حامد آلضبياني
الحوار المتمدن-العدد: 8360 - 2025 / 6 / 1 - 12:02
المحور:
قضايا ثقافية
تبدأ الحكاية في مدينةٍ كانت تحمل على أكتافها خطيئةً ثقيلةً، مدينةٌ لم تكن تعرف من معاني الطهر إلا اسمه، مدينة سُميت "سدوم"، لكنها لم تكن سوى مستنقعٍ للفساد، وكهفٍ مظلمٍ لكل شهوةٍ منحرفة.كان النهار يمضي بثقلٍ على تلك الأرض، والشمس تلفح وجوههم كأنها تُنذرهم بحرارتها بالعذاب القادم، لكن القلوب التي انطفأ فيها نور الفطرة لم تكن تبالي، فقد اختاروا أن يسيروا في دربٍ معوجّ، تركوا الرجولة خلفهم، وأغلقوا أبواب الغيرة والحياء، حتى صارت رجالهم أشباه رجال، ونساؤهم صرن بلا أنوثة، وانهارت الفطرة بين يديهم كما ينهار الرمل بين أصابع الأطفال العابثين.وفي ذلك المشهد الثقيل، كانت هناك جارية بسيطة، ابنة نبيّ، خرجت لتجلب الماء من أطراف المدينة، وعلى ضفة النهر لمحت رجالا غرباء، بملامح غريبة، كأنها تشع نورًا لا يُشبه نور الأرض. سألوها: "يا جارية، هل من منزلٍ يأوينا؟"تجمدت الكلمات في حلقها، فهي تعرف ما سيفعله قومها بهؤلاء الرجال لو علموا بوجودهم، قالت وقد ارتجفت روحها خوفًا وحياء: "مكانكم، لا تدخلوا حتى أخبر أبي وآتيكم".
ركضت نحو بيت أبيها، ولهاثها يسبقها، خائفةً على ضيوف الله من وحوش البشر، دخلت على لوط عليه السلام وقلبها يقرع كطبول الحرب: "يا أبتِ، قومٌ غرباء، وجوههم غير مألوفة، يسألون عن منزل".ارتجف لوط، كأنما طُعن في خاصرته، وعيناه تترقرقان بخوفٍ من المجهول. هرع إليهم، يجرُّ خطاه على الأرض، يلهث من وقع الفاجعة القادمة، ولما رأى ضيوفه، اشتد عليه الكرب حتى قال كلمته التي خرجت من أعماق روحه الموجوعة: "هذا يوم عصيب".
كان لوط يحمل في صدره صراعًا مريرًا، بين كرم الضيافة الذي أمره به الله، وبين شر قومه الذي يخشى أن يصيب ضيوفه، قال لهم وهو يحاول صرفهم: "لا أعلم على وجه الأرض أخبث من أهل هذا البلد"، همس بها كأنها رجاءٌ بلسان القلب، لكن الضيوف كانوا ساكنين، لا يبدو عليهم الجزع، وكأنهم على موعد مع قدرٍ مكتوب.
سار بهم إلى بيته، يُسرع بهم قبل أن يراهم أحد، لكن زوجته - تلك المرأة التي لم تعرف للوفاء معنى - كانت ترقب المشهد بعيونٍ ملأها الحقد، وما إن دخل لوط مع ضيوفه حتى تسللت كالأفعى، تُلقي بالخبر في آذان القوم، وكأنها تُشعل النار في الهشيم.انتشر الخبر كالصاعقة، وبدأت المدينة تتزلزل بخطواتهم، يُسرعون إلى بيت لوط كأنما يُساقون إلى حفلتهم الآثمة، وجاؤوا يركضون، وجوههم تفيض شهوةً وقلوبهم غلفت بالشهوة حتى صاروا لا يرون في الرجال إلا مطيةً لشهوتهم الحقيرة.وقف لوط عند الباب، ودموعه تكاد تسيل على وجنتيه، ينظر إليهم وهم يحيطون ببيته كالغربان السود، يطرقون الباب بوقاحة، يُنادونه، يُطالبونه بما لا يُطلب.
قال لهم وقد امتلأ قلبه بالحزن والأسى: "هؤلاء بناتي، هن أطهر لكم"... لا يقصد بناته من صلبه وحدهن، بل بنات القوم جميعًا، النساء الطاهرات اللاتي خلقهن الله لتكون رحمهن مهبط الفطرة السوية.
أين ذهبت رجولتكم يا قوم؟ أين غيرتكم؟ كيف قلبتم فطرة الله التي فطر الناس عليها؟!
هل صار الرجل يُفتن بالرجل، والأنثى تُزاحم الرجال في خصالهم حتى صار البيت مقلوبًا، والأرض مائلةً إلى شهوةٍ مسمومة؟!
ألم تشعروا بعد أن الرجولة ليست شنبًا يُطلق، ولا جسدًا يُعضل، بل الرجولة موقف، نخوة، غيرة، شهامة، حماية للضعيف، وصون للعِرض.
ألم تدركوا بعد أن المرأة ليست رجلاً آخر بثوبٍ مختلف، بل هي رقةٌ وحنان، دفءٌ وسكن، خُلقت لتُكمل الرجل، لا لتصارعه في ميادين الفحولة.
لكنهم لم يسمعوا لكلمات لوط، فقد ماتت فيهم الفطرة، وصاروا عبيدًا لشهوتهم.
وهنا.. وفي لحظةٍ فارقة، نطق الملائكة بالكلمة:
"يا لوط، إنا رسل ربك، لن يصلوا إليك"، ثم رفعوا أصواتهم بالعذاب الموعود، فانقلبت المدينة عاليها سافلها، وسُوِّيت بالأرض، كأنها لم تكن، وتلك الصيحة التي دوت في السماء، كانت آخر ما سمعه قوم لوط، آخر ما تركوه في دنياهم المنكوسة.فيا أيها الشاب الذي بدأت تتنازل عن رجولتك، توقف!قبل أن تُصبح صورةً أخرى من قوم لوط، قبل أن تبيع نخوتك مقابل شهوةٍ حقيرة.يا من تمارس التخنث في لبسك ومظهرك وكلامك، هل تظن أن الرجولة تتحدد بمقاس بنطالك؟!يا من تضع المساحيق وتتكسر في المشي، تذكّر أن الله خلقك لتكون سندًا، رجلًا، فلا تهدم فطرة الله بيديك.ويا أيتها المرأة التي "،غتُريدين أن تكوني رجلاً، ألا تخشين أن تنزعي عنك تاج الأنوثة، لتضعي على رأسك خوذة الجفاء؟!اتركي ما ليس لكِ، وكوني كما أرادك الله: أنثى ناعمة، حنونة، تُكملين رجولة الرجل، لا تنافسينه عليها.إن في قصة لوط آيةً وعبرة، إنها ليست حكاية من زمنٍ غابر، بل تحذير صارخ لنا في هذا الزمان الذي استرخت فيه القيم، وانهارت فيه الحدود.فلنتق الله، ولنتذكر أن الشهوة إذا أُطلقت من عقالها، أحرقت صاحبها قبل غيره، وأن الرجولة شرف، والأنوثة نعمة، ولا خير في أمةٍ ضاعت فيها الفطرة، وانقلبت فيها الأدوار.اللهم احفظنا من فتنة آخر الزمان، وثبتنا على دينك، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.اللهم لا تجعلنا من القوم الذين بدلوا نعمتك كفرًا، ولا من الذين نسوا الفطرة فنسيتهم.يا رب، اجعلنا ممن يسقون الماء في حر الحرم فيدعون لهم الحجيج في أطهر بقاع الأرض، ولا تجعلنا ممن استحقوا العذاب كما استحقه قوم لوط... آمين.
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟