أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عزالدين عناية - الغرب كسرابٍ بِقِيعةٍ















المزيد.....

الغرب كسرابٍ بِقِيعةٍ


عزالدين عناية

الحوار المتمدن-العدد: 8364 - 2025 / 6 / 5 - 16:01
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


قلّة في عالم الجنوب ظلّت في مأمن من "غواية الغرب"، ولو رمنا توصيف هذه الغواية بشكليها الطوعي والقسري، لقلنا هي وصفة محكمة من الاستلاب والاستمراء. تنبّهَ جملة من المفكرين الكبار، ممّن عملوا على تفكيك هذه الظاهرة في حدود الموضوعية العلمية، إلى ضرورة فهمها والتوقّي من آثارها. منهم الراحل حسن حنفي، والمفكر نعوم تشومسكي، وعالم الاجتماع شموئيل نوح إيزنستادت. في كتاب من تأليف الإيطالي ماسيمو كامبانيني حوْل المفكر المصري حنفي، اعتبر أنّ علاقة العرب المضطربة بالغرب، تعود في شقّ واسع منها إلى عدم التناصت. لاختلاف "الطبقات الفهمية" على غرار تنافر "الطبقات الصوتية"، وكأنّ هناك تفاوتا في التسامع يصدّ عن الإصغاء السويّ. وأنّ العرب ليس أمامهم سوى تطوير نظر علمي، بحسب ما دعا إليه حنفي في "مقدمة في علم الاستغراب"، للفوز بتخاطب سوي مع الغرب، والخروج من ثنائية الغواية المضلّلة والكره الأعمى.
وأمّا مع تشومسكي الذي قضى ردحا من حياته ولا يزال في مقارعة سطوة الغرب على العالم، فهو يدعو إلى تحرير الوعي الجمعي من ضلالاته، بهدف التحرر من بطاركة العالم، ولهذا عدَّ نزع تلك الغشاوة بمثابة العمل العلمي الموازي لاهتماماته الألسنية. فكلاهما يسير قدما لترسيخ منظور موضوعي مجرّد لما يحفّ بالإنسان من ظواهر. في حين مع عالم الاجتماع شموئيل إيزنستادت فقد جاءت النظرة من باب مراجعة مفهوم الحداثة الغربية المحوري، بهدف التحرر من ذلك الإغواء الآسر. فلطالما ساد النظر إلى الحداثة بمثابة "الحاوِية المعبَّأة"، وأن المجتمعات التوّاقة إلى هذا المغنم، لا مناص لها من القبول بالحمولة كلّها. وهو ادّعاء ساد على مدى عقود طويلة في النظر إلى هذا المنجَز البشري، وخلّفَ أنواعا شتى من الاستلاب. كشف إيزنستادت زيف هذا الفهم الأحادي للحداثة، وما ينطوي عليه من تجنٍّ بصهْرِ الحضارات في بوتقة الحضارة الغربية، وعمِل على إدراج تحوير جذريٍّ بطرح مقولةِ "الحداثات المتعدِّدة"، في مقابل الحداثة الوحيدة. فعالَم متعدِّدٌ هو أحوج ما يكون إلى فهْمٍ متعدِّدٍ، هكذا راعى إيزنستادت ديناميات التعدّد، ومن ثَمّ إمكان أن تبنيَ تكتلات حضارية جنوبية حداثتها من داخل أنماطها الخاصة، بعيدا عن الخيارات القسرية الواحدة.
فالإشكال الذي نعيشه مع "غواية الغرب" وسحره، أن الأمر يتمكّن من شرائح واسعة في مراحل مبكرة، فيطمس إحساسها الفطري ويفتكُ بمقدّراتها الذهنية، لفقدان المضادات الحيوية التي تحدّ من انتشار بريقه الخادع. فالانبهار داء مستفحل، في الشارع والجامعة، وفي اللغة والفرجة، ولدى المثقفين والأمّيين على حد سواء، بشكل يدعو للدهشة. قبل مغادرتي البلاد العربية، أي منذ زهاء ثلاثة عقود، لما كنت أتّقد حماسا للتغيير والتجديد، لا أزعم أني كنت معافى من هذه الغواية. فقد كانت البوصلة متجهة صوب الغرب، كان الآخر -أقصد الغرب- هو النعيم بالنسبة إليّ، وكان يصعب أن أرى بعين الشاب الغضّ ما أراه اليوم بعين تطلّ على الستين. والمسألة ليست أن يصير المرء طاعنا في السن حتى يصحو، بل هي المعايشة والتجربة لمن تيسر له ذلك والعلموية في النظر للأشياء لمن عازه التواصل المباشر. فعملية الصحو، أو لنقل التطهر، تشبه الدخول إلى مغطس، فيه التداوي بالذي كان هو الداء، أي بالغرب ذاته، بالانغماس فيه بحلوه ومرّه، والعيش في تجاويفه وفهم روحه.
فما معنى أن يزحف ألوف البشر نحو الغرب وهم يمنّون النفس بما يشبه جنة الخلد يدفعهم الإغراء والإغواء؟ ليجدوا أنفسهم يتكدّسون في الشوارع والمحطات، وحول الكنائس ودور المساعدات كالسردين، ولا يعود صدى مذلّتهم وحسرتهم إلى الديار. إنها غواية الفراش حول النار التي تغدو جزءا من تكوينه الغريزي وممّا يؤجج إغواء الآخرين، ممن يصرّون على غيّهم. فليس إغواء الغرب مزاج شبيبة متنطّعة، كما نفسّر الأمر عادة، بل هو نتاج وعي مقلوب، غالبا ما تشيعه شرائح مهزوزة تعلو المنابر، يُفترض أنها واعية وتملك من التمحيص والتمييز الكافيين لفرز الغثّ من السمين. فـ "الأجداد يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون" بحسب المقول التوراتي. ولعلّ الإشكال كامن في التعاطي مع ما يصدر من الغرب بنفسية خائرة، تتراجع فيها النباهة المطلوبة، ويجري استبدالها بما يشبه التصديق الساذج، وهي حالة نفسية تشبه حالة المأسور النفسي.
في كتاب مهمّ للأنثروبولوجي الفرنسي جان-لو آمسال بعنوان "إسلام الأفارقة.. الخيار الصوفي" (2018)، يرصد فيه مساعي حازمة من قِبل أطراف أكاديمية غربية لإبعاد شعوب جنوب الصحراء عن حاضنتهم المغاربية، وفك أواصر الصلة بين تومبكتو وفاس والقيروان والزيتونة. ومحاولة قطع طريق التواصل الضارب في عمق التاريخ بين تلك الحواضر، وذلك بالعمل على اختلاق ما يُشْبه الهوية "الإفريقية الزنجية" في مقابل الهوية "الإفريقية المغاربية". وكما يشرح جان-لو آمسال عادة ما يُعرَض "المخزون الحضاري الأسود" في مقابل "المخزون المغاربي" و"المخزون الشرق أوسطي" و"المخزون الخليجي"، وهي محاولة لفصل المخزون الإفريقي عن مجاله الطبيعي. يبيّن آمسال أن مدرسة مرسال غريول الأنثروبولوجية قد لعبت دورا حاسما في هذا الشرخ، إلى حدّ أنها حولت اللّغةَ العربية في غرب إفريقيا إلى بلوى حضارية، أضحى معها الحرف العربي، في لغات بلدان ما وراء الصحراء، حرفًا لكتابة التمائم والطلاسم والرُّقى والتعاويذ، مما أضفى على العربية عنوان التخلّف والجمود.
لماذا أوردنا هذا الحديث بشأن محاولات زعزعة المكون الحضاري الإفريقي؟ نقول ذلك لأن غواية الغرب قد بدأت مع تفكيك إيمان الأفارقة بذواتهم وأن لهم رصيدا جامعا، يستظلون بظلّه في الأيام العصيبة. في حين مع غياب ذلك الرصيد، أو في حال طمسه، فمن السهل تمرير الأساطير والأخاييل في الوعي الجمعي والثقافة الهشة، فتمسي المعيارية الغربية الأكثر حضورا في الهشيم الثقافي.
السؤال المطروح هو ما العمل أمام غواية الغرب؟ فالملاحظ أن جملة من الأراجيف تسري في عالم الجنوب، بأن الغرب حاضن المثقفين والدارسين والمبدعين الوافدين من عالم الجنوب. فكم من فلاسفة جاءوا إلى الغرب من شرق أوروبا، مع انهيار جدار برلين، صاروا عمال حضائر وصنّاع بيتزا؟ وكم من شعراء وفدوا من المشرق قضوا حياتهم حراسا في العمارات السكنية، لتُقبَر معهم أحلام الفكر والثقافة إلى الأبد؟ ليس لأن الغرب يسدّ الأبواب أمامهم، ولكن لأن هناك بنية ثقافية حضارية تعليمية ينبغي على الوافد امتلاكها وهي ليست بالأمر الهين.
الشاعر الإريتري الإيطالي حميد بارولي عبدو في كتاب بعنوان "سيرة الامتنان" (2023)، وهو عبارة عن سيرة ذاتية، أو لنقل خلاصة تجربة في العمل في مجال الهجرة والمهاجرين في إيطاليا، اعتبر أن المتاجرة بالمهاجرين في بلد الرحيل وبلد النزول هي عبودية جديدة. ومن ضمن ما يورده في الكتاب حديث حول ما يعرف اليوم بـ "النسوية الإسلامية" والتحمس المفرط لها في إيطاليا -وكأن المرأة الإيطالية التي نالت حق الطلاق (1970) وحق الإجهاض (1978) سباقة في هذا المجال. يكشف أن الجمعيات النسوية "المدافعة" عن المرأة العربية، ضحية "الذكورية العربية المفرطة"،كما تصوَّر، تجني من كل حالة تفكيك أسري (طلاق) 2000 يورو، وفي الوجه الآخر من الميدالية -على ما يورد بارولي عبدو- تجد المرأة العربية المهاجرة الأكثر دحرا في سوق الشغل ومعاناة من البطالة القسرية.
ما يتبين جليا أننا كثيرا ما نصنع الأساطير حول الغرب ونقع ضحية لها، والنجاة هو في تفكيك الأساطير والنظر للأمور بواقعية.



#عزالدين_عناية (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفكر المستقيل
- عرب أوروبا وبؤس الثقافة
- العقل الدّيني الغربي كتاب جديد لـ عزالدّين عناية
- المثقّف الهشّ والاستشراق البشع
- أوروبا تعيد النظر في علاقة الدّين بالسياسة
- القوانين والحضارات.. القانون الدولي تاريخه وفلسفته
- الترجمة وقضايا العالم
- تقفّي آثار الاستعراب الإيطالي
- دور النشر العربية متلهّفة على الربح ولا يعنيها تطوير الوعي ا ...
- الإمام والكردينال ومعارج الإيلاف - جدل الشرق والغرب
- الإمام والكردينال
- غرشوم شوليم والصهيونية الثقافية
- في وداع المترجم العراقي الذي تعامل مع العربية بقداسة ورشاقة
- البابا فرنسيس في عزلته
- الكنيسة في العراق
- حوار حول علم الاستهواد العربي
- هذا بيان للكتّاب
- هزيمة الغرب في أفغانستان.. ذهب الجمل بما حمل
- اليهوديّة بعيون مسيحيّة
- الأديان والعوْلمة


المزيد.....




- سوريا: مجلس الإفتاء الأعلى يصدر فتوى بشأن -الثأر الشخصي- لاس ...
- المبعوث الأمريكي: فتوى تحريم القتل في سوريا -خطوة عظيمة- نحو ...
- مبعوث ترامب يعلق على صدور فتوى جديدة بخصوص الثأر والانتقام ف ...
- فتوى تلغي مفهوم الثأر في سوريا.. و-إشادة أميركية-
- هل تصبح القدس بلا مسيحيين؟
- غزة والمسجد الأقصى في صدارة خطب العيد بعدة دول عربية
- سوريا.. مجلس الإفتاء الأعلى يصدر فتوى في حكم الثأر والانتقام ...
- في أول أيام عيد الأضحى.. الاحتلال يرفض تسليم المسجد الإبراهي ...
- فيديو.. صلاة العيد بين أنقاض المساجد المدمرة في غزة
- عشرات الآلاف يؤدون صلاة عيد الأضحى في المسجد الأقصى المبارك ...


المزيد.....

- السلطة والاستغلال السياسى للدين / سعيد العليمى
- نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية / د. لبيب سلطان
- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عزالدين عناية - الغرب كسرابٍ بِقِيعةٍ