|
عبد الحسين شعبان واللّاعُنف
أوغاريت يونان
الحوار المتمدن-العدد: 8363 - 2025 / 6 / 4 - 15:56
المحور:
قضايا ثقافية
د. أوغاريت يونان - مفكِّرة تربويّة، مؤسِّسة جامعة اللاعنف وحقوق الإنسان AUNOHR.
اعتدتُ أن أقول «حسين شعبان»، بمحبّة واحترام. وهكذا سأفعل في كتاب الوفاء. بدعوة من دار سعاد الصباح للنشر، وبمبادرة كريمة من صاحبة الدعوة الشيخة الدكتورة سعاد الصباح، التي اختارت عنواناً وجدانيّاً «يوم الوفاء»، لتكريم شخصيّات أعطوا فأعطتهم هذا اليوم ومعانيه، اخترتُ أن أكتب عن جانبٍ في مسيرة المكرَّم، لا أعتقد أنّ لسواي معرفة عنه بقدري، فأنا التي دعوتُه للإبحار في رحلة حياة مع جامعة اللاعنف في لبنان منذ أربعة عشر عاماً. كتبتُ أكثر من مرّة تحيّة للصديق الدكتور حسين شعبان. وسألتُ نفسي، ماذا سأكتب بعد! ووجدتُ أنّ من مسؤوليّتي أن أُخبر عن رحلته معنا، مع اللاعنف، هذه العلامة الفارقة برأيي، والتي باتت الصِّفة التي لم يعُدْ يودّ في الفترة الأخيرة أن يتمّ التعريف عنه إلّا بها وفق ما كان يخبرنا. سأكتب عن حسين شعبان واللاعنف، ليس توثيقاً وسرداً شاملاً بل محطّات وذكريات ومن كتاباته بالذات. بدايات في «بوحٍ متأخِّر، شذرات من تجربة شخصيّة»، كما أسماه، كتب حسين شعبان أنّه لم يكن قد «اختار اللّاعنف تماماً كفلسفة وطريق للوصول إلى الحقيقة والعدالة»، لكنّه كان يعرف أنّه «شديد النفور من العنف، بل أزدري مع نفسي في الكثير من الأحيان من يستخدمه أو يلجأ إليه، أو على أقلّ تقدير لا أشعر إزاءه بالاحترام. بقي المفهوم مشوّشاً في ذهني وملتبساً إلى حدود غير قليلة، ولاسيّما ثمّة أهواء عديدة كانت تتنازعني ويشدّني بعضها إلى درجة الانجذاب، خصوصاً حين يتمّ تبرير اللجوء إلى العنف دفاعاً عن الحقوق والحريات والمستقبل المنشود، ولاسيّما في مواجهة العنف بالعنف.. وأستطيع القول إنّ الوضع السائد آنذاك والمستوى الثقافي والفكري لم يجعلني أتحوّل تماماً إلى اللّاعنف، على الرغم من أنّ بذوره كامنة، لكنّه لم يشكّل قطيعة نهائيّة بالنسبة لي مع العنف، بِحُكم وجود مبرّرات أخرى لاستخداماته لأغراض أيديولوجيّة وسياسيّة، وذلك تحت ذرائع ومسوّغات مختلفة». التقينا بدايةً في مؤتمرات ولقاءات حقوق الإنسان العربيّة، في أكثر من بلدٍ عربي، وبدا دوماً كأنّه يحمل على كتفيه (حقوق إنسان العراق)، ولو أنّه يحمل بالطبع نظرة إنسانيّة تشمل المنطقة والعالم. وفي أحد اللقاءات المصغّرة في تونس، التي دُعي إليها حصراً مؤسِّسو هيئات حقوق الإنسان العربية الأولى في المنطقة، في أوائل التسعينيّات، وكنتُ المرأة الوحيدة في ذاك الاجتماع، وكان د.شعبان حاضراً بالطبع، هناك طرحتُ خيار اللاعنف. كان جديداً وربّما غير مألوف بالنسبة إلى معظم الحاضرين، مع ذلك عبّرت أكثر من شخصيّة في اللقاء، عن «أنّها أول فكرة جديدة ومُبهِرة تُطرَح أمامنا منذ ثلاثين سنة». لا حقوق إنسان من دون فلسفة اللاعنف جذريّة اللاعنف هي في أنّه فلسفة وفِعل معاً. فلسفة شاملة واستراتيجيا عمليّة للتغيير. من دون الفِعل والعمل التغييري الاستراتيجي، يفقد اللاعنف معناه الجوهري، حيث إنّه ليس رفض العنف وحسب بل مواجهته لإحقاق العدالة وإزالة الظلم. اللقاء في جامعة اللاعنف في عام 1983، وكانت الحرب الأهليّة في لبنان على أشدّها، انطلقنا، وليد صلَيبي وأنا، في مسيرة مشتركة، رفقة عمر ونضال، امتدت إلى أربعين سنة، يوماً بيوم، من أجل زرع ثقافة اللاعنف واللاطائفيّة والعدالة وحقوق الإنسان والوسائل المبتكرة للتغيير المجتمعي، وبالأخصّ مأسَسَة كلّ ذلك في نسيج المجتمع في سائر مجالاته، وصولاً سنة 2009 إلى تأسيس جامعة أكاديميّة بعنوان اللاعنف بالذات، أولى من نوعها في المنطقة وفريدة في العالم لاختصاصات رياديّة ودراسات عليا غير مسبوقة. وليد صلَيبي، المفكِّر الرائد و«الشخصيّة التي لا تتكرّر» كما يقول عنه كلّ عارفيه، رحل العام الماضي تاركاً إرثاً لأجيال ولاستمراريّة الجامعة ودعماً للمقاومة اللاعنفيّة التي كان له الفضل في بناء استراتيجيّات ومجموعات ناشطة باسمها في أكثر من بلد عربي. .. ثمّ مرّت سنوات ولم ألتقِ العزيز حسين شعبان، إلى أن أسّسنا الجامعة. فاتصلتُ به، ونحن في السنة الثانية في مشروع الجامعة، ضمن تجربة نموذجيّة لدراسة كاملة بمستوى ماستر، مع طالبات وطلاب أتوا إلى لبنان من ستّة بلدان عربيّة على مدى ثلاث سنوات، وأنجزوا بالفعل أول دراسة علميّة في اللاعنف. وبعد نجاح التجربة الأولى، حصلت الجامعة على الترخيص الرسمي.. وألقى الدكتور شعبان كلمة الأساتذة في الحفل، الذي توّجنا في خلاله انطلاقة هذا الحلم، والذي أحياه الفنان اللبناني الأسطورة وديع الصافي. حين دعوتُه في صيف 2010، قلتُ للدكتور شعبان: هذا مكانك، وهذه إضافة نوعيّة في مسيرتك. وجاء بكلّ اندفاعٍ وسرور وتواضع، وأصبح عضواً في مجلس الجامعة ومحاضِراً بها في مجالات حقوق الإنسان والعدالة الانتقاليّة، وأستاذاً ينتظره الطلاب ويتأثرون بخبراته وبشخصيّته. وكان اللقاء الأول له مع المؤسِّس وليد صلَيبي، وحلّ الانسجام الودّي بينهما من (أول نظرة) كما كانا يردّدان بفرح. سبق أن قلتها لك، وأقولها هنا اليوم: إنّ البسمة كانت ترتسم على وجه وليد بمودّة صافية كلّما أتى على ذِكرك. اعتبر الدكتور شعبان أنّ هذه الجامعة هي «سابقة مهمّة في العالم العربي لها دلالاتها على أهميّة فكرة اللّاعنف، خصوصاً من خلال الدراسة الأكاديميّة والتجارب الكونيّة». ثمّ كتب لاحقاً في أحد مقالاته: «من باب العرفان بالجميل، علينا الاعتراف أن أوغاريت يونان ووليد صلَيبي هما من أبرز رواد اللّاعنف في عالمنا العربي، حيث عملا برفقة حميمة طوال 4 عقود من الزمان حتى تمكّنا من زرع بذرة اللّاعنف بمشاركة كوكبة لامعة من المفكرين والنشطاء اللّاعنفيين، خصوصاً أنّ طريق اللّاعنف، كما أكّد غاندي أنّه يمكن أن يغيّر مجرى التاريخ، لأنّه يمتلك قوّة خارقة، هي قوّة الحقّ والسلام والانتصار للإنسان وإنسانيّته، فإنّ حركة اللّاعنف، وإنْ كانت نخبويّة ومحدودة، لكنها يمكن أن تكون وبالتراكم قوّة التغيير نحو الأفضل في عالمنا العربي». رحلة اللاعنف منذ عقد ونصف تقريباً، حجز حسين شعبان لنفسه رحلة الغوص العميق في فلسفة اللاعنف واستكشاف روّاده وتراثه وأيضاً مواده الأكاديميّة المبتكرة في الجامعة. تفتَّح ربيع اللاعنف في دروبه المتنوّعة ثقافيّاً، وراحت مقالاته الملوّنة بمفاهيم اللاعنف تُزهر وتنتشر، ومن خلاله راح أصدقاؤه وقرّاؤه يكتشفون ويتعلّمون ويباركون له. ويهمّني أن أستعيد هنا، لقرّاء هذا الكتاب الخاص عنك، بعضاً ممّا كتبته أنتَ عن اللاعنف في السنوات الماضية، وفيه تكثيفٌ لمفاهيم ومبادئ رسَت في قناعاتك. تقول: «يقوم خطاب اللّاعنف على إيقاظ الضمائر والتأكيد على ضرورة عدم مجابهة العنف بالعنف، لأن استخدام العنف ضدّ العنف يعطي مبرّراً للآخر لكي يتمادى في عنفه، وهكذا يلد العنف عنفاً والتعصّب تعصّباً والتطرّف تطرّفاً والإرهاب إرهاباً.. الأساس في مفهوم اللّاعنف هو رفض العنف، سواء عنف الآخر ضدّ الذات أو عنف الذات ضدّ الآخر، فكلاهما يؤدي إلى نزع إنسانية الإنسان.. اللّاعنف هو خيار مواجهة من نوع جديد يعتمد وسائل وآليّات جديدة، من أجل الوصول إلى الغاية المنشودة، وطالما يُفترض في الغاية أن تكون شريفة، فالوسيلة هي الأخرى ينبغي أن تكون كذلك، لأن الوسيلة تكمن في الغاية، مثلما تكمن البذرة في الشجرة، حسب المهاتما غاندي، أي أن هناك ترابطاً عضوياً بينهما لا انفصام فيه. وفي ذلك نقض للمفهوم الماكيافيلّي الذي يذهب إلى اعتبار «الغاية تبرّر الوسيلة»، خصوصاً أنّ هذا المفهوم أصبح كثير الشيوع في السياسة والممارسة العملية التي تبرّر استخدام جميع الوسائل، بما فيها غير العادلة واللّاشرعية بزعم الغايات العادلة والشريفة، وقد برّرت الكثير من الأنظمة السياسية أفعالها بادعاء خدمة الإنسان وغاياته البعيدة المدى ومستقبله المنشود، مضحيّة أحياناً بحرّياته وحقوقه وحاضره لغايات غامضة أو ملتبسة أحياناً، حتى وإنْ تغلّفت بخيوط من ذهب.. بقي أن نقول إنّ مفهوم اللّاعنف فعل مقاومة من نوع مختلف..». وهذا بالذات ما عدتَ وذكّرتَ به في كتابك الصادر مؤخّراً، «مذكّرات صهيوني»، وعن قضيّة فلسطين بالذات: «طريقة التفكير الصهيونية.. وسائل ماكيافيلّية يتمّ فيها تبرير الوسيلة بزعم الوصول إلى الغاية، علماً أنّ الغاية هي من شرف الوسيلة، ولا غاية شريفة إنْ لم تكن الوسائل شريفة، وحسب المهاتما غاندي، فالوسيلة إلى الغاية هي مثل البذرة إلى الشجرة، فهما مترابطتان عضويّاً..». وبوضحٍ تامّ، أعلنتَ في أكثر من مقال وحوار إعلامي، مواقفك من الثورة والعنف واللاعنف، وأستعيد هنا بعض عباراتك بكلّ اهتمام: «العنف لم يلوّث الثورات فحسب، بل لوّث النفوس والضمائر وجعل كل ما هو لا إنساني طاغياً، ولاسيّما.. بعد أن استمرأ القتل وسيلة.. العنف لا يبني دولة أو وطناً، إنّه يؤدّي إلى الفوضى ويفكّك المجتمع، أيّاً كانت أهدافه.. إنّ استمرار ظاهرة العنف ومن ثمّ العنف المُضاد هما اللذان يجعلان من الدعوة إلى اللاعنف ضروريّة وراهنيّة بإلحاح، خصوصاً أنّ ثقافة العنف هي السائدة، ويتطلّب الأمر تسليط الضوء على مخاطر العنف وردّ الفعل «العنفي» عليه في ثنويّة لا تنتهي، كأنّها مصارعة على الطريقة الرومانيّة، بحيث يتمّ القضاء على أحد المتصارعين، في حين يصل الثاني إلى حدود الموت أيضاً، وهكذا سوف لا يكون أحد منتصراً وهو يمارس لعبة العنف التي ستحرق الجميع من دون استثناء. ثمّ من قال إنّ العنف ملازم للثورات بالمطلق؟..». تجربتنا معاً في الجامعة، وفي لقاءات الصداقة، انطبعتْ بأسلوبك الأنيق المنصرف إلى الحياة بسلاسة ومرونة. كلّنا نعلم أنّه ليس سهلاً على مَن انخرط باكراً في أيديولوجيّات مُحكَمة، ومُفعمة أحياناً كثيرة بخيارات العنف، أن يعود ويخرج إلى ضوء المرونة والتجدّد. خلال معرفتي بالدكتور شعبان، رأيتُ فيه هذا الصحافي، الكاتب، المحلّل، الباحث، المنجذب إلى ما هو لامعٌ في الفكر والتجارب، الراوي الحافِظ لذاكرة شاسعة بإبهارٍ كأنّ في نصوصه رزنامة زمن ودفتر أسماء وعناوين وحكايات وسرداً بكلّ الأحرف والأرقام، ومعها هذا الربط الشاغل باله بين السياسة والتاريخ والسوسيولوجيا والدين والنضال من النجف إلى الماركسيّة إلى القوميّة إلى حقوق الإنسان والحرّيات إلى اللاعنف.. وأعتقد أنّ إصراره على الشباب والحبّ والتنوّع والتثقّف والسلام، يكفي لكي نعرف من هو حسين شعبان. قلتُ له يوماً: شخصيّتُك تسير أمامك. وها أنا اليوم أستعيدها، وأضيف، أنّ شخصيّته تطلّ علينا في كلّ مرّة بباقة مكنوناتها معاً، طفلاً وشابّاً وفي نضج السنين، كما في ثمانينه التي سنحتفل بها السنة القادمة بألف خير. اللقاء مع الفيلسوف مولِر وفي رحاب الجامعة كان اللقاء الأول للدكتور شعبان مع فيلسوف اللاعنف المعاصر، الفرنسي جان-ماري مولِر، صديق وليد صلَيبي مذْ التقاه عام 1989 في باريس. مولِر، أحد أبرز مؤسِّسي حركة اللاعنف في فرنسا، كان لنا الفضل في إدخاله إلى العالم العربي على مدى ربع قرن منذ العام 1990، حيث دعوناه في خلال سنواتها المديدة لغاية العام 2015، إلى لبنان مراراً وبشكل خاص فبات بلده الثاني كما يقول، ثمّ إلى سوريا وفلسطين والأردن والعراق. وهكذا تعرّف الدكتور شعبان على كتابات مولِر في فلسفة اللاعنف، مترجمةً إلى اللغة العربيّة، بعد أن كان أطلق د.صلَيبي «سلسلة ترجمات اللاعنف إلى العربية»، منذ مطلع التسعينيّات، ومن ثمّ من خلال الجامعة بهدف بناء «المكتبة اللاعنفيّة العربيّة»، ومن ضمن ذلك تسعة كتب وعشرات النصوص للفيلسوف مولِر باتت بمتناول العالم العربي بلغته وفي خدمته. وربّما تلخّص كلمة جان-ماري مولِر في افتتاح مشروع الجامعة في 19 آب/أغسطس 2009 في لبنان، معاني تلك العلاقة التي جمعتنا به ومعاني الفلسفة التي حملها وناضل من أجلها وقدّم لها فكره في 44 كتاباً.. حيث قال: «حين زفّ إليّ صديقاي أوغاريت يونان ووليد صلَيبي خبر تأسيسهما جامعة اللاعنف للمنطقة العربيّة، خلال لقائنا في تموز/ يوليو سنة 2008 في بيروت، تلقّيت الخبر بفرح عظيم. إنّ انبثاق هذه الجامعة هو ثمرة عمل دؤوب ومثابر عبر سنين طويلة، حفر خلالها وليد وأوغاريت درباً عريضةً وعميقة، ونثرا فيها بذوراً من اللاعنف. اسمحوا لي أن أُعرب عن تقديري واحترامي لتصميمهما ومثابرتهما اللذين سمحا لنا أن نجتمع هنا اليوم. أتيتُ في المرّة الأولى إلى لبنان في أيلول سنة 1990. وأتذكّر حينها أنّ الحرب لم تكن بعد انتهت بشكل كامل. وقد نصحني عدد من أصدقائي الفرنسيّين بعدم قبول دعوة اعتبروها خطرة جداً. بالطبع، لم أندم أبداً أنّني لم أستمع إليهم. وخلال الأسابيع التي أمضيتها في لبنان، أُغرمتُ به ولا أزال.. أنا اليوم موجود بينكم بكثير من التأثر، تحرّكني عواطف قويّة. لا أشكّ في أن جامعة اللاعنف سوف تُسهم في رفع هذا الفجر الجديد على العالم العربي. واسمحوا لي أن أُسِرّ لكم بوجهٍ خاصّ، كمْ أنا سعيدٌ لكوني بقربكم أشارك في هذه المغامرة المثيرة..». ومن الجميل أن أتذكّر هنا أيضاً زيارة وفد من جامعة اللاعنف وحقوق الإنسان إلى أربيل – كردستان العراق، وكان الدكتور شعبان المبادِر لها، وقد ضمّ الوفد الفيلسوف مولِر. زيارة مليئة بالاجتماعات واللقاءات المؤثِّرة في الجامعات والمراكز الثقافية ومع المسؤولين السياسيّين الرئيسيّين إلى نقاشات مع مثقفين وإعلاميّين، واتفاق مع مدرسة تأثرت إدارتها واختارت تحويلها مدرسة لاعنفيّة، إلى دورة تدريب أكاديمي على اللاعنف أولى من نوعها هناك لكوادر عليا في وزارة الداخليّة وفي الهيئة الوطنية لمناهضة العنف ضدّ المرأة. وبالطبع، كان للفيلسوف مولِر محاضرة أساسيّة عن ثقافة اللاعنف. بعدها، نشرتَ في مقال لك ما استخلصته من كلام مولِر، في أنّ «اللّاعنف هو وسيلة نضاليّة وهو وسيلة كريمة بمقدورها تحقيق النصر حسب الفيلسوف مولِر. وأستحضر هنا ما قاله في محاضرته في أربيل حين أعاد تأكيد دعوة ألبير كامو للتمرّد ضدّ العنف «أنا أتمرّد إذن نحن موجودون»، لأنّ التمرّد يتغلّب على كلّ ضغينة وحقد، كما أنّه لا يريد ولا يتمنّى أن يشقى أيّ إنسان من الشرّ الذي يتكبّده. فالتمرّد برفضه للشرّ لا يستهدف جلبه لغيره.. إذن لا ينبغي الجزع أو قلّة الصبر بسبب عدم استكمال ظروف التغيير، فذلك أشرف ألف مرّة من العنف والقتل، الذي ستتزعزع به الحقيقة». «نزع سلاح الآلهة» مع الفيلسوف مولِر أمّا موعدك الآخر الجميل مع مولِر، فكان في صيف العام 2015، في الجامعة في مبناها الأول في منطقة جبليّة رائعة، حين احتفلنا بإصدار الترجمة العربيّة لكتاب مولِر «نزع سلاح الآلهة - النصرانية والإسلام من منظور فريضة اللاعنف». حفل توقيع الكتاب رافقته ندوة تشاركنا فيها أنتَ وأنا، ثمّ نشرتَ مقالاً عن تلك المناسبة، حيث استعدتَ مفاهيم جوهريّة طرحها مولِر: «نحن مدعوون إلى القطع مع العنف وإلى الوفاء لقيم اللاعنف.. هذا ما أكّده مراراً الفيلسوف مولِر في مؤلّفاته ولاسيّما في كتابه الأخير بعنوان «نزع سلاح الآلهة»، الذي احتفلت الجامعة بترجمته وإصداره باللغة العربيّة السبت الماضي، وهو واحد من المراجع والمواد في اختصاص «ثقافة اللاعنف والأديان» الذي ابتكرته الجامعة وباشرت بتدريسه بمستوى ماستر.. يقول مولِر بالتحديد: لئلّا يأخذنا الميل إلى رفض عنف الآخرين وليس عنف الذات أولاً، يجب علينا أن نبدأ بالقطع مع كلِّ ما في ثقافتنا ممّا يشرِّع العنف ويقدِّسه.. وهذه القطيعة ستكون موجعةً لأنها يجب أن تجري في العمق. وسنكتشف أننا، لكي نقطع مع ثقافة العنف، لا مناص في النهاية من القطع مع ثقافتنا.. نحن نعي تماماً المصالح المستبدّة والخطط المدبَّرة للمنطقة لتفتيتها وارتهانها، ولاسيّما بالارتكاز إلى العنف الديني؛ أصحاب المصالح والنفوذ يعملون لمصالحهم، ونحن، لمصلحة من نعمل؟ أفضّل أن أتحدّث اليوم عن مسؤوليتنا بالذات تجاه أنفسنا ومنطقتنا..». وفي مقالٍ آخر لك، عدتَ وتابعتَ بعضاً ممّا طرحه في هذا الموضوع، حيث كتبتَ: «الفريضة أو الفضيلة التي يريد مولِر تعميمها، تمنحنا هذه القدرة الاستثنائيّة، من الحبّ والتطهّر والروحانيّة الإنسانيّة، وتقرّبنا من بعضنا على نحو يتّسم بتعزيز المشترك الإنساني، سواء كنّا من أتباع الديانة النصرانية أو من أتباع الديانة الإسلاميّة، وسواء كنّا مؤمنين أو غير مؤمنين، ومتديّنين أو غير متديّنين، لكنّنا نجتمع تحت خيمة اللاّعنف ذات الطبيعة الإنسانيّة». كتاب الفيلسوف مولِر هذا، هو حصيلة عشرين سنة له في البحث حول الأديان والعنف واللاعنف، ولاسيّما في النصرانية والإسلام، أصدره سنة 2010 في 703 صفحات. أمّا محاضرته الأولى عنه فكانت في لبنان، في العام نفسه، وفي جامعتنا بالذات، مع ترجمة أولى آنذاك إلى العربيّة لملخّص عنه، ومن ثمّ ترجمة للكتاب كاملاً وإصدار للنسخة العربيّة في طبعتها الأولى عام 2015. في تلك المحاضرة في صيف العام 2010، التي حضرها الطلاب بالطبع، وعدد من الأساتذة، وأصدقاء من الباحثين والمثقفين، شارك أيضاً عدد من رجال الدين النصارى والمسلمين، بينهم شيخان كانا جاءا لدراسة اللاعنف في الجامعة بكلّ تواضع، وباتا من دعاة اللاعنف في هذا العالم العربي. الموضوع الديني شغل حسين شعبان، وهذا ما تُظهره مؤلّفات ومقالات متنوّعة له في هذا الإطار، ضمن مبادئ التنوّع وحرّية الاعتقاد. وهنا يحضرني كتاب له بشكل خاص، كان أهداني إيّاه وشاركت في ندوة عنه في بيروت، حمل عنوان «أغصان الكرمة.. المسيحيون العرب». برأيي، إنّه كتابٌ عن العنف والإشكاليّات التي تواجه النصارى في وجودهم في المنطقة، حيث أعاد د.شعبان المفاهيم إلى جذورها، في التاريخ والمنطق وفي الطِّيبة، فكأنّي به قد أعاد النصارى والمسلمين وأهل المنطقة كافّة إلى حقيقتهم وحقيقة ما يتوجَّب أن نكون، إلى جذور العدالة والمواطنة وحرّية الاعتقاد. يدلّنا كتابه هذا على عدم إمكانية أيّ حلّ وأيّة استعادة لإنسانيّتنا في علاقاتنا بعضنا إزاء بعض كمواطنين متساوين - أهل هذه المنطقة، من دون استعادة قيم اللاعنف والقطع مع جوهر العنف. لذا نراه يدلّ على الجرح، ويذكِّر بـ»المِلح» لتطييب الحياة ونسيجها المجتمعي في بلداننا، من جديد، ويقول «المسيحيّون مِلحُ العرب». ومعه، نقول للمواطنين الفاعلين في المنطقة بفكرٍ منفتح وخياراتٍ إنسانيّة، إنّ مسؤوليّة قيام مجموعات من المواطنات والمواطنين الملتزمين خيارات اللاطائفيّة وعدم التعصّب والتطرّف، هي في عهدتنا، وإنّنا نحن أغصانٌ بالطبع، مزهرة ومثمرة وينبغي أن تثمر أكثر، على أنْ لا تتخلّى عن أغصانٍ رفيقاتٍ لها كُسِرت أو اقتُلِعت أو هُجِّرت أو اضطُهِدت.. فالألم موجودٌ، صحيح، لكنّ الكرمة التي نادى بها حسين شعبان موجودة ومعطاءة بالتأكيد.
حديثُ اللاعنف رحلتك مع جامعة اللاعنف، معنا، باتت حديثك الدائم أينما حللت، وأنتَ في ديناميّة لا تتوقّف «ويتهيّأ لي أنّ كثيرين ربّما (يغارون) منها لجماليّتها وتنوّعها». في كلّ الأمكنة التي يحلو لك أن تنثر فيها ما راكمته من خلاصات: في أسفارك، والندوات والمؤتمرات، والتكريمات، وفي الكتب والمقالات وعالم الصحافة، وفي المحاضرات الجامعيّة، والمقابلات الإعلاميّة، واللقاءات الأدبيّة والثقافيّة، وفي الهيئات المحليّة والعربيّة التي أسهمت في تأسيسها و/أو شاركت فيها، وبطبيعة الحال في جلساتك وسهراتك.. أينما ذهبت وحللت، باتت كلمة اللاعنف رفيقتك، والجامعة عنواناً دائماً تنشر إنجازاته وفرادته وتدعو إلى أهميّة دعمه. دورك كان أساسيّاً في جعل شخصيّات ومسؤولين سياسيّين وأكاديميّين يتعرّفون على الجامعة وعلى ثقافة اللاعنف من خلالك واحتراماً لمكانتك في قلوبهم، حيث عقدتَ العديد من الاجتماعات في هذا البلد العربي وذاك، وبالأخص في بلدك العراق، وحفّزت الجميع على اكتشاف هذا الفكر وهذا الإنجاز لمجتمعاتنا. وأذكر كمْ كان فرحك كبيراً خلال احتفال الجامعة بإطلاق «تمثال اللاعنف العالمي» في بيروت، أول عاصمة عربيّة تحتضن هذا الرمز المنتشر في ثلاثين مكاناً في العالم وأمام مقرّ الأمم المتحدة في نيويورك. كان ذلك في 2 أكتوبر من العام 2018، حيث دعوتَ سفير العراق في لبنان وجلستُما بجانب حفيد المهاتما الكاتب والمحاضِر العالمي آرون غاندي، ضيف الحفل في زيارته الأولى إلى لبنان بدعوة من الجامعة، والذي راح يدندن بالهنديّة، مع الفنّانة عبير نعمة التي أحيت الحفل، أغنية كان يحبّها جدّه المهاتما غاندي ويردّدها في صلواته.. تلك ذكريات جميلة ومؤثِّرة، كنّا نعلم معاً مدى أهميّتها في تأسيس ساحاتٍ عامّة باسم ثقافة اللاعنف، لتنتشر بين الناس، وليس فقط في المستويات الفكريّة والأكاديميّة. الثقافة والنقد ركنٌ آخر في مسيرتك، والعلامة الأساس فيها، هو الثقافة ومعها النقد. لقد كتبتَ وحاضرتَ مراراً وطويلاً عنهما وعن واقعهما ورموزهما كما عن العوائق والمحدوديّة في عالمنا العربي. في كلمتي هنا عنك وعن اللاعنف، سأكتفي بأن أستعيد من كتابك الصادر مؤخّراً تحت عنوان «الغرفة 46 سرديّات الإرهاب»، سؤالك حول «العنف والثقافة هل يلتقيان؟ الضفّتان هل تلتقيان؟». حين أجبتك، في ندوة تكريميّة لك في بيروت في فبراير الماضي تناولت هذا الكتاب لك وسواه ربطاً بقضيّة فلسطين، قلتُ لكَ إنّ جوابنا معاً هو واحد، وإنّه بالطبع لا، لا يلتقيان. فالثقافة هي زرعٌ، بينما العنف تدمير. الثقافة بناءٌ وتواصل، أمّا العنف فأذىً وقطْعُ صِلات. وبرأيي، إنّ من أولويّات المثقّف، بالأخصّ المثقّف العضوي المناضل المحبّ للحياة، إعادة النظر في العنف. إنّها المهمَّة التي على عاتق كلّ منّا، ولاسيّما في ظلّ تنشئة ومفاهيم وتقاليد وأيديولوجيّات وتبعيّات دينيّة وسياسيّة وسواها، مجّدت العنف من حولنا أو جمّلته أو حتّى جعلته نهجاً لا مجرّد وسيلة ظرفيّة. العنف والخير خطّان لا يلتقيان، فكلّ منهما من طينة نقيضة للآخر. القضايا المحقّة تحتاج إلى القوّة والشجاعة، إلى جرأة المقاومة. والقوّة ليست العنف. هذه العبارة التي لفتتكَ، حين سمعتني أقولها أول مرّة في جلسة في الجامعة. نحن نحتاج أن نكون أقوياء لكن ليس عنيفين. ويتوقّف على الثقافة أولاً أن تساعدنا في إعادة النظر للتمييز بين القوّة والعنف، في سائر مجالات الحياة. في آخر كتاب أصدرناه، وليد صلَيبي وأنا، عام 2020، بعنوان «أقوال في اللاعنف»، نشرتُ هذا القول توضيحاً لفكرتي: «لقد شوّهوا القوّة حين دمجوها بمعاني العنف. لقد جمّلوا العنف حين أضفوا عليه معاني القوّة. وها نحن نرتكب الإعدام ونقول (عدالة)، نرتكب جريمة عائليّة وعاطفيّة ونقول (شرف)، نعلن (السلام) ونرتكب الحرب، نعلن (اللجوء إلى القوّة) ونرتكب العسكرة، نقول (ثورة) ونرتكب القتل، نقول (تربية) ونرتكب صفع الطفل والطفلة.. إنّ مسؤوليتنا الثقافيّة الأولى هي في إعادة معاني شجاعة اللاعنف إلى القوّة، وجعل العنف مكشوف الاسم والمعنى كما هو». كتابنا هذا الذي أهديتُك إيّاه، وكان موضوع مقال لكَ نُشِر في أكثر من صحيفة وموقع إعلامي، أردناه احتفاءً بمرور قرن على مصطلح «لاعنف» NON-VIOLENCE (1920–2020)، مُذ أطلقه غاندي لأوّل مرّة بعد أن اختمر عمقه الفلسفي في مسيرته الذاتيّة والفكريّة والنضاليّة (وكان ذَكر الكلمة في منتصف العام 1919). لم يبتكر غاندي المصدر السنسكريتي لهذا المصطلح، المألوف في الهندوسيّة والجاينيّة والبوذيّة، «آهيمسا ahimsa: لا لأذيّة أيّ كائن حيّ»، بل ابتكر انطلاقاً منه كلمة جديدة في التاريخ، (لاعنف)، لتُضاف كفلسفة شاملة إلى التراث العالمي. إنّه كتابٌ مرجعيّ يبسّط الفكر والفلسفة عبر أقوال وعبارات مأثورة في اللاعنف، وكلُّ قول باللّغة العربيّة وبالإنجليزيّة أو الفرنسيّة. اكتفينا بمئة وثمانية وسبعين قولاً، نتعرّف من خلالها إلى واحد وتسعين من الفلاسفة والمفكِّرين والعلماء والأدباء والمناضلين الروّاد من سائر أنحاء العالم، كيف تكلّموا في اللاعنف، عن: القوّة، الحبّ، العدالة، التربية، السعادة، الضمير، العصيان، المقاومة، التغيير الاجتماعي، الاستراتيجيا، التحرّر الوطني، التمرّد، الطبقيّة، الفقر، التمييز، التعصّب، الحرّية، الحرب، السلام، الغاية والوسيلة، التواصل، الأنا الأصيل.. ولا يسعنا بمناسبة هذه المئويّة الأولى لمصطلح (لاعنف)، إلاّ أن نهنّئ مجتمعاتنا بتنوّع شعوبها، ومجتمعات العالم، بالرغبة المتزايدة فيها، رغبة اللاعنف، ثقافةً وتربيةً ونضالاً. نعم، اللاعنف ينتشر بصدق وتُفتَح أمامه الأبواب، ولو أنّ البعض يتّخذه شكليّاً وآخرون لأغراضٍ ملتبسة ومؤسفة. في البداية يهزؤون منه، يرفضون، يشكّكون، يضلّلون مَن يقترب من اللاعنف، يخوّنون ويهدّدون، لكنّ حيّز اللاعنف يكبر ومعه بات اللاعنفيّون فاعلين أكثر فأكثر. يقول وليد صلَيبي: «نحن لسنا في عالم انتصر فيه العنف؛ نحن في عالم لم ينتصر فيه اللاعنف كفاية بعد». أمّا مارتن لوثر كينغ فنبّه باكراً بالقول: «لم يعد الخيار بين العنف واللاعنف، بل بين اللاعنف واللاوجود». كتبُك عزيزي الدكتور شعبان التي صدرت مؤخراً، وقد أهديتنا إيّاها، حملت توقيعك وفيه كتبتَ: «إلى جامعة اللاعنف، هديّتي مع الاعتزاز بزمالة الفكر ورفقة العمل والإخلاص للّاعنف». كتبك هي بالفعل كشفٌ لأسرار ومعلومات من مصادرها، أعطيتَ لها الكثير من وقتك وجهدك وحسّك البحثي وتنوّع علاقاتك وأسفارك ومقابلاتك مع الشخصيّات الصانعة تلك الأحداث، ومن كلّ هذا استخلصتَ مواقف تُدين عنف الخارج وتشير إلى هلاك الداخل، وتضيف توضيحات تساعد على الوعي ونشر الوقائع، كما تتيح الحُجج بوجه السياسات المهيمِنة والقرارات المضلِّلة. فتحيّة لك على توثيق التاريخ للعدالة. لا بدّ من التوقّف أيضاً عند النقد بالنسبة إلى د.شعبان «النقد هو «فكرٌ تعايشيّ تسامحي»، أو بتعبير آخر (لاعنفيّ)،لا يبغي استعراضاً للأنا ولا تربّصّاً بالغير، بل خطوة إلى الأمام». استعدتُ هذه العبارة من النص الذي أسهمنا فيه، وليد صلَيبي وأنا، في كتاب عبد الحسين شعبان «تحطيم المرايا.. الحبر الأسود والحبر الأحمر» الصادر عام 2013. نتذكّره هنا، لكون النقد، بهذا المعنى بالذات، رافق حسين شعبان في سيرته الشخصيّة والفكريّة والسياسيّة، ما أتاح له أن يُبحِر في التجدّد وإنْ تناقض مع ما كان قد انتمى إليه. وهذه ميزة إنسانيّة بالدرجة الأولى. في مساهمتنا هذه، كتبنا أيضاً: «يقول عن الماركسيّة إنّها «ثورة كبرى»، لكن دون الذوبان في حرفيّة ما كُتِب أو تكريس مرايا يعيها هو مسطّحة. وهذا ما جعله ينادي رفاقه والماركسيّين عموماً إلى «تحطيم المرايا» بغية إعادة إضاءة جوهر هذه الثورة بفلسفتها الإنسانيّة..». الهمّ الأساس عند د.شعبان، هو الدعوة إلى وضع حدّ للصنميّة والطقوسيّة ومحدوديّة المعرفة، أكان في الأيديولوجيّات السياسيّة كما الدينيّة على حدٍّ سواء. بالنسبة له، الدعوة إلى «التحطيم» هي دعوة إلى «النقد والتطوير» والإبداع، لا بمنطق الهدم والعنف، بل بمنطقٍ بنّاء لاعنفي بالذات. أمّا عن الحبّ فيقول: «أنا في حبّ دائم.. الحبّ هو معيار أنسنة الإنسان.. ما أعرفه هو أنّ الحبّ نقيض التسلّط.. أنا أعيش الحياة كما هي، وأتمنّى أن يعيش الآخرون حياتهم كما يريدون، لكنّ مؤشِّري، في هذا المجال، هو حقوق المرأة التي لا تزال مهضومة..». ويحلو لي هنا أن أعبّر عن تقديري وعاطفتي تجاه الصديق حسين شعبان، حين عرّفني على ابنتيه سوسن وثناء، وفهمتُ مذّاك بوضوح أكثر هذا التجسيد الفعلي لنزعته نحو اللاعنف، بالأخصّ سلوكاً وترجمةً لأفكاره في الحبّ والمرأة واحترام الخيارات الذاتيّة. جميلٌ جدّاً أن نراه في جلسة مع ابنته الحقوقيّة المتميّزة وابنته الصحفيّة الشاعرة، علاقة أنسنة للجمال وللفكر لا «مرايا» تقاليد وثقافة عنفيّة معادية للفرح. الإعدام ومن القضايا التي شغلتك وهي في صميم الفلسفة الإنسانيّة وثقافة اللاعنف: مناهضة عقوبة الإعدام. أنتَ تعلم أنّنا أسّسنا أول حملة مدنيّة في لبنان والمنطقة من أجل إلغاء عقوبة الإعدام، منذ العام 1997، حملة وطنية شاملة وُصِفت بأنّها غير مسبوقة. وقد سُررنا حين قرأنا بحثك الموسّع المناهض كليّاً لهذه العقوبة وخلفيّاتها القانونيّة والسياسيّة وحتى الأيديولوجيّة، حيث كتبتَ تقول: «الإعدام عنف، وهو وسيلة عنفيّة للعقوبة، وهذا العنف قتلٌ، فهل القتل الثاني هو التعويض عن القتل الأول أمْ أنّ الهدف هو العدل والحقّ وتعويض الضحايا أو عوائلهم وردع الجريمة؟ تلك هي الفلسفة وراء المطالبة بإلغاء عقوبة الإعدام، بحسب وليد صلَيبي المفكِّر اللّاعنفي الذي أطلق في كتابه «عقوبة الإعدام تقتل» (1997) قوله الشهير «جريمتان لا تصنعان عدالة». وعلى غرار ذلك، سبق لي أنْ قلتُ «رذيلتان لا تنجبان فضيلة»، و«حربان لا تولّدان سلاماً» و«عنفان لا يحقّقان أمناً» و«انتهاكان لا يوفّران كرامة»، وعلينا البحث عن أسباب الجرائم والمسؤولين عن وقوعها اجتماعيّاً وسياسيّاً واقتصاديّاً وثقافيّاً وقانونيّاً، ومن خلال الثقافة السائدة بأبعادها الفكريّة والدينيّة والطائفيّة، فضلاً عن منظومة التربية والتعليم والقيم المتوارثة.. ولعلّ مثل هذه المسألة جديرة بأن تجعلنا نُعيد التفكير بإنسانيّتنا ولأجلها.. قد تطول مسألة اتّخاذ قرار بإلغاء عقوبة الإعدام، لكنّ الحاجة إلى إعادة النظر بالنظام التربوي والتعليمي لنشر ثقافة اللّاعنف كفيل برفع وتعزيز الوعي بالقانون وبالثقافة الحقوقيّة، انطلاقاً من القيم الإنسانيّة والضمير.. وهذا يمكن أن يولّد قناعة فرديّة وأخرى مجتمعيّة، حتى لعوائل الضحايا الذين يمكن أن ينخرطوا ضدّ عقوبة الإعدام، علماً بأنّ الإيمان بالدين ينبغي أن يكون أخلاقيّاً ولعمل الخير لا لتبرير القتل، فالأديان هي للسلام وليست للعنف أو لمباركة القتل..». بيروت .. ذكرتُ في البداية أنّ سنوات مرّت بعد لقاءاتنا الأولى في أطر حقوق الإنسان.. إلى أن عرفتُ أنّك مقيم في بيروت. وكنتُ أعلم ما تعنيه لك هذه المدينة ولبنان منذ طفولتك. وها أنت تتّخذ بيروت منزلاً لك.. وكمْ سررتُ وأنا أقرأ كلمتك في حفل تكريمك في إطار المهرجان اللبناني للكتاب في سنته السادسة والثلاثين في «الحركة الثقافيّة – إنطلياس»، بتاريخ 5/3/2017، حيث قلتَ فيها: «لم يكن يفلتُ صيفٌ أو زيارة، إلا ويختارُ جدّي «حمود شعبان» مستقرّاً له بيروت، فخالي «ناصر شعبان»، ثمّ «جليل شعبان»، ثمّ «رؤوف شعبان»، ثمّ الدكتور «ناهض شعبان».. وأستطيع القول إنّني عشتُ المدينة بكلِّ جوارحي لسِتّةِ عقودٍ من الزمان، أي مذْ عرفتُها في مطلعِ السّتينيات من القرن الماضي، وكنتُ أتردّدُ إليها باستمرار بما فيها فترة دراستي في أوروبا في مطلع السبعينيات وحتّى خلال الحرب الأهليّة في لبنان. كنتُ أبحثُ في المدينةِ عن المختلفِ واللامألوفِ من الكتب والصحفِ إلى المُغايرِ واللّاتقليدي من الأفلام، فأجد متعتي في هذا التنوّعِ المتجانسِ والاتّساقِ المتمايز، وفي التعدّدِ والوحدةِ وفي طريقة الحياة اللبنانيّة.. حين انتهت الحرب الأهلية وأُبرمَ اتّفاق الطائف، تكرّرت زياراتي لبيروت، وعندما قرّرتُ أن أترك لندن لم أفكّرْ أن أستقرَّ في أيّ مدينة عربيّة غير بيروت، مع أنّ علاقتي بدمشق فيها الكثير من الحميميّة مثلما هي علاقتي الودّية مع القاهرة. وبغداد التي تسكنني.. مازالت بعين العاصفة.. إذن هي بيروت ذاتُ الأوتار الخاصة، وحيثما يشعر المرء بالحريّة فذلك وطنه. وكما يقول الكاتب المسرحي اليوناني أريستوفان: «الوطن هو حيث يكون المرء بخير»، وبيروت دائماً تجعلني بخير». الصديق أُنهي كلمتي بتحيّة منك إلى صديقك، الذي كان آخر ما كتبتُه له وعنه، بمناسبة زرع شجرة أرز باسمه تكريماً لذكراه، أرزة حملت الرقم 8141، فكانت عنوان مقالك الذي قلتَ فيه: «وجدتُ عبارة كارل ماركس «هنا الوردة فلنرقص هنا»، في كتابه «الثامن عشر من برومير»، الاستعارة الأجمل والانسجام الأمثل، وأنا أشارك في وقفة الاستذكار، لزرع شجرة أرز في محميّة أرز الباروك في الشوف، (16 أيلول/ سبتمبر 2023)، باسم د.وليد صلَيبي المفكّر اللاعنفي المناضل الشجاع طوال مسيرته، الحائز على جائزة غاندي الدوليّة وجائزة الجمهوريّة الفرنسيّة لحقوق الإنسان.. حضوره اللّامرئي كان مؤثّراً وفاعلاً بكلّ رقيّه وقناعاته وفكره وتفاصيله الصغيرة ومرحه أيضاً. زراعة شجرة الأرز تعني زراعة الأمل والمحبّة والسلام، وهي دعوة إلى المجتمع اللبناني والعربي لنبذ العنف والطائفيّة.. دعوة إلى اللاعنف الذي لا يعني المهادنة على الحقّ أو المساومة على العدل، بل إنّه تمسّك بهما.. ولعلّ كلّ من عرف وليد صلَيبي، وجد فيه شيئاً من شجرة الأرز بصلابتها وشموخها وجمالها.. وطفرتْ دمعة ساخنة من عينيّ، وكنتُ قد انتحبتُ مرّتين عند رحيل الصديق وليد في 3 أيار/ مايو 2023، فقد شعرتُ أنّ جزءاً منّي غادر هذا العالم..».
- مساهمة د. أوغاريت يونان في كتاب تكريم د. شعبان في يوم الوفاء والموسوم "جمر الحروف: في الطريق إلى إلى الحرية والحداثة والتنوير"، الذي صدر عن دار الدكتورة سعاد الصباح في الكويت، 2024
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
السعودية.. تفاصيل جريمة الظهران والمشتبه به المصري وزوجة الض
...
-
نتنياهو يقرّ بتسليح عشائر فلسطينية معارضة لحماس في غزة، والم
...
-
-الجنس مقابل الطاقة الشمسية؟-.. دراسة تفضح الوجه المظلم لمشا
...
-
هارفارد تربح الجولة الأولى.. تعليق الحظر على الطلاب الدوليين
...
-
دراسة مفاجئة.. مكوّن أساسي في زيت الزيتون قد يرفع خطر الإصاب
...
-
علماء روس يبتكرون زجاجا واقيا من الإشعاع
-
علماء يبتكرون -ساعة شيخوخة- جديدة
-
تزايد أعداد المدافعين عن الغاز الروسي في أوروبا
-
واشنطن باشرت عملية تنحية زيلينسكي عن السلطة
-
بريطانيا تُصعّد نحو مواجهة عسكرية مع روسيا
المزيد.....
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد
...
/ منذر خدام
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال
...
/ منذر خدام
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول
...
/ منذر خدام
-
ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة
/ مضر خليل عمر
-
العرب والعولمة( الفصل الرابع)
/ منذر خدام
-
العرب والعولمة( الفصل الثالث)
/ منذر خدام
-
العرب والعولمة( الفصل الأول)
/ منذر خدام
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
-
قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين
/ محمد عبد الكريم يوسف
المزيد.....
|