احمد خلدون
الحوار المتمدن-العدد: 8355 - 2025 / 5 / 27 - 01:04
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تُقدم التجربة البلغارية نظرة عميقة على كيفية تطور الدعاية السياسية في بلد يمر بمرحلة انتقالية معقدة، من إرث الحكم الشيوعي الشمولي إلى تحديات الديمقراطية الحديثة. هذه التجربة، التي تُظهر صراعاً بين الماضي والحاضر، وتأثير الإرث الديكتاتوري على الممارسات الديمقراطية، تحمل في طياتها دروساً مهمة للعراق الذي يمر أيضاً بمرحلة انتقالية مضطربة بعد عقود من الحكم الشمولي، ويواجه تحديات مماثلة في بناء مؤسسات ديمقراطية مستقرة وإعلام حر.
الإرث التاريخي والمظاهر المعاصرة للدعاية السياسية
لخمسة وأربعين عامًا بعد عام 1944، سيطرت الأيديولوجية الشيوعية على الحياة الثقافية ونظام المتاحف في بلغاريا بشكل كامل. كانت المتاحف تابعة للدولة، وكان هدفها الرئيسي جمع المواد المتعلقة ببناء الاشتراكية، وصُممت المعارض لتسليط الضوء على إنجازات الحزب الشيوعي، وإظهار "الوجه الحقيقي لأعداء الطبقة العاملة"، وعكس الدور القيادي للحزب. أُعيد تفسير الأشياء والأحداث التاريخية لإعطاء معانٍ جديدة ومنحازة أيديولوجيًا، بما يخدم الرواية الرسمية. كانت الدعاية المعادية للدين منتشرة، وخضعت الكنيسة الأرثوذكسية للدولة بشكل كامل. هذا الإرث الشمولي ترك بصمة عميقة على الوعي الجمعي والممارسات الإعلامية في البلاد.
بعد سقوط "الاشتراكية" في عام 1989، شهدت بلغاريا تحولات ديمقراطية جذرية، بما في ذلك اعتماد دستور ديمقراطي جديد، ونظام متعدد الأحزاب، وانتخابات حرة. شهدت هذه الفترة إدخال كلمات وآليات لغوية جديدة في اللغة السياسية، مما يعكس التغييرات في الإعلان السياسي والانفتاح النسبي. ومع ذلك، لم تختفِ ممارسات الدعاية القديمة تماماً، بل تكيفت مع السياق الجديد.
فيما يتعلق بالدعاية والتلاعب المعاصرين، تستخدم الإعلانات السياسية في بلغاريا "استراتيجيات التلاعب اللغوي" – مزيجًا من العبارات والتعبيرات اللغوية الصحيحة/الخاطئة (المعجمية والأسلوبية والصرفية) للتلاعب بالجمهور والناخبين خلال الحملات الانتخابية. يشمل ذلك "اللعب باللغة" من خلال الاقتباسات المبتورة، والعبارات الغامضة، والاستعارات المضللة، وحتى إنشاء كلمات جديدة لتشويه الحقائق أو إخفاء الأهداف الحقيقية. تركز الحملات على بناء العلامة التجارية للمرشحين والأحزاب، واستخدام شعارات ناجحة، وتقديم "رسائل سهلة" ومبسطة تُخاطب العواطف بدلاً من العقل. يتم التركيز على "بيع" كاريزما المرشح والتكرار الواعي للرسائل، حتى لو كانت فارغة من المضمون. وقد تميزت الانتخابات الأخيرة بحملات تضليل روسية واسعة النطاق على منصات التواصل الاجتماعي، وادعاءات متكررة بشراء الأصوات، مما يُشير إلى استمرار ضعف المؤسسات الديمقراطية. تتبنى بعض المشاريع السياسية المعادية للغرب سرديات اليمين المتطرف المحافظة للغاية لفلاديمير بوتين وحزبه "روسيا الموحدة"، وتظهر عداءً تجاه مجتمع الميم والمجتمع المدني، وتدعي أنها المدافعة عن السيادة الوطنية والقيم المسيحية الأرثوذكسية، مما يُعزز من الانقسامات المجتمعية.
التأثير على الاستقرار السياسي وحرية الإعلام: تحذيرات للعراق
لقد شهدت بلغاريا عدم استقرار سياسي كبير، مع سبع انتخابات في ثلاث سنوات فقط. وقد أدى ذلك إلى ركود سياسي مزمن، ونقص حاد في الثقة بين الأحزاب والجمهور، وانقسامات قوية بين الكتل السياسية، مما منع تشكيل حكومة مستقرة وفعالة. هذا يُظهر كيف أن استمرار ممارسات الدعاية التلاعبية، وضعف المؤسسات، يمكن أن يُقوض الاستقرار الديمقراطي.
فيما يتعلق بالمشهد الإعلامي البلغاري، الذي يُعد مرآة لممارسات الدعاية:
التحيز التاريخي: تاريخيًا، تتمتع وسائل الإعلام البلغارية بسجل من التقارير غير المتحيزة، لكنها معرضة لخطر التأثير السياسي بسبب نقص التشريعات القوية لحمايتها من التدخلات.
التأثير السياسي والاقتصادي: تتأثر وسائل الإعلام بشكل كبير بالمصالح السياسية والاقتصادية لمالكيها والمعلنين الرئيسيين. زاد تركيز الملكية الإعلامية في أيدي قلة، والعديد من شبكات التلفزيون الرئيسية مملوكة مباشرة لرجال أعمال ذوي صلات سياسية وثيقة بالحكومة أو الأحزاب النافذة. يمول الأوليغارشيون الموالون للحكومة أو المؤسسات الأجنبية العديد من المنظمات الإخبارية، مما يقلل من استقلاليتها ويُحولها إلى أبواق دعائية.
التحيز والمحتوى المدفوع: يتكون جزء كبير من تغطية الانتخابات من محتوى حزبي مدفوع غير مصنف بوضوح كإعلان، مما يُضلل الجمهور. تُعد التغطية غير المتناسبة لبعض الأحزاب السياسية و"حملات التشهير" الممنهجة ممارسات غير عادلة وشائعة تُقوض نزاهة العملية الانتخابية.
الدرس العراقي: العراق أيضاً مر بتجارب أنظمة حكم تستخدم الدعاية المكثفة لخدمة أجندتها، من النظام الملكي إلى الجمهوري ثم البعثي، حيث كانت وسائل الإعلام الرسمية أدوات للدولة والحزب الحاكم، تُعيد تفسير التاريخ وتُشكل الوعي الجمعي. اليوم، وعلى الرغم من وجود دستور ديمقراطي وحرية إعلام نسبية بعد عام 2003، فإن الإعلام العراقي يعاني من مشكلة التحيز والتبعية لأحزاب أو جهات معينة، مما يُقلل من استقلاليته ومصداقيته. إن تركيز ملكية القنوات الفضائية والصحف في أيدي قلة من رجال الأعمال والسياسيين هو ظاهرة مألوفة في العراق، مما يُضعف من قدرة الإعلام على أداء دوره الرقابي. "شراء الأصوات" و"التلاعب بالوعي" هي اتهامات تتردد في كل انتخابات عراقية، وتُشكل تحدياً حقيقياً لنتائجها، مما يثير تساؤلات جدية حول نزاهة العملية الانتخابية في ظل غياب الرقابة الفعالة وتطبيق القانون الصارم. إن إرث الدعاية الشمولية، وضعف الإعلام المستقل، والتدخلات الخارجية، كلها عوامل تضع الديمقراطية العراقية الهشة أمام اختبار حقيقي، وتُبرز الحاجة الملحة لتعزيز الوعي المدني والصحفي، وتطوير تشريعات تُحصّن الإعلام من التبعية والتحيز. إن عدم الاستقرار السياسي الذي شهدته بلغاريا، مع الحكومات المتغيرة باستمرار، يُعد تحذيراً للعراق الذي يُعاني أيضاً من تحديات في تشكيل حكومات مستقرة وفعالة، مما يُعيق عملية البناء والتنمية.
#احمد_خلدون (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟