أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - معن ذياب الطائي - المشهد الشعري في (الهروب الى الغرق )















المزيد.....


المشهد الشعري في (الهروب الى الغرق )


معن ذياب الطائي

الحوار المتمدن-العدد: 8358 - 2025 / 5 / 30 - 23:57
المحور: الادب والفن
    


شاعرية المشهد في "الهروب إلى الغرق"


تؤسس نصوص هذه المجموعة لما يمكن أن نطلق عليه "شاعرية المشهد". وتعمل هذه التقنية الكتابية على بناء شكل من أشكال الترابط الداخلي البنائي الذي يمنح هذه النصوص المتنوعة من حيث التركيب والايقاع وحدة شكلية ودلالية تبرر عملية جمعها في كتاب واحد. يتم تأثيث المشهد الشعري في هذه الباقة من النصوص بمجموعة من العناصر التي تتكرر في كل نص تقريباً مثل الليل والشمس والصحراء والقمر والماء. وتتفاعل تلك العناصر إبداعياً لتنتج تموجات من المعاني والدلالات من أجل خلق حالة شعرية وشاعرية شفيفة تتأرجح ما بين الأمل واليأس، والحياة والموت، والبدايات المفتوحة على احتمالات الهروب نحو حياة بهيجة والنهايات المغلقة والمحملة بأحلام مجهضة. وتكمن المهارة الابداعية لكاتب هذه النصوص في قدرته الاستثنائية على خلق مستويات متعددة من المعاني وحالات شاعرية ذات طبيعة تأملية وفلسفية من مجموعة محدودة من العناصر الدلالية. حيث ينجح الشاعر في محاولته فتح أفق التأويل على اتساعه أمام المتلقي الذي يجد نفسه وقد أصبح جزءاً من المشهد الشعري الذي يؤسس له النص. نقرأ في النص المعنون ب "ترقب":

" الليلُ لَمْ يُكملْ نسيجَهُ
توقّفَ عندَ بابِ الدارِ
والقمرُ في عزلتِهِ الكونيّة
بَدا شَاحِباً
أشعتُهُ المُنعكِسةُ مِن عِمقِ السَّماء
بلونِ رَصاصةٍ
وصلتْ بمظروفٍ أمس".

يتشكل المشهد الشعري في هذه المقطع من ليل وقمر يبدو شاحباً، وباب لدار غابت عن النص كمفردة ولكنها تظل حاضرة دلالياً من خلال الرصاصة التي وصلت بمظروف أمس. في هذا المشهد يسود جو من التوتر والترقب، حيث تتحرك في داخله أم "تجمع أشعة القمر (بجرغد) أسود. وفي "أنت .. وحيد" يتكرر حضور الليل مترافقاً مع صحارى جفت فيها الأنهار:

" الليلُ صَحارَى
ونهارُ الشَّمسِ الصَّيفيّ
جَفَّتْ فيهِ الأنهَار
وعُروقُ الأرضِ العَطشَى
تَحلُمُ بالأمطَار"

هنا المشهد الذي يفتتح به النص يتكون من ليل كئيب كصحراء عطشى، وشمس نهار صيفي لا تجلب الدفء بحضورها، بل تجلب الموت من العطش والجفاف. فالليل الذي كان مشحوناً بالترقب والتوتر في النص الأول يتحول إلى ليل موحش ومقفر. ويستبدل النص الثاني القمر الذي يبدو شاحباُ بالشمس الحارقة التي تجفف أنهار الحياة. وفي نص "أين أمشي؟" يحضر الليل والماء والشمس التي لن تطلع والنجوم التي لا تومض، ولكنه حضور صاخب مجنون من أبعد ما يكون عن سكون الترقب أو صمت الموت والجفاف، كما في النصين الأول والثاني:

"ليلٌ مجنونْ
تَتَجولُ فيهِ شياطينُ البحرِ
ويقطعُهُ الموجُ الصاخِبُ
وعُمرُكَ مَرهونٌ للماءِ
والموجِ وللظلماء
تترقبُ فجراً منسيَّاً
لنْ تطلعَ شَمسٌ
أو تُومضَ نجومٌ فوقَ البحرِ
فالوحدةُ ماءٌ وسُكونْ".

في هذا المشهد هناك حركة وصخب وضجيج. حيث تتجول شياطين البحر ويهدر الموج بعنف ويصاب الليل بالجنون، ويخيم شعور ثقيل باليأس من عمر مرهون للماء وشمس لن تطلع ونجوم لا تومض فوق البحر عاجزة عن أن ترمي طوق النجاة إلى الغرقى. ويحضر نفس الشعور باليأس في نص "لا مطر" والذي يعارض قصيدة الشاعر الكبير بدر شاكر السياب "أنشودة المطر":

"الشَّمسُ صَادَرَها الأَغرابُ
يَا بَدرُ
وغُيّبَ القَمَرْ
وغَابَتا النَّخيلِ
قَدْ عَافَها السَّحَرْ
ولَمْ يَعُدْ يَا بَدرُ
فِي جِيكُورَ مِن مَطَرْ"

يمكننا أن نلاحظ تبادل الأدوار بين الحضور والغياب في المشاهد الشعرية التي تشكلها هذه النصوص. فالحضور وجود معطل والغياب حضور طاغي. وهنا أيضاً يتقاسم الليل والشمس والماء المشهد الشعري، ولكن يؤسس حضورهم، أو غيابهم، لدائرة مغايرة من الإيحاءات والمعاني. فلعبة الحضور والغياب ما بين نص قصيدة السياب "أنشودة المطر" ونص "لا مطر" هي التي تفجر الطاقات الدلالية الكامنة في المفردات. ويتجه المنحى الدلالي لنص "لا مطر" نحو اليأس مرة أخرى حيث تصادر الحياة ويغيب الجمال ويحضر الموت والجفاف. ويستمر كذلك تبادل الأدوار بين مشهد يهمن عليه السكون والصمت وبين آخر يهمن عليه الصخب والضجيج على الرغم من أن كلا المشهدين تتكرر فيهما نفس العناصر من ليل وشمس ونجوم وماء. ففي نص " رحيل" نقرأ:

"يَومَ رَحِيلي
كانَ الغيمُ يُغطِّي وجهَ النَّهرِ
وكانَ النَّهرُ يَسافِرُ نَحوَ البَصْرَة
وعَلَى دَرْبِ التَّبّانَة
تَتَسلَّقُ كُلُّ شَياطِينِ الدُّنيا
آمِنةً
لَنْ يَرجُمَها نَجمٌ
أو يُوقِفَها قَمَرٌ
وفَوقَ النَّهر
رَذاذُ المَطَرِ الشَّتويّ"

وفي نص "هروب إلى الغرق" نجد المشهد نفسه:

" اليَومُ.. ليسَ كَكُلِّ الأَيَّامْ
البَحرُ هُنا مُعربِدٌ
والرّيحُ هَوجَاءْ
مَجنونَةٌ تعبثُ في مَوجَاتِ البَحرْ
أَمَّا نَحنُ
نَحلمُ بالمُستقبَلْ
نَحلمُ بالأجمَلْ
لَكنَّ الفَرحةَ فِي حَدَقَاتِ الأطفال تَتَوزَّعُ أًشلاءً"

بينما في نص "أي الألوان" تجتمع نفس عناصر المشهد، ولكن لتوحي بالصمت المطبق، حيث تتوقف الحياة وتختفي الألون حاملة معها الفرح والبهجة:

"فَالرَّملُ زُجَاجْ
وحَوافُ اللّيلِ
تَساقَطَتْ فَوقَ القَمَرِ الِّتشريِنيِّ المُنْطَفِئِ الأنوَارْ
وَقَفتُ وَلَمْ اركَعْ
فَصَلاةُ المَغربِ تَقَضَّتْ
ووُضُوئي قَدْ أُنقِضْ
وكُلُّ بُحُورِ الخَوفِ زُجَاجْ
البَحرِ الأحمَرِ
الأبيَضِ
وكَذَا البَحرِ المَيِّتِ
والبَحرِ العَربيِّ.
كُلَّ الخُلجَانِ
أَكَلتْهَا حِيتَانُ القَمَرِ التِّشْرينِيِّ
فَأَيُّ الألوانِ سَتَأتِي؟"

وغالباً ما يرتبط توظيف المشهد شعرياً بالشعر الدرامي و الشعر الملحمي. ففي الشعر الدرامي والشعر الملحمي يحضر المشهد بوصفة الإطار المكاني الذي تتحرك ضمنه الشخصيات والخلفية التي يتشكل الصراع عليها ويتصاعد من خلالها الفعل درامياً وملحمياً. فيكون للمشهد حضوراً هامشياً ويظل يتراجع مع بروز الشخصيات وطبيعة الصراعات التي تهيمن على علاقاتها ببعضها البعض. ولذلك دائما ما يترافق الشعر الدرامي والملحمي مع الحوار الشعري الذي يفصح عن مكنونات تلك الشخصيات ويعبر عن طبيعة الصراعات التي تنشغل بها. بينما نجد في نصوص ذياب الطائي وعلى تنوعها الأسلوبي والإيقاعي أن حضور المشهد الشعري هو الطاغي، حيث تتراجع الشخصيات الشعرية إلى الهامش ويختصر الحوار ببضع كلمات مبهمة تكون أقرب إلى الهمهمات منها إلى الحوار الفعلي. وكما يتكرر ظهور القمر والصحراء والشمس والبحر والأنهار والشطآن في أغلب نصوص هذه المجموعة وتتبادل في أدوارها الوظيفية والدلالية والإيحائية، يتكرر ظهور شخصيات تظل بلا أسم ولا توصيف يذكر مما يزيد من الغموض الذي يلفها. ويعمل هذا الغموض المقصود على شحن هذه الشخصيات بطاقة دلالية عالية. فليس المقصود منها تجسيد دور شخصية تاريخية أو سياسية أو اجتماعية معينة، وإنما توظيفها شعرياً لتعبر عن الإنسان بصورة عامة وهو يقف شامخاً قوياً أمام مآسي هذه الحياة وأهوالها. وتتقدم هذه الشخصيات في نصوص المجموعة هذه شخصية الأم القوية والشجاعة والتي تتحمل ألم الفراق ومعاناة قسوة العيش بصبر وكبرياء. ففي نص "ترقب" تحضر هذه الشخصية:

"بَكى رَضيعٌ يَشكُو الجُوعَ
كانتْ أمُّهُ تجمعُ أشعةَ القمرِ (بجرغدٍ) أسود
حينَ أغلقتُ الشُّبّاكَ
نشرتِ الأُمُّ الأشعةَ الكابِية
فِي غِرفةِ النَّومِ"

وتطالعنا شخصة الأم الشجاعة والقوية في نص "غناء عند شجرة الزيتون" كذلك:

"زغردت الأمُّ،
وأعطت ولدَها شجرةَ الزيتونِ الصغيرة،
فسكب الماء،
وقال: "سأبيتُ في المتراس."
النجومُ فوق الشارع،
عادَت تُومِضُ بمرح"

وفي نص "هروب من الغرق" تتحول الأم إلى مجموعة من الأمهات اللواتي يقرأن القرآن من أجل أن تطمئن أرواح أطفالهن وسط رعب الخوف من الغرق:

"الصِّبيةُ نَامُوا وغَفَى الأطفال
و النسوةُ يقرأنَ الآياتِ
والمَركَبُ ذُو الخَشَبِ المَنخُور
يَتَعَثَّرُ فِي الإبحارْ
والبَحَّارةُ حَيرى النَّظراتِ
أكلَ الخوفُ الحُلمَ
والوَحشةُ فوقَ البَحر
ماتَتْ كُلُّ الأَحلامْ"

ثم هناك الطفل الذي لا يتوقف عن اطلاق أسئلته البريئة والساذجة ، ولكنها أسئلة محملة بابعاد فلسفية وجودية أو تهكمية ساخرة. في نص "انتظار على نافذة الغياب" يحضر هذا الطفل:

"قَالَ الطِّفْلُ: أَبِي لَنْ يَعُودَ.
قَالَتِ الْمَرْأَةُ الَّتِي مَعَ بَقَايَا الزِّينَةِ:
سَيَأْتِي مَعَ نُزُولِ اللَّيْلِ مِنَ الجَبَلِ.
تَطَلَّعَ الطِّفْلُ مِنَ الشُّبَّاكِ،
رُبَّمَا سَيَنْحَدِرُ
الجَبَلُ، وَلَكِنَّ اللَّيْلَ لَنْ يَأْتِي"

وفي نص "الظل والموجة" يتجه الحوار من الطفل إلى الأب هذه المرة:


" قالَ صَبِيٌّ لِأَبِيهِ:
ـ لِماذا تَقِفُ هذِهِ المَرْأَةُ كُلَّ مَساءٍ عِندَ الجُرْفِ؟
قالَ الرَّجُلُ:
ـ لِأَنَّ السُّلطانَ لَمْ يَتْرُكْ أَحَدًا يَرْعَى في البَرِّيَّةِ،
وزَوْجُها أَكَلَهُ كَلْبُ السُّلطانِ،
والسُّلطانُ يَتَجَوَّلُ على صَهْوَةِ حِصانٍ أَسْوَدَ،
كَيْ لا يَراهُ النَّاسُ في اللَّيْلِ،
ويَخافوهُ في النَّهارِ"

وفي هذه النصوص يتكرر أيضاً ظهور شخصية رجل مجهول يظل بلا أسم ولا رسم ولا ملامح، وهو غالباً ما يكون هارباً وخائفاً ووحيداً يعاني من القهر والاضطهاد ولكنه أبداً لا يكون مهزوماً أو منكسراً. فالصمود والكبرياء هي السمتان الغالبتان على جميع شخوص نصوص هذه المجموعة. ويحضر هذا الرجل في نص "سحابة الخوف":

"غُرُوبٌ ضَحْلٌ لَكِنَّهُ ثَقِيلٌ،
يُغَطِّي المَدِينَةَ،
وَرَجُلٌ يَتَأَرَّجَحُ بَيْنَ خَشَبَتَيْنِ،
يَمْتَدُّ ظِلُّهُ حَتَّى السَّطْحِ الثَّالِثِ
مِنَ الدُّورِ الوَاطِئَةِ فِي العِشَّارِ.
الرَّجُلُ كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَى الأَرْضِ،
كِلْتَا عَيْنَيْهِ مُثَبَّتَتَيْنِ فِي قِطْعَةِ قَمَاشٍ مُمَزَّقَةٍ،
قَالُوا إِنَّهَا كَانَتْ قَمِيصَهُ.
والمَوْتُ يَنْشُرُ رَائِحَةَ الخَوْفِ"

وفي نص "من البصرة إلى المجهول" نقرأ:

"يوْمَ غادَرْتُ البَصْرَةَ،
كانَ المَطَرُ يَحْجُبُ السَّماءَ،
وعَلَى الأَرْضِ لَمْ تَكُنِ المَسَرَّةُ.
صَوْتِي سَدَّ عَلَيْهِ الصَّمْتُ كُلَّ المَنافِذِ،
وَتَطَلَّعَ ابْنِي مُسْتَفْهِمًا،
وَهُوَ يَتَفَحَّصُ حُدُودَ الصَّمْتِ.
المَطَرُ يَسُحُّ عَلَى وَجْهِي،
وَالخَوْفُ يَسُحُّ عَلَى قَلْبِي،
وَنَظَرَاتُ ابْنِي المُنْكَسِرَةُ
تُرَاوِحُ بَيْنَ الصَّمْتِ وَبَيْنِي"

وكذلك تكرر هذا الظهور في نصوص أخرى مثل "رمى نعشه" و "1963" و"حلم"، على سبيل المثال وليس الحصر.

وبالإضافة إلى شخصية الأم والطفل والرجل نجد شخصية المرأة العاشقة التي سرقت القوى الغاشمة منها زوجها أوحبيبها، فغدت حياتها بعده قاحلة وموحشة. ولا تجد هذه المرأة عزاءً لها إلا في الانتظار المرهق والقاسي. ففي "انتظار على نافذة الغياب" تظل هذه المرأة داخل جدران بيتها منظرة بكامل زينتها زوجها الذي غاب ولن يعود:

" الضَّحْكَةُ لا تَعْبُرُ أَفْرِيزَ الشُّبَّاكِ،
وعَلَى الرَّفِّ فِي الدَّاخِلِ
كِتَابٌ لَمْ يَقْرَأْهُ أَحَدٌ.

وَعَلَى وَجْهِ الْمَرْأَةِ
بَقَايَا مِنْ زِينَةِ الْمَسَاءِ،
كَرَبِيعٍ مَرَّ
دُونَ أَنْ يَتْرُكَ وَرْدَةً حَمْرَاءَ"

وكذلك في نص "الظل والموجه" تحضر هذه المرأة كفتاة تنتظر عند شط البصرة الذي خلا من الزوارق ولم يعد يحمل الرجال عائدين إلى بيوتهم:

" شَطُّ البَصْرَةِ لا زَوارِقَ فيه،
وفَتاةٌ تَتَطَلَّعُ نَحْوَ الماءِ.
المُسافِرُ إِلى البَحْرِ وَحيدًا،
أَخْرَجَتْ مِشْطًا خَشَبِيًّا، تُسَرِّحُ شَعْرَها المُبَلَّلَ،
تَوَقَّفَتْ مُتَرَدِّدَةً،
ثُمَّ رَمَتِ المِشْطَ إِلى الماءِ"

ومثل الشخصيات التي رسمتها نصوص هذه المجموعة بصورة مبهمة ومشوشة وغائمة، كذلك جاءت الحوارت مجتزأة ومبتورة. لقد تعمد الشاعر توظيف تلك الصيغة الغير مكتملة للحوارات في نصوصه لكي يفضح حقيقة أن اللغة باتت معطلة وعاجزة عن أداء وظيفتها في عالم أصبح موحشاً تسوده الفوضى ويعمه الخراب. عالم من الغربة والقهر السياسي والخذلان وفشل كل مشاريع النهضة والتحرر التي حلمت بها ثورات الشباب الطوباوية. وتتجسد صور هذا العالم المظلم في أكثر من نص في هذه المجموعة، مثل "سحابة خوف":

"غُرُوبٌ ضَحْلٌ لَكِنَّهُ ثَقِيلٌ،
يُغَطِّي المَدِينَةَ،
وَرَجُلٌ يَتَأَرَّجَحُ بَيْنَ خَشَبَتَيْنِ،
يَمْتَدُّ ظِلُّهُ حَتَّى السَّطْحِ الثَّالِثِ
مِنَ الدُّورِ الوَاطِئَةِ فِي العِشَّارِ.
الرَّجُلُ كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَى الأَرْضِ،
كِلْتَا عَيْنَيْهِ مُثَبَّتَتَيْنِ فِي قِطْعَةِ قَمَاشٍ مُمَزَّقَةٍ،
قَالُوا إِنَّهَا كَانَتْ قَمِيصَهُ.
والمَوْتُ يَنْشُرُ رَائِحَةَ الخَوْفِ"

وفي نص "يوم ضاع صوتي" نجد السماء وقد فقدت زرقتها والغيوم لا تحمل مطراً وليس هناك سوى الجفاف:

" السماء فَقَدَتْ زُرْقَتَهَا
وَالْغُيُومُ الَّتِي تَعْبُرُ إِلَى الجَنُوبِ
لا تَحْمِلُ مَطَرًا
فَقَدْ جَفَّتِ الأَنْهَارُ فِي المَجَرَّةِ الرَّابِعَةِ
وَالنُّجُومُ الَّتِي انْشَغَلَتْ
بِمَنْعِ الشَّيَاطِينِ مِنَ الصُّعُودِ
انْسَحَبَتْ"

وتكتمل معالم هذه العوالم الموحشة لتصبح أشبه بجو كابوسي ثقيل في أكثر من نص، والشواهد كثيرة ومتعددة، ففي نص أين أمشي" نجد الوحدة والليل والظلام وقد توحولوا إلى واقع سرمدي:

" وعُمرُكَ مَرهونٌ للماءِ
والموجِ وللظلماء
تترقبُ فجراً منسيَّاً
لنْ تطلعَ شَمسٌ
أو تُومضَ نجومٌ فوقَ البحرِ
فالوحدةُ ماءٌ وسُكونْ
والوحدةُ ليلٌ مجنونْ
لَحظاتٌ أبديَّةٌ"

وفي نص "لو" يصبح الأطفال يتامى وتعجز الرياح عن حمل دماء الموتى ويخيم صمت الهزيمة على أرض يمشى فوقها الموت:

"يَا أَبنَاءَ المَجدِ العَرَبِي
لَا تَبكُوا مَعَنَا
ابكُوا أَطفَالَ اليُتْمِ
فِي مَزْرَعَةِ اللَّيمُون
ابكُوا دِمَاءًا لَا تَشربُهَا الرِّيح
ابكُوا
خُرْسَ الصَّمتِ
ومَوتَاً يَمشِي
فِي الأَرضِ العَرَبِيَّة"

وفي هذه الأرض الخراب حيث يحل القحط و الظلام وتتوارى الشمس وتختفي النجوم وتتلاطم الأمواج في بحارها بصخب مجنون، يقف الإنسان وحيداً مكسوراُ وقد خذلته الأحلام والثورات والشعارات الرنانة والحكومات المتعاقبة التي نخرها الفساد فاتخذت القهر وسيلة لاسكات الأصوات الحرة. وفي خضم هذا الواقع القاسي الذي أطبق عليه الموت واندفعت شياطينه تشعل حرائقها في كل أمل للنجاة، يظل ذلك الإنسان متمسكاً بخيط من الضوء رفيع، يقبض عليه بكل ما في روحه من قوة وجلد. ويتجسد هذا الأمل الوحيد والأخير بحياة أفضل بالحب في أنقى صوره أنبل حالته. وحيثما يحضر الحب يتبدل المشهد الشعري بالكامل ليتحول إلى خلفية رومانسية لمتوالية من المشاهد الرائقة والمحملة بالضوء والورود وشجر النخيل، كما في نص "بوح":

" أَحْبَبْتُ امْرَأَةً
قَمَرَ البَرَارِي
يَعْبُرُ وَاحَاتِ الصَّمْتِ
وَيُعَابِثُ نَخْلَ البَصْرَةِ
فَيُصَادِرُ ظِلَّهُ
وَتَسْبَحُ أَضْوَاؤُهُ البَهِيَّةُ
فِي السَّوَاقِي
قَبْلَ أَنْ تَرْحَلَ إِلَى شَطِّ العِرَاقِ"
وفي نص "شواهد" يؤكد الشاعر هذه الحقيقة، حيث عند استحضار مشاعر الحب تتحول الاحلام المملة والسماء الباهتة إلى بهجة الحياة لقدوم ضوء الصباح وبدايات جديدة مفعمة بالتفاؤل:
"وَعَلَى وَجْنَتَيْكَ دِفْءٌ
هُوَ مَلَاذِي
حِينَ تُتْعِبُنِي أَيَّامِي،
وَتُصْبِحُ أَحْلَامِي
نَمَطًا مُتَكَرِّرًا وَمُمِلًّا،
وَتَكُونُ ٱلسَّمَاءُ بَاهِتَةً،
فَأُغْمِضَ عَيْنَيَّ لِأَسْتَرِدَّ
ٱلضَّوْءَ،
وَأَسْتَعِيدَ ٱلْبَهْجَةَ،
وَأَنْتَظِرَ قُدُومَ ٱلصَّبَاح"
وكما تتنوع المشاهد في نصوص هذه المجموعة كذلك تتنوع البنية الايقاعية لتحاكي الدلالات التي تسعى الصور الشعرية إلى التعبير عنها. ففي بعض النصوص يسير الايقاع بطيئاً متماهلاً متسقاً مع الصور المشهدية المرتبطة بغياب الحياة والأمل والمطر، وكأنما يتعمد الشاعر نقل مشاعر الملل وثقل الوقت إلى المتلقي. وهنا تكتسب البنية الايقاعية في النصوص وظيفة جديدة، وهي استدراج المتلقي ليصبح جزءً من المشهد الشعري وجعله يتفاعل معها شعورياً ووجدانياً وبصرياً كذلك.
ومما يجعل نصوص هذه مترابطة رغم تنوعها هو بؤرة دلالة مركزية متجسدة بمشهد الإنسان وهو بمواجهة الطبيعة بمختلف عناصرها. ففي جميع النصوص نجد الطبيعة حاضرة وبقوة من خلال اللغة والصورة الشعرية والبعد الدلالي. وهذه الطبيعة تكون في الغالب عدائية وموحشة وقاسية، وفي حالات نادرة تتحول الطبيعة إلى مناظر بهيجة وليل رائق وسماء صافية. وربما تعزز صورة الطبيعة الموحشة والقاسية من البنية الدلالية الأخرى، والتي تمنح هذه النصوص تماسكها الداخلي، وهي فكرة الإنسان وهو في واجهة القوى الخارجية التي تهجم عليه من كل جانب وتحاول وتحطيمه وقتله. تلك القوى التي تمثلها الطبيعة والقدر وقوى الاضطهاد والعنف في المجتمع. وهنا نجد الإنسان وهو في صراع دائم من أجل بقاءه ومن أجل حياة الحد الأدني التي تحفظ له كرامته وأمنه. وإنسان هذه النصوص ليس بالكائن الضعيف المهزوم والمستسلم رغم كل تلك القوى الخارجية التي تحاول النيل منه. فهو أقرب إلى إنسان روايات الكاتب الأمريكي أرنست همنغواي، قد تهزمه مصاعب الحياة مرات عديدة، ولكنها لا تتمكن من تحطيمه أو كسر عزيمته. إنه إنسان الأمل اليائس، الأمل الذي يحضر ليس بوصفه محاولة لتقبل الحياة ولكن لأنه هو الحياة ذاتها وهو العزيمة التي لن يتخلى عنها ذلك الإنسان أبداً.
وبهذا تنتصر نصوص هذه المجموعة للإنسان رغم ضعفه وقلة حيلته وتكالب قوى الطبيعة والقدر عليه ولكنها أبداً لن تتمكن من كسر عزيمته وثقته بالأمل الكامن في الغد الآتي.
لقد نجحت هذه النصوص المتنوعة في رسم مشاهد شعرية غنية بالدلالات والإيحاءات العميقة والتي تجعل من تجربة قراءتها رحلة مثيرة في عوالم شعورية ونفسية مثيرة تمنح المتلقي فسحة للتأمل الفلسفي الانعكاسي بالحياة بالوجود وبالذات، وتعطيه الدافع من أجل مواصلة الصمود والأمل بحياة كريمة تستحق أن تعاش.







الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نقد ثقافي
- الذات والممارسة السدية


المزيد.....




- راهبتان برازيليتان تفاجئان مقدم برنامج ديني بالرقص والغناء
- 37 مليون جنية في أسبوع واحد بس! .. ايرادات فيلم مشروع اكس بط ...
- -أريد موتًا صاخبًا لا مجرد عدد-.. ماذا قالت بطلة فيلم وثائقي ...
- هونر تشعل المنافسة بين الهواتف العملاقة بهاتفها HONOR X9c ال ...
- -صحفيو غزة تحت النار-.. فيلم يكشف منهجية إسرائيل في استهداف ...
- شاهد/استقبال حافل بالورود للفنان الايراني همايون شجريان في ا ...
- ايران وحق تخصيب اليورانيوم.. والمسرحيات ا?مريكية الاسرائيلية ...
- “متفوتش الحلقة الأخيرة” القنوات الناقلة بجودة عالية القنوات ...
- ترامب يفرض رسوما جمركية بنسبة 100% على صناعة الأفلام السينما ...
- أهالي غزة يجابهون الحرب بالموسيقى وسط الدمار والحصار


المزيد.....

- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - معن ذياب الطائي - المشهد الشعري في (الهروب الى الغرق )