نور طالب ناظم
الحوار المتمدن-العدد: 8389 - 2025 / 6 / 30 - 14:13
المحور:
دراسات وابحاث قانونية
المقدمة :
نور طالب ناظم - مسار طالب ناظم
يقول هيراقليطس، أحد فلاسفة اليونان الكبار: “كل شيءٍ يجري، فأنت لا تنزل في النهر ذاته مرتين”. وهذا القول صحيح؛ فإذا أمعنّا النظر في هذه المقولة الفلسفية، نجد أنها تعبير تحليلي دقيق لماهية الظواهر الاجتماعية عبر التاريخ. ذلك أن السمة الجوهرية للواقع، بمختلف تفاصيله، هي الحركة الدائمة التي تؤدي دورها في التغيّر المستمر؛ وبالتالي، ليس هناك ظاهرة ساكنة ذات مفهوم مطلق، فكل شيء يخضع للحركة التي يصنعها التناقض بين الإيجاب والسلب.وهذا ما نلمسه عند دراسة مفهوم الملكية الخاصة وتأثيرها في التشريعات القانونية المدنية بشكل عام؛ إذ نجد أن للملكية الخاصة دورًا مفصليًا وحاسمًا عند تناول نشوء القوانين المدنية وتطورها، فهما يتفرعان بشكلٍ تكاملي، ولا يمكن فهم أحدهما بمعزلٍ عن الآخر.نستطيع أن نقول: إنها علاقة جدلية، كلٌّ منهما يُنتج الآخر ويُعيد تشكيله.
وإذا عدنا إلى دراسة تاريخ المجتمعات القديمة، فسنلاحظ أن القوانين المدنية لم تظهر في المجتمع البشري إلا بانبثاق الملكية الخاصة وظهور المجتمع الطبقي، إذ لا يمكن للقوانين المدنية أن توجد دون وجود أساسٍ مادي يُفرز مصالح طبقية محددة، تحكمها علاقات إنتاج قائمة على نمط معين من الملكية الخاصة.
وفي ضوء هذا التحديد، كآلية لنشوء القوانين المدنية وتطورها في التاريخ، يمكن القول إن فكرة القانون، والحقوق، والواجبات، والالتزامات، قد نمت وتطوّرت بظهور الدولة بوصفها مؤسسةً طبقيةً تعلو على المجتمع.لذا، سيكون من الضروري أولًا دراسة تعريف الملكية الخاصة وخصائصها وضرورتها، ثم تتبّع المسار التاريخي لنشوء الملكية الخاصة وتطورها، وأثر ذلك في نشوء القوانين المدنية وتطور بنيتها.
المبحث الأول
ماهية الملكية الخاصة
قبل الخوض في تعريف حقّ الملكية، يبدو من الضروري أولًا التطرّق إلى مفهوم الحق نفسه، بوصفه الأساس النظري الذي تُبنى عليه مختلف الحقوق القانونية، ومنها حقّ الملكية. وقد عرّفت المادة (88) من مشروع القانون المدني العراقي الحقّ بأنه:“ميزة يمنحها القانون ويحميها لتحقيق مصلحة اجتماعية”¹.
هذا التعريف، وإن بدا في ظاهره قانونيًا صرفًا، فإنه يُحيلنا إلى حقيقة أعمق: أن الحق لا يوجد في فراغ، وإنما يولد ويُكتسب داخل إطار اجتماعي محدد تنظّمه الدولة ويشرّعه القانون. ففي ضوء هذا التحديد، يتبيّن لنا أن الحقّ والقانون وجهان لعملة واحدة؛ إذ لا يمكن تصوّر وجود حقّ خارج السلطة المنظمة له، ولا وجود لجزاء يُعطيه فعاليته دون تدخل الدولة.
وإذا سلّمنا بأن الملكية الخاصة تمثّل أحد أبرز صور الحقوق العينية، فإنها بذلك تستند إلى إرادة الدولة وقانونها في ضبط التملك وتنظيم التصرف. وبهذا المعنى، لا تكون الملكية الخاصة مجرد علاقة بين الفرد والشيء، بل علاقة اجتماعية يُنظّمها القانون وتخدم بنية إنتاجية محددة، مما يمنحها طابعًا تاريخيًا وجدليًا متحولًا.
إذًا، لا يمكن فهم الملكية الخاصة باعتبارها “حقًّا طبيعيًا” كما في الفلسفات الليبرالية، بل باعتبارها نتاجًا تاريخيًا ونتيجة لتطور البنية الاجتماعية والاقتصادية، نشأت حين ظهرت الحاجة لتنظيم التملك الخاص في إطار من علاقات الإنتاج الطبقية، وذلك عبر أدوات الدولة وتشريعاتها.
وعليه، سينقسم هذا المبحث إلى أربعة مطالب أساسية، وفق الآتي:
• المطلب الأول: تعريف حقّ الملكية
• المطلب الثاني: خصائص الملكية الخاصة
• المطلب الثالث: ضرورة الملكية الخاصة
• المطلب الرابع: اشكال للملكية الخاصة
__________
الهامش:
¹ عبد الباقي البكري – زهير البشر، المدخل لدراسة القانون، شركة العاتك لصناعة الكتب، بيروت، ص 226
________
المطلب الاول : تعريف حق الملكية
بالرجوع إلى تعريف الملكية الخاصة، نجد أن القانون الروماني قد عرفها بأنها «سيادة على مال معين تجعل ذلك المال حقاً خالصاً للمالك، وتؤتيه سلطة تامة على ما يملك، وهو حق دائم ومحترم من سائر الناس»¹. كما عرّفتها المادة (544) من القانون المدني الفرنسي الصادر سنة 1804م بأنها «حق التمتع بالأشياء والتصرف فيها على أكمل وجه، بشرط عدم استخدامها بطريقة تحظرها القوانين»²
كما عرّفتها المادة (1046) من القانون المدني العراقي بقولها: «الملك التام من شأنه أن يتصرف به المالك تصرفاً كاملاً فيما يملكه عيناً ومنفعةً واستغلالاً، فينتفع بالعين المملوكة وبغلتهاوثمارها ونتاجها ويتصرف في عينها بجميع التصرفات الجائزة». ويتبين لنا من خلال هذه التعاريف أنها ذات مضمونٍ واحد، وهو أن الملكية حق يترتب على شيء مملوك يمنح مالكها سلطة التصرف من أجل استعمالها، واستعمال الغير لها، والانتفاع منها في حدود القانون.
المطلب الثاني: خصائص الملكية الخاصة
بما أن الملكية الخاصة هي حق عيني يرد على شيء، له قيمة استعمالية وتبادلية، فإن أول خصائصها كما يراها الفقه التقليدي³، أنها:
1-حق دائم: الملكية الخاصة حق دائم، ما دام محل الحق باقي عند المالك ولم ينتقل بأيٍّ من وسائل نقل الملكية. وبما أنها حق دائم، فهي لا تُحدد بوقت معين، ولا تسقط بالتقادم، ولا تنتهي بعدم الاستعمال.
2-حق الملكية حق مانع: من الخصائص الأخرى للملكية الخاصة أنها حق مانع؛ أي أنها خاصة بالمالك وحده، وبالتالي له الحقان يستاثر بها وحده دون غيره.
3-حق الملكية حق جامع: تعتبر الملكية الخاصة حقًا جامعًا، لأنها تجمع جميع سلطات المالك من استعمال واستغلال وتصرف في آنٍ واحد.
كما بيّن بعض الفقهاء⁴ خصائص الملك التام، فيما يلي:
1-أن يملك مالكًا ملكًا تامًا حقّ التصرّف في العين ومنافعها بكلّ التصرفات السائغة شرعًا من بيعٍ وهبةٍ وإعارةٍ ووصيّة.
2-له حق الانتفاع غير مقيّد بوجهٍ من وجوه الانتفاع، ولا بزمنٍ، ولا بحالٍ، ولا بحال ولا بمكان.
3-لا يقبل الملك التام التقييد بالزمان ولا بالشروط، ولا ينتهي إلا بالانتقال لغيره بتصرف شرعي ناقل للملك، أو بالميراث أو في تلك الوقائع الواقعة عليها الملك.
4-إذا أتلف المالك ملكًا تامًا، فإن المملوكة له لا يضمن مثلها ولا قيمتها، لأنه لا فائدة من هذا الضمان؛ إذ إنه أضمن يضمن نفسه.
المطلب الثالث: ضرورة الملكية الخاصة
الملكية الخاصة لعبت دورًا حاسمًا في تشكيل المجتمع الطبقي، ومن خلالها أوجد التمايز بين البشر، وكرّسته قانونيًا، فأصبحت حقًّا طبيعيًا تحصّنه الدولة⁵. بالتالي، نصل الى استنتاجٍ قانوني، وهو أن تقدّم المجتمع البشري مبنيٌّ على أساس تغيّر أشكال الملكية الخاصة داخل البنية الاجتماعية، عبر التاريخ، والذي بدوره يؤثر على تغيّر التشريعات القانونية المدنية في كل حقبة زمنية جديدة.
وهذا ما نلمسه عند دراستنا للتطور التشريعي للقوانين المدنية، منذ الإمبراطوريات القديمة إلى ظهور المجتمع البرجوازي في فرنسا.
__________
الهوامش:
1 علي الحافظ، أساس العدالة في القانون الروماني، الناشر لجنة البيان العربي.
2 The French Civil Code, literally translated from the original and official edition, published at Paris, in 1804.
3 المادة (1046) من القانون المدني العراقي، لسنة 1951.
4 محمد علي عثمان، فقه المعاملات، دار المرجع، السعودية، وانظر: أبو زهرة، الملكية ونظرية العقد في الشريعة الإسلامية، دار الطباعة الجديدة، ص 85.
5 سلامة كيلة، من منظور ماركسي، العصر المادي للتاريخ، التنوير للطباعة والنشر والتوزيع – لبنان، ط1، ص 30
_____________
المطلب الرابع
أشكال الملكية الخاصة
لم تأخذ الملكية شكلاً واحدًا، بل اتخذت أشكالًا مختلفة منذ ظهورها عبر التاريخ، فهناك الملكية العبودية التي كانت سائدة في الإمبراطورية اليونانية والرومانية، والملكية الإقطاعية التي سادت في أوروبا بعد انهيار الإمبراطورية الرومانية، والملكية الرأسمالية التي ظهرت بعد انتصار الطبقة البرجوازية على الإقطاع في أوروبا¹. بالتالي، نحن أمام عملية من التطور المستمر لأشكال الملكية الخاصة، وهذا يرجع إلى طبيعة الصراعات الاجتماعية التي تخوضها قوى الإنتاج حسب شكل من أشكال الملكية، في كل حقبة، الذي يؤدي هذا إلى تطور أشكال الملكية الخاصة وتغيرها. لذا، نحن أمام حركة جدلية تاريخية – طبقية، تتطور داخلها أشكال الملكية الخاصة، فتتغير على إثرها علاقات المجتمع الاقتصادية والحقوقية والقانونية. هكذا هي العملية التطورية للملكية الخاصة، إنها عملية تفرضها القفزة البنيوية للمجتمع، وتنتج عنها تشكيـلات اجتماعية جديدة.كما أن هناك علاقة تابع ومتبوع بين شكل الملكية الخاصة والقانون المدني في كل حقبة تاريخية، حيث إن القانون المدني في كل مرحلة تاريخية كان يحمي شكلاً معيناً من الملكية الخاصة. وهذا ما نلحظه منذ ظهور المجتمع الطبقي، حيث كانت دول الشرق القديم تسن تشريعاتها القانونية المدنية بما يتناسب مع شكل الملكية المسيطرة في بنيتها الاجتماعية، ونفس الحال في الدولة الاثينية والامبراطورية الرومانية وصولاً الى ظهور المجتمع البرجوازي في فرنسا والذي تعبر قوانينه المدنية عن تطور الملكية الخاصة الى الشكل الراسمالي.
________
� الهامش:
¹ كارل ماركس، فريدريك إنجلز، الإيديولوجية الألمانية، دار دمشق، سنة 1968م، ص 261–263
#نور_طالب_ناظم (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟