ابوالقاسم قور
الحوار المتمدن-العدد: 8383 - 2025 / 6 / 24 - 20:11
المحور:
الادب والفن
الحمارُ السكران
أَهَمُّ مَا فِي الْأَمْرِ فَقَدْ ظَلَّ حِمَارُ الْخَالَةِ نِيَان خَيَان، وَالِدَةِ تَمْبَسَ الِابْنِ، يُمَارِسُ كَدَّ شَجَرَةِ الْخَشْخَاشِ مَوْقِعَ قَبْرِ الْجَدَّةِ تَرْفَانَةَ الْمُرْتَقَبِ بِصُورَةٍ رَاتِبَةٍ. فَقَدْ لَاحَظَ الْكُلُّ فِي الْأَيَّامِ الْأَخِيرَةِ ازْدِيَادَ شَهْوَةِ الْحِمَارِ وَإِفْرَاطَهُ، حَيْثُ بَاتَ لَا يُقَاوِمُ خُضْرَةَ أَشْجَارِ الْخَشْخَاشِ، بَيْدَ أَنَّهُ ظَلَّ عَلَى الدَّوَامِ وَسِيلَةَ النَّقْلِ الْوَحِيدَةَ مِنْ مَنْزِلِ أُسْرَةِ خَيَان تَمْبَسَ شِمَالَ الْمُسْتَنْقَعِ، إِلَى جَنُوبِهِ حَيْثُ يُوجَدُ كُوخُ الْجَدَّةِ تَرْفَانَةَ بِشَكْلِهِ الْأُسْطُورِيِّ الْبَاذِخِ. تَرْجِعُ أُصُولُ عَائِلَةِ تَمْبَسَ إِلَى الْكَاهِنِ خَيَان، وَهُوَ ذَاتُ الْكَاهِنِ الَّذِي تَنَبَّأَ بِنِهَايَةِ سَلْطَنَةِ بَارْفُوسِيكَ الْإِفْرِيقِيَّةِ الَّتِي وَرِثَتْ تُرَاثَ الْفَيْرُوشَانِيِّ كَمَا سَنَرَى لَاحِقًا.
فِي الْغَالِبِ الْأَعَمِّ مَا يَسِيرُ الْحِمَارُ بِصُورَةٍ رَاتِبَةٍ فِي طَرِيقِهِ مِنْ مَوْقِعِ أُسْرَةِ خَيَان تَمْبَسَ شِمَالَ الْمُسْتَنْقَعِ إِلَى مَنْزِلِ الْجَدَّةِ تَرْفَانَةَ جَنُوبًا، فَهُوَ يَحْفَظُ الطَّرِيقَ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ.. تَنْمُو زَهْرَةُ النُّونِيِّ الصَّفْرَاءُ ذَاتُ السُّوقِ الْمُمْتَدَّةِ فِي قَاعِ الْمُسْتَنْقَعِ حَيْثُ ثَمَرَةُ السِّتِيبِ.
فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بِالتَّحْدِيدِ، تَنَاوَلَ الْحِمَارُ كَمِّيَّةً كَبِيرَةً مِنَ الْجِعَةِ الْمَحَلِّيَّةِ، فَمَا أَنْ امْتَطَتْهُ الْخَالَةُ نِيَان وَمِنْ خَلْفِهَا تَمْبَسُ الِابْنُ، وَتَدَلَّتْ قَدَمَاهُمَا النَّحِيفَتَانِ عَلَى جَانِبَيْهِ حَتَّى صَارَ الْحِمَارُ يَنْهَقُ، وَيَجْرِي، وَيَرْفُسُ بِأَرْجُلِهِ الْخَلْفِيَّةِ بِصُورَةٍ غَيْرِ مَعْهُودَةٍ. بِالطَّبْعِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ أَمْرًا مَعْهُودًا لَدَى هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْحُمُرِ الَّتِي اشْتُهِرَتْ بِغَبَائِهَا، وَهُدُوئِهَا، فَهِيَ فِي الْغَالِبِ الْأَعَمِّ لَا تَكْتَرِثُ لِمَا يَدُورُ مِنْ حَوْلِهَا مِنْ أَفْعَالٍ وَأَحْدَاثٍ. كَانَ مِنَ الْمُتَوَقَّعِ أَنْ يَسِيرَ الْحِمَارُ مُبَاشَرَةً نَحْوَ كُوخِ الْجَدَّةِ عِنْدَ الطَّرَفِ الْجَنُوبِيِّ لِلْمُسْتَنْقَعِ، وَهِيَ الطَّرِيقَةُ الْمَعْهُودَةُ، إِذْ فِي الْغَالِبِ مَا يَعْبُرُ الْحِمَارُ الْمُسْتَنْقَعَ فَتَفِرُّ الطُّيُورُ عِنْدَ الطَّرَفِ الْآخَرِ، فَيَبِينُ سَطْحُ الْمُسْتَنْقَعِ بِمُحَاذَاةِ تِلْكَ النَّبَاتَاتِ الْعُشْبِيَّةِ، بَيْنَمَا يَلْصَقُ صَفْقُ شَجَرِ أُمِّ قَاتُو عَلَى بَطْنِ الْحِمَارِ، لِيَنْفُضَ أُذُنَيْهِ كَسَبَّاحٍ مَاهِرٍ عِنْدَ بُلُوغِهِ الطَّرَفَ الْجَنُوبِيَّ لِلْمُسْتَنْقَعِ.
فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الْخَمِيلِ لَمْ يَتَّجِهْ الْحِمَارُ جَنُوبًا نَحْوَ الْمُسْتَنْقَعِ كَمَا هُوَ مَعْهُودٌ مِنْ قَبْلُ، بَلْ أَفْرَدَ أُذُنَيْهِ نَحْوَ الشَّرْقِ، ثُمَّ أَطْلَقَ نَهِيقًا أَشْبَهَ بِصَهِيلِ الْخُيُولِ، أَيْ أَطْلَقَ مَا يُمْكِنُ أَنْ نُسَمِّيَهُ النَّهِيقَ الصَّهِيلِيَّ، وَمَا هِيَ إِلَّا لَحَظَاتٍ حَتَّى انْطَلَقَ الْحِمَارُ كَالرِّيحِ السَّافِيَةِ.. ظَلَّتِ الْخَالَةُ نِيَان وَابْنُهَا تَمْبَسُ يَجْتَهِدَانِ لِتَهْدِئَةِ الْحِمَارِ الثَّمِلِ دُونَ جَدْوَى. كَانَ الْأَمْرُ فِي بِدَايَتِهِ أَشْبَهَ بِهَزَارٍ، لَكِنْ رُوَيْدًا رُوَيْدًا اخْتَفَى الْحِمَارُ عَنِ الْأَبْصَارِ... اخْتَفَى الْحِمَارُ وَمِنْ فَوْقِهِ الْخَالَةُ نِيَان وَابْنُهَا تَمْبَسُ الِابْنُ.
لَمْ يَكُنْ مِثْلُ هَذَا الْأَمْرِ سَهْلَ التَّجَاوُزِ مِنْ قَبْلِ رِجَالِ الْفَيْرُوشَانِيِّ، وَفُرْسَانِهَا، فَأَعْلَنُوا عَنِ اجْتِمَاعٍ طَارِئٍ.. فِي الْغَالِبِ يَتِمُّ الْإِعْلَانُ عَنِ الِاجْتِمَاعَاتِ الطَّارِئَةِ بِنَفْخِ الْبُوقِ، وَيَسْتَمِرُّ النَّفْخُ حَتَّى يَتَنَادَى وَيَجْتَمِعَ كُلُّ الرِّجَالِ وَهُمْ جَاهِزُونَ لِلْحَرْبِ بِأَسْلِحَتِهِمْ مِنْ حِرَابٍ، وَفُؤُوسٍ، وَعُصِيٍّ. أَعْلَنَ مَلِكُ الْفَيْرُوشَانِيِّ وَهُوَ رَجُلٌ طَاعِنٌ فِي السِّنِّ، بِأَسْنَانٍ سَوْدَاءَ، لَا يَلْبَسُ غَيْرَ إِزَارٍ مِنَ الْجِلْدِ الْقَدِيمِ، قَالَ:
"الَّذِي حَدَثَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحِمَارَ أَصْلًا لَمْ يَكُنْ حِمَارًا بَلْ هُوَ عِفْرِيتٌ مَدْسُوسٌ." اسْتَنْكَرَ بَعْضُ الرِّجَالِ ذَلِكَ وَقَالُوا أَنَّ حِمَارَ الْخَالَةِ نِيَان هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ حِمَارٌ، وَكُلُّ مَا حَدَثَ أَنَّ الْحِمَارَ تَنَاوَلَ كَمِّيَّةً كَبِيرَةً مِنَ الْجِعَةِ الْمَحَلِّيَّةِ الَّتِي تَمَّ خَلْطُهَا فَثَمِلَ، وَلَمْ يَقْوَ عَلَى السَّيْطَرَةِ عَلَى نَفْسِهِ. هَكَذَا اشْتَدَّ الْخِلَافُ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ، فَانْقَسَمَ سُكَّانُ الْقَرْيَةِ إِلَى حِزْبَيْنِ. أَطْلَقَ الْحِزْبُ الْأَوَّلُ عَلَى نَفْسِهِ اسْمَ حِزْبِ الْحِمَارِ الثَّمِلِ، أَمَّا الْحِزْبُ الثَّانِي فَأَطْلَقَ عَلَى نَفْسِهِ اسْمَ حِزْبِ الْحِمَارِ الْعِفْرِيتِ. بَيْنَمَا ظَلَّ الْحِمَارُ يَخْتَفِي عَنِ الْأَنْظَارِ وَعَلَى ظَهْرِهِ الْخَالَةُ نِيَان وَابْنُهَا، مُنْطَلِقًا كَصَارُوخٍ ذَكِيٍّ بَيْنَ الْبَرَارِي وَالْفَيَافِي. اشْتَدَّ الْخِلَافُ بَيْنَ سُكَّانِ الْقَرْيَةِ، وَبَدَأَ الْبَحْثُ عَنْ آلِيَّةٍ لِفَضِّ النِّزَاعِ، فَلَجَؤُوا إِلَى التَّصْوِيتِ الَّذِي انْتَهَى إِلَى مَزِيدٍ مِنَ الِاخْتِلَافَاتِ، فَنَامَتْ قَبِيلَةُ الْفَيْرُوشَانِيِّ تِلْكَ اللَّيْلَةَ عَلَى غِيَابٍ تَامٍّ لِنَهِيقِ حِمَارِهَا الْمُتَحَوِّلِ إِلَى حِصَانٍ.
#ابوالقاسم_قور (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟