبه غيبوبة سريرية عن المجتمع في بلغاريا، عاشت في اليمن داخل غيتو يفصلها عن المجتمع. وفي النهاية يذهب زوج البطلة إلى كردستان ليشترك بالقتال ضد الطاغية، وسرعان ما يستشهد، ويبقى ابنه برعاية والدته ص116.
وأستطيع أن أستنتج من هذا السياق أمرين:
الأول أن اليسار العربي يتيم وهو في حضانة الأم. وكأنه لا يزال يمر بمرحلة جنينية. أو أنه ينتمي لمرحلة غابرة من التاريخ وهي المجتمع الأمومي. ومهما تعددت التفسيرات نبقى أمام حالة single parent . كما لو أنك تعيش بعين واحدة أو لك يد واحدة. وبقليل من الاستطراد تنقصك الأدوات اللازمة للاكتمال والتوازن. وهذا أقسى تشخيص سريري لأزمة اليسار. كما أنه يضع كل أطروحتنا عن صدام الحضارات على المحك. فالرحلة العلمية تفترض دائما أن الشرق مذكر والغرب مؤنث. والعكس هو الصحيح إلا إذا اعتقدنا أن الذكورة منكوبة دوما بالتخلف وشح المصادر. وربما ورثنا هذا الخطأ من أول موجة تنوير. فقد كانت الريادة للذكور فقط. عدا عن زيارة حسناوات غربيات للشرق مثل المس بيل وكاتبة رواية المغامرات أجاثا كريستي. ومؤخرا نانسي ليندسفرين وريبيكا روث غولد (المهتمة بأضرحة وبيوت رموز النهضة والتنوير).
الأمر الثاني عدم ذكر اسم الأب والأم وتحديد اسم الابن وهو مسار. أو في الحقيقة تأجيل تحديد أسماء الكبار إلى ما بعد الولادة. وكانت في صوفيا، وفي ظروف دامية، لطخت ثوبها الأبيض ببقع الدم ص51. وهذه إشارة إضافية لمحنة ومخاض اليسار – وكأنه مكتوب على أبناء الثورة أن يكونوا عشيرة من مصاصي الدماء. وتبدو الصورة أقرب إلى صراع الأجيال وليس الأنظمة. فالآباء والأصول نمط معمم، والأبناء نمط مخصص. والتجريد غير التعيين.
وفي النهاية يمكننا القول أن الحكاية بهذا الشكل أصبحت عن الماضي الأسود والمجهول، وعن المستقبل الضبابي. والضباب مثل الرماد، وهو من مخلفات احتراق بطيء للأفكار والخلفيات الاجتماعية. كما أن الرمادي، بتعريف الرواية، هو الهدوء الذي يغلف التناقضات والانفعالات المقيدة ص194. وهو كل حلم نخطط له ولكن نضطر لتأجيله ص222. عدا أنه صورة تعكس حقائق الذات من الداخل ص223.
وعلى الأغلب اختارت الكاتبة أسلوب السرد الذاتي لهذا السبب، حتى أن كل الأماكن وبقية الشخصيات كنا نراها ونشعر بها من خلال معاناتها الشخصية، بعكس أعمال أعادت النظر بتجربة اليسار العربي ومنها رواية “برلين 69” لصنع الله إبراهيم. وهي عن رحلة عمل تدعمها الدولة للتمرين في برلين. ولكنه يعود منها بجعبة فارغة وذكريات مرعبة، ومن ضمنها الانتحار واستفحال الفساد واللامبالاة. كما لو أن برلين مسرح لشخصيات بيرانديلو العبثية واللامعقولة. أو لأبطال سارتر المدمنين والذين فقدوا الإيمان حتى بأنفسهم. وكعادته يلعب صنع الله بالرموز ويعلق بطلة الرواية على مروحة سقفية في بيتها. وهكذا يتحول رمز الحركة والدوران إلى أداة ساكنة تعبر عن الجمود ثم العدم، ولكن أسجل للكاتبة أنها أنهت حياة الزوج بعمل بطولي ولم تفضل أن يشنق نفسه كما فعلت البطلة الألمانية. مع ذلك يبقى الكابوس نفسه لأن خسارة الأب تترك المجال مفتوحا لانتقام أوديبي دموي في رواية “بين غربتين”، في حين أن قتل الأم -وهي الحبيبة وموضع الرغبة في رواية “برلين” - يترك الأب بمواجهة مفتوحة مع ابنه المفجوع والحزين. وهو ما يفسر أيضا اختلاف النهايات- سقوط الدكتاتور العسكري في العراق بالغزو، وسقوط الدكتاتور الأمني في ألمانيا الشرقية بما أسميه الإخلاء- أقصد انسحاب القوات الروسية. وما تم بعمل عسكري يحتاج لسيناريو مختلف عما تم بترتيبات أمنية.
ونستفيد من ذلك أن اللغة المشروطة في “بين غربتين” -وقبلها في “مثلث الدائرة” لسعدي يوسف الذي لقب نفسه بالشيوعي الأخير- واللغة الديالوجية ومتعددة الأصوات في “برلين” -وبعدها في “هنا القاهرة” لإبراهيم عبد المجيد تضع فن الرواية أمام امتحان قدراته على تغطية التفاصيل الأساسية في التاريخ. فالموت بلغة عالية يناسبه وجدان أمومي، بينما الموت بلغة عدمية وغير اقتصادية يحول الحياة لجرح مفتوح وثقب أسود غامض يناسبه وجدان ذكوري قليل الصبر.
*صدرت الرواية عام 2025 بطبعة أولى في ألمانيا وبواقع 229ص.
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟