|
جورج متى فاضل وثيقة تاريخية
آرام كربيت
الحوار المتمدن-العدد: 8351 - 2025 / 5 / 23 - 16:06
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
بمناسبة ذكرى «اغتياله» : «روبسبير البعث» صلاح جديد ... رائد بلا أتباع مقتطفات تنشر للمرة الأولى من آخر رسالة مجهولة أرسلها «جديد» إلى «فالتر أولبرخت» زعيم ألمانيا الديمقراطية صيف العام 1970 عن «صهاينة الكريملن الذين يعملون خدماً عند البيت الأبيض و غولدا مائير»! .... ومن محادثته المجهولة في زنزانته في مقر «آمرية القوى الجوية» مع الفريق «سلطان محميدوف» و السفير السوفييتي «محيي الدينوف» ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ في وقت مبكر، وفي مثل هذا اليوم من العام 1993 ، و وفق معلومات وقرائن متقاطعة، «اغتيل» صلاح جديد طبياً في مشفى تشرين العسكري من قبل زبانية مصطفي طلاس (بمعرفة الأسد طبعاً)، بعد نقله عنوةً (دون مبرر) من مشفى المزة العسكري الذي يتبع له سجن المزة العسكري طبياً. كان طلاس أكثر الحاقدين على جديد والكارهين له في النظام. ولطالما تحدث في مناسبات رسمية مختلفة، حتى في الصحف الرسمية، عن جديد ورفاقه بلغة سوقية شوارعية. وأذكر أنه زارنا في "قاعدة الاستطلاع الجوي"(اللواء 82 / إدارة الاستطلاع الجوي لاحقاً) في "مرج السلطان" بغوطة دمشق الشرقية في تشرين الأول 1985 بمناسبة "عيد القوى الجوية والدفاع الجوي" وألقى خطاباً مليئاً بمهاتراته وبذاءاته المعروفة، وقال حرفياً – في معرض تعريضه بصلاح جديد ورفاقه - " كان هؤلاء يحاربون الناس في أرزاقهم وأخلاقهم". وفي اليوم التالي نشرت الصحف الرسمية كل ما قاله. وكان يقصد بذلك أن جديد ورفاقه "حاربوا الفساد ومنعوا السرقة وحاولوا نشر العلمانية المعادية للتقاليد الإسلامية الرجعية، وعمليات التأميم"! فمن المعلوم أنهم كانوا "بيوريتانيين" (طهرانيين) و وطنيين حقيقيين، ولهذا كان من الطبيعي أن يشتبكوا مع الجناح الآخر في النظام، الذي مثله الأسد وطلاس وخدام وغيرهم. هذا فضلاً عن صراعهم الأساسي حول الموقف من "القرار 242" الصادر عن مجلس الأمن في العام 1967، والذي يتضمن اعترافاً بإسرائيل. وكان جديد ورفاقه يرفضون الاعتراف بالقرار، بخلاف الأسد ومجموعته. ولهذا كان أول قرار اتخذه الأسد ورفاقه بعد أيام من انقلابهم البريطاني - السعودي في 13 تشرين الثاني 1970 هو الاعتراف بإسرائيل من خلال الاعتراف بالقرار. ولاحقاً كرر الأسد ما هو ألعن من ذلك في مقابلة مع رئيس تحرير مجلة "نيوزويك " الأميركية، أرنو دو بورشغريف Arnaud de Borchgrave ، بتاريخ 10 حزيران 1974، عشية وصول نيكسون وكيسنجر إلى دمشق(1). وفي هذه المقابلة ( التي أخضعها الإعلام الرسمي السوري لمشرط الرقابة عند ترجمتها) وصل الأمر بالأسد إلى نفي وجود شيء اسمه "الشعب الفلسطيني"، واعتبره "مجرد جزء من الشعب السوري، نحن نمثله وليس منظمة التحرير الفلسطينية"، و القول حرفياً "إن دعوة منظمة التحرير لإزالة إسرائيل هو انتهاك للقانون الدولي"! وهذا لم يقله سوى حكام الغرب، ولم يتجرأ على قوله عربي واحد بشكل علني حتى اليوم، بما في ذلك المطبعون والذين أبرموا اتفاقيات "سلام" مع إسرائيل! لم يكن الصراع آنذاك سوى صراع نموذجي ومعياري جداً تكرر ، من وجهة نظري، في جميع المجتمعات التي عرفت ظاهرة اسمها "استحالة الحكم"، نتيجة عدم وجود برجوازية وطنية قادرة على الحكم بمفردها، فأصبح الجيش هو "الطبقة الوحيدة القادرة على الحكم" أو "حزب الطبقة التي لا حزب لها". وهو ما حصل في كل مكان عرف الوضع نفسه، منذ الثورة الفرنسية التي افتقدت لوجود هكذا طبقة، فعرفت ظاهرة "اليعاقبة" (بزعامة مكسيميليان روبسبير المتحالف مع "الصان كيلوت" / اللامتسرولين)، أي الجناح اليساري في السلطة، في مواجهة "الجيروند" ( الجبليين)، أي التيار الرجعي المحافظ . وهو صراع يؤدي حتماً إلى انقلاب بونابرتي. وهكذا كان "جديد" بمثابة " اليعقوبي / روبسبير البعث" بينما كان "الأسد" بمثابة "بونابرت البعث". ولهذا ليس محض مصادفة أن أفكار "جديد" وورفاقه وسياساتهم كانت "يعقوبية" بامتياز، فيها ترجيع صدى عميق قادم من مناخات الثورة الفرنسية لأفكار "روبسبير" و "ميرابو" و بقية "اليعاقبة" قبل أن تطيحهم شفرات المقصلة التي جعلت من الثورة الفرنسية "قطة تأكل أولادها"! كان النظام اتخذ قراراً مطلع التسعينيات بإطلاق سراح من تبقى من أعضاء "القيادة السابقة"(حوالي 17 معتقلاً) بعد أن توفي رئيس الدولة الدكتور نور الدين الأتاسي في المشفى في باريس في العام 1992 بعد 23 عاماً من السجن أيضاً. لكن هذا كان غير ممكن طالما بقي صلاح جديد على قيد الحياة، وطالما لم يوافق على الشروط التي عرضت عليه في أكثر من مناسبة مقابل حريته. ولهذا لم يكن هناك من حل، من وجهة نظر النظام، سوى تصفيته طبياً. بالطبع ليس هناك وثيقة تثبت ذلك، كما في معظم الحالات المشابهة. إلا أن إفادات وشهادات متقاطعة لسجناء سابقين وضباط في الشرطة العسكرية (سجن المزة) و أطباء في كل من "مشفى المزة العسكري" و"مشفى تشرين العسكري" تلتقي في التأكيد على أن "جديد" لم يكن يعاني من مشاكل صحية جدية تفضي إلى الموت، بل مجرد شكوى من أعراض مرضية في الجهاز البولي نتيجة السجن والجلوس الطويل (حوالي 23 عاماً متواصلة)، و أمور مشابهة لذلك. وتؤكد هذه الشهادات أنه ، حين جرى نقله من "سجن المزة" مساء 18 آب كان يمشي بشكل طبيعي مع ضابط الدورية والطبيب ومدير السجن (العقيد بركات العش) من داخل السجن حتى ساحة السجن في الخارج حيث كانت تنتظره سيارة الدورية. ولم يكن بحاجة إلى أي مساعدة في المشي. وبعد وصوله إلى "مشفى المزة" جرى نقله في ساعة متأخرة من اليوم نفسه إلى "مشفى تشرين العسكري" حيث فارق الحياة بعد وقت قصير! ولذلك ،بالمناسبة، هناك التباس في التاريخ الدقيق لوفاته، وما إذا كان في ساعة متأخرة من 18 آب أم في ساعة مبكرة من 19 آب، علماً بأن التاريخ الرسمي المعلن هو 19 منه. ومع ذلك، تبقى "الشهادة الشفهية" غير المنشورة حتى اليوم لطبيب التخدير (أو طبيب التحليل المخبري، فلا أذكر اختصاصه تماماً) في مشفى تشرين ، المقدم ، آنذاك، أسامة جميل حسن ، الابن البكر للواء جميل حسن داود، رئيس شعبة التنظيم والإدارة سابقاً، ذات أهمية بالغة. وبحسب أحد أصدقائه الأطباء ممن سمعوا منه الشهادة في جلسة خاصة، وسمعتها أنا بدوري من هذا الأخير قبل سنوات في ألمانيا، فإن "جديد" توفي "بقطع جهاز التنفس عنه بعد أن جرى إقناعه بأنه بحاجة لعملية جراحية طارئة"! وربما يأتي يوم يستطيع الطبيب المذكور الإدلاء بشهادة رسمية تقطع الشك باليقين. على أي حال، وأياً تكن دقة أو صحة هذه الوقائع "الجنائية - البوليسية"، ورغم أهميتها بذاتها، فإنها تبقى "ثانوية" حين يتعلق الأمر بدراسة تجربة هذا الرجل ورفاقه على مستوى أفكارهم السياسية والأيديولوجية وبرامجهم وطريقة إدارتهم للصراع مع خصومهم اليمينيين الذين قادوا البلاد بعد ذلك إلى الخراب المعمم الذي تعيشه سوريا منذ سنوات طويلة. إلا أن ما يمكن قوله مبدئياً، كما قال تقرير رفعه سفير ألمانيا الديمقراطية في دمشق آنذاك، "ألفرد مارتر Alfred Marter "، إلى وزير الخارجية "أوتو فينزر Otto Winzer"، بعد انتهاء مهمته في دمشق في العام 1972 وعودته إلى برلين، إنهم "كانوا مجموعة من الدراويش البيوريتانيين (الطهرانيين) على مستوى الممارسة السياسية، بحيث أن الأسد استطاع أن يدير معركته معهم على مدى عامين، وأن ينتصر عليهم بعد ذلك بسهولة لافتة، دون إراقة قطرة دم واحدة. وهذا لا يغير بأي حال من حقيقة أنهم كانوا نخبة وطنية من أشرف وأنزه وأنبل ما عرفته سوريا في تاريخها الحديث". لم تصدر حتى الآن دراسة علمية حقيقية عن "صلاح جديد" كفرد و"كظاهرة" في سوريا. أما ما ينشره ويعلكه المشعوذون ممن يعتبرون أنفسهم رفاقه وامتداداً له ، فليس سوى انطباعات خاصة وتهويمات في أفضل الحالات، وحكي عجائز طيبين لاقيمة علمية أو تأريخية له، ولا معنى له في علم الاجتماع والتاريخ والسياسة. فصلاح جديد، وبالتعبير الدقيق، "رائد بلا أتباع"، عاش يتيماً سياسياً وأيديولوجياً ، ومات كذلك. مع هذا، ثمة وثيقتان بالغتا الأهمية تلقيان الضوء على جانب هام جداً من الطريقة التي كان يفكر بها الرجل. وهاتان الوثيقتان مجهولتان تماماً حتى بالنسبة لرفاقه آنذاك و مشايعيه لاحقاً، وللمؤرخين عموماً. والصدفة وحدها سمحت لي بالإطلاع عليهما والحصول على صورة منهما. لكن للأسف ليس لي الحق بنشرهما، لأن حقوق ملكيتهما تعودان لصاحبهما. ـ الوثيقة الأولى: محضر لقاء قصير بين "جديد" والسفير السوفييتي "نور الدين محيي الدينوف"(2): =========================================== في 15 تشرين الثاني 1970، وبعد اعتقال "جديد" بيومين، حاول السوفييت رمي آخر ورقة في أيديهم لإجراء مصالحة بين "المجموعتين" (جديد ورفاقه من جهة و الأسد ومجموعته من جهة ثانية)، وتجنيب سوريا حصول انقلاب عسكري آخر، بحيث تكون المصالحة والتسوية لصالح "الأسد" وخياراته السياسية الإقليمية دون أن يخسروا الفريق الآخر؛أي جمع ما لا يمكن جمعه! ولذلك، وبناء على توجيهات موسكو، توجه السفير السوفييتي في دمشق "نور الدين محيي الدينوف" إلى زنزانة "جديد" في مقر القوى الجوية (الآمرية) واجتمع به لحوالي نصف ساعة. وكان بصحبته الفريق " سلطان محميدوف"، رئيس البعثة العسكرية السوفييتية في دمشق(كبير الخبراء السوفييت ومستشار وزير الدفاع / الأسد) . ما كان يهم السوفييت آنذاك، ومنذ العام 1967، هو أن توافق سوريا على قرار مجلس الأمن 242 الذي يتضمن اعترافاً بإسرائيل وإبرام تسوية معها وفق القرار، وأن تتخلص من "المجموعة اليسارية المغامرة التي لاتسبب لنا سوى المشاكل مع الولايات المتحدة في الشرق الأوسط"، كما كانت الأدبيات الرسمية السوفييتية تصف "جديد" ورفاقه، و وقف الهجمات الفلسطينية على إسرائيل من داخل الأراضي السورية . ولهذا كان هذا الأمر أول ما طرحه "محيي الدينوف" على "جديد" مقابل " تعهد موسكو وضمانها بوقف العملية الانقلابية التي يقودها الرفيق الأسد وإعادة الأمور إلى طبيعتها". لكن "جديد" رفض ذلك بشكل قاطع، وقال للسفير "إن القرار يتضمن اعترافاً بإسرائيل، ويُسقط بشكل تام حقوق الشعب الفلسطيني حتى كلاجئين. وفوق ذلك كله يعطي الحق لإسرائيل حتى بالاستيلاء على أراضٍ سورية إذا ما جرى تفسيره وفق النسخة الإنكليزية التي تتحدث عن أراضٍ تحتلها إسرائيل وليس عن الأراضي بالمعنى الشامل كما يمكن فهمه من النسخة الفرنسية. وهذا لا يمكن أن أوافق عليه بأي شكل من الأشكال". واللافت أن "جديد"، كما بقية رفاقه على ما يبدو، لم يكن يعتقد أن "الأسد" قادر على الاستمرار في عمليته الإنقلابية أكثر من بضعة أشهر. وهنا جانب من جوانب"الدروشة" التي تحدث عنها السفير الألماني / الشرقي في تقريره. فقد أردف "جديد" في حديثه مع "محيي الدينوف" بالقول" على كل حال، قريباً يا سعادة السفير سيكتشف الشعب السوري خطورة المشروع الذي يقوده إليه الرفيق حافظ الأسد. ومن المؤكد أنه (الشعب السوري) لن يقبل بذلك مهما تَكلّفَ من تضحيات"! للأسف لم يكن "جديد" يدرك على نحو عميق أن الشعب السوري كان أصبح في مكان آخر، وأن نخبته الاجتماعية (كما سيعبر رئيس اتحاد غرف التجارة السورية "بدر الدين الشلاح" بعد سنوات)، أصبحت معنية بالتصالح مع إسرائيل، وقضاء لياليها الترفيهية في مطاعم حيفا، وإحياء فرع الخط الحديدي الحجازي (بين درعا وحيفا)، أكثر مما تعنيها القنيطرة أو الجولان، فكم بالأولى فلسطين نفسها! وبحسب تقرير "محيي الدينوف" إلى وزير الخارجية " أندريه غروميكو" و "وزير خارجية الظل"،"بوريس بونوماريف"، سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي ومسؤول العلاقات الخارجية في الحزب، فإنه التقى أيضاً في اليوم نفسه رئيس الدولة الدكتور "نور الدين الأتاسي" في منزله (لم يكن اعتقل بعد)، وشعر منه أنه "أكثر مرونة من رفيقه العنيد ،جديد، الذي لا يزال يعتقد وهو في زنزانته أنه قادر على طرد الولايات المتحدة من العالم العربي والقضاء على إسرائيل، وأنه (أي الأتاسي) لا يمانع في الوصول إلى تسوية معينة مع الأسد تجنب سوريا خضة جديدة، ويمكن للرفاق السوفييت أن يلعبوا دور الوساطة فيها "! وفي ساعة متأخرة من اليوم نفسه، 15 تشرين الثاني، جاءت برقية جوابية من موسكو إلى سفيرها "محيي الدينوف" تطلب منه إبلاغ "الأسد" بأن "يمضي في عمليته"، أو بتعبيرنا نحن في بلادنا "خليه يتوكل على الله ويريحنا منهم"! وفي اليوم التالي، 16 تشرين، صدر "بيان القيادة القطرية المؤقتة" الذي أعلن رسمياً الإطاحة بالقيادة السابقة قبل أن تكر سبحة الاعتقالات بحق رفاق "جديد" الآخرين (الدكتور الأتاسي والدكتور زعين ...إلخ)،باستثناء وزير الخارجية الدكتور "ابراهيم ماخوس" الذي قام السفير الجزائري في دمشق بتهريبه بسيارته الخاصة إلى لبنان، ومن هناك إلى الجزائر، كنوع من الوفاء الجزائري نحوه وهو الذي أدى خدمته العسكرية كطبيب (مع الدكتور نور الدين الأتاسي والدكتور يوسف زعين وآخرين) في صفوف "جبهة التحرير الوطني الجزائرية" خلال حرب الاستقلال. أما الفريق " سلطان محميدوف" فتولى بنفسه من مقر "سرايا الدفاع" في القابون، وبالتنسيق مع السفير "محيي الدينوف"، إدارة عملية انقلاب "الأسد"، بما في ذلك الإشراف على اعتقال بقية رفاق "جديد" و السيطرة على دمشق! ـ الوثيقة الثانية : رسالة "صلاح جديد" المجهولة إلى زعيم ألمانيا الديمقراطية "فالتر أولبرخت"(3): ====================================== يوم الخميس، 15 آب 1970، أي قبل انقلاب الأسد بثلاثة أشهر، أرسل "جديد" رسالة خاصة إلى زعيم ألمانيا الديمقراطية "فالتر أولبرخت" شكره فيها على إيفاده كلاً من الفريق "هورست يينكه"، نائب مدير المخابرات الخارجية ومسؤول "دائرة العالم الثالث وحركات التحرر الوطني" فيها، وزميله "بول ماركوفسكي"، عضو المكتب السياسي في اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي الألماني الموحد ورئيس دائرة تصفية الاستعمار في اللجنة المركزية، للاطلاع على الأزمة في "حزب البعث" (بين جديد ورفاقه من جهة و الأسد من جهة أخرى). ومن الواضح أن "أولبرخت" تقصد إرسال الفريق "هورست يينيكه" لأنه كان يحمل معلومات أمنية حصل عليها جهاز مخابراته من عملائه في بريطانيا عن "الأسد". ومن المعلوم، وكما ظهر لاحقاً، أن المخابرات الخارجية لألمانيا الديمقراطية كانت تخترق أجهزة مخابرات دول الحلف الأطلسي وتخردقها طولاً وعرضاً بفضل رئيسها العبقري "ماركوس فولف". ومما جاء في رسالة "جديد" بهذا الخصوص : "في البداية أود أن أشكر لكم مبادرتكم الكريمة في إيفاد الرفيقين (بول ماركوفسكي)و ( هورست يينيكه) مؤخراً للاطلاع آخر تطورات الأزمة التي يواجهها حزبنا منذ حوالي عامين بسبب ممارسات النهج اليميني الانتهازي الذي يقوده رفيقنا وزير الدفاع، حافظ الأسد، والتي ترتبط دون أدنى شك بزياراته إلى لندن ولقاءاته المشبوهة هناك بمشاركة ورعاية النظام الرجعي السعودي ورئيس جهاز مخابراته كمال أدهم، المرتبط بوكالة المخابرات المركزية. وبهذه المناسبة أود أن أشكركم على المعلومات المهمة التي زودتمونا بها فيما يخص تلك اللقاءات التي تؤكد أن سلوك رفيقنا المذكور ومجموعته لا يمكن أن يكون منفصلاً على الإطلاق عن المشاريع التي تعدها لمنطقتنا قوى الإمبريالية الأميركية – البريطانية بالتعاون والتنسيق مع النظام الصهيوني في فلسطين المحتلة والرجعية العربية، لاسيما النظام الأردني العميل لإسرائيل، الذي أخذ على عاتقه مهمة تصفية القضية الفلسطينية وثورة أبناء الشعب الفلسطيني من أجل التحرر الوطني". ويتابع "جديد" في رسالته : " لقد استمعت بتركيز شديد إلى الأفكار التي حملها الرفيقان (ماركوفسكي) و(يينيكه)، وحاولت أن أجيب بأقصى درجة ممكنة من الدقة و الشفافية على أسئلتهما التي تعبر عن حرصكم النبيل على استمرار النهج التقدمي في الجمهورية العربية السورية، وعن قلقكم بشأن الأزمة التي يعيشها حزبنا و وطننا. إنني أدرك أن الرفيقين (ماركوفسكي) و( يينيكه) نقلا لكم بأمانة ودقة النتائج التي خلصا إليها من لقاءاتهما هنا، لكني رأيت أن من واجبي أن أكتب لكم بشكل خاص في ضوء بعض التطورات والمعطيات التي استجدت بعد سفرهما. ـ إننا نفكر جدياً بعقد مؤتمر وطني استثنائي لحزب البعث العربي الاشتراكي يكون على رأس جدول أعماله محاسبة الرفيق وزير الدفاع ومجموعته التي تمكنت خلال العامين الماضيين،بسبب عدد من الأخطاء التي ارتكبناها، وبسبب نوايانا الصادقة،من وضع يدها على القوات المسلحة بعيداً عن سياسة الحزب وقيادته. وهنا أود اغتنام الفرصة للإشارة إلى أن التدخل السلبي الذي يقوم به الرفاق السوفييت، من خلال الرفيق السفير (محي الدينوف) والفريق (سلطان محميدوف)، رئيس البعثة الاستشارية العسكرية السوفييتية، لدعم المجموعة اليمينية أصبح سافراً ومكشوفاً. وقد وصل هذا التدخل إلى حد تحريض المجموعة ضد قيادة الحزب ودعوتها للتخلص ممن تسميهم ( اليساريين الماويين المغامرين الذين يريدون توريط الاتحاد السوفييتي ومنطقة الشرق الأوسط في مواجهات وحروب)! إن الرفيقين (محي الدينوف) و (محميدوف)، اللذين يرسلان تقاريرهما التحريضية إلى موسكو، يعرفان أنه لا يوجد (ماويون) في حزبنا، ولكنهما يعتقدان أن مجرد الإشارة إلى وجود (الماوية) في سوريا يكفي لإصابة رؤسائهما (في موسكو) بالذعر ودفعهم إلى القيام بأعمال غير مسؤولة". وبعد شرحه خلفيات الاتهام السوفييتي له ولرفاقه بـ "الماوية" ، يكشف "جديد" خفايا بعض ما جرى معه خلال زيارته إلى موسكو في العام 1967، وكيف تعامل معه برجينيف ورفاقه كما لو أنه "متهم في مخفر شرطة"، ليتساءل عما إذا كان "برجينيف" يعمل ممثلاً للأميركيين ولغولدا مائير رئيسة الوزراء الإسرائيلية. فيقول : "في الواقع، ورغم أن علاقتنا العسكرية بالرفاق الصينيين والفيتناميين لم تكن ذات أهمية في العام 1967، إلا أن الرفيق بريجينيف استغل زيارتي إلى موسكو في يناير من العام المذكور ليلعب دور الشرطي الذي يحقق مع مجرم. فقد كرس جزءا كبيرا من اللقاء، الذي كان مفترضاً أن يخصص لتعزيز القدرات العسكرية لجيشنا، من أجل (التحقيق معي) عن (انتشار الماوية في حزبنا) وعن (علاقتنا مع الصينيين والفيتناميين)! ولم يكتف بذلك، بل مارس ضغطا كبيرا من أجل إقناعي بأن نبرم تسوية مع إسرائيل بشأن مشكلة نهر الأردن كخطوة أولى على طريق إبرام اتفاقية سلام مع إسرائيل. وقد تعهد بأن يلعب الاتحاد السوفييتي دوراً في ذلك. وفي الحقيقة لم أكن أعرف ما إذا كان (برجينيف) مجرد سمسار لـ(مئير)و (نيكسون)، وما إذا كنتُ مجتمعاً مع زعيم (البيت الأبيض)أم (زعيم البروليتاريا العالمية)! الأكثر مرارة من ذلك هو أن اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي أعطت توجيهات للصحف السوفييتية بشن حملة تشهير ضدي وضد رفاقي باعتبارنا (مجموعة من المغامرين الذين يريدون تحويل سوريا إلى كوبا الشرق الأوسط، وتوريط الاتحاد السوفييتي في مواجهة مع الإمبريالية وإسرائيل)! وقد فعلوا الأمر نفسه عند زيارة الرفيق رئيس الدولة، الدكتور نور الدين الأتاسي، في مايو 1966. وقد فهمت من الرفيق ألكسندر ساخاروفسكي[ مدير المخابرات الخارجية في الاتحاد السوفييتي]، الذي يتحلى بروح أممية حقيقية وبدا أنه ضد هذا المنطق، أن الرفيق برجينيف هو شخصياً من وقف وراء هذه الحملة من خلال اللواء (تسفيغون)! والأمر المفجع، إذا ما صدقت تسريبات وسائل إعلام العدو الصهيوني، فإن السفير السوفييتي في إسرائيل( ديمتري تشوفاخين Dmitry Chuvakhin) دعا الحكومة الإسرائيلية خلال الفترة نفسها إلى (تأديب المجموعة المغامرة الحاكمة في دمشق بسبب موقفها من موضوع نهر الأردن)(4)! (....) المفارقة في الأمر أن "أولبرخت" الذي كتب له "جديد" هذه الرسالة، لن يتأخر عن ملاقاة المصير نفسه ، ولكن ليس في السجن. فبعد انقلاب "الأسد" ببضعة أشهر أمر "برجينيف" بعقد مؤتمر للحزب الاشتراكي الألماني الموحد وإزاحة "أولبرخت" من الأمانة العامة وتعيين "إريش هونيكر" مكانه! ولم ذلك إلا لأن "هونيكر" كان من أنصار تعميق العلاقة مع "ألمانيا الغربية" ، وهذا ما كان يريده "الكريملن" آنذاك! وكان "أولبرخت"، صاحب التاريخ النضالي العريق منذ زمن الكفاح ضد النازية الهتلرية، ثم مع "الألوية الأممية" خلال الحرب الأهلية الإسبانية ضد نظام "فرانكو"، ينظر بعين الريبة إلى السياسة السوفييتية وانتهازيتها ودورها في التآمر على حركات التحرر الوطني في كل مكان، فضلاً عن تواطؤها مع الولايات المتحدة على وقف البرنامج النووي السري في ألمانيا الديمقراطية! أما الكريملن فلم يكن يرى في "أولبرخت" إلا "صانع مشاكل للاتحاد السوفييتي مع الولايات المتحدة وأوربا الغربية"، ولذلك كان لا بد من التخلص منه أيضاً كما جرى التخلص من "جديد" ورفاقه! ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إشارات خاصة: (1) ـ نوه "كيسنجر" في الجزء الثاني من مذكراته (سنوات القلاقل) بما أسماه "الشجاعة" الاستثنائية التي أبداها الأسد في مقابلته مع "نيوزويك" و اعتبرها من أجمل الهدايا التي تلقاها هو والرئيس نيكسون عشية زياتهما إلى دمشق: Henry Kissinger: Years of Upheaval, 1982, p.1133. (2+3) ـ كل ما ورد من اقتباسات أعلاه، وما لم تكن هناك إشارة إلى غير ذلك، مأخوذ من الأوراق الشخصية لمدير المخابرات الخارجية في ألمانيا الديمقراطية "ماركوس فولف"، التي تعتمد على تقارير محطة مخابراته في دمشق وعلى برقيات وتقارير سفير بلاده في سوريا آنذاك "ألفرد مارتن". وكذلك من أوراق "فيكتور إسرائيليان"، نائب آخر وزير خارجية سوفييتي. (4) ـ الجنرال "تسفيغون" الذي يشير له "جديد" كان نائب "أندروبوف" على رأس المخابرات السوفييتية، وكان عديل "برجينيف"(زوجتاهما شقيقتان). وقد عينه "برجينيف" نائباً لـ"أندروبوف" كي يتجسس عليه ويحصي أنفاسه. وقد قتل "تسفيغون" في العام 1982 في ظروف غامضة، إلا أن ما أصبح شبه مؤكد هو أن "أندروبوف" و "ميخائيل سوسلوف" (منظر الحزب الشيوعي السوفييتي) وقفا وراء تصفيته بعد ثبوت تورطه في عضوية عصابة المافيا التي كانت تقودها "غالينا بريجينيفا" ، ابنة بريجينيف"، و زوجها "يوري تشيربانوف" نائب وزير الداخلية ، وشقيقها "يوري بريجنيف" نائب وزير التجارة الخارجية، و كبير الخبراء السوفييت في مصر الجنرال "فلاديمير فيودوروف"(الملحق العسكري في سوريا لاحقاً)، لسرقة الماس من المستودعات والمناجم السوفييتية في منطقة "إيخال" وتهريبها إلى إسرائيل، وبيع معلومات تخص أمن الدولة لإسرائيل والولايات المتحدة، بما في ذلك أنظمة التردد في "صواريخ كفادرات" (سام6)!!
#آرام_كربيت (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هواجس جديدة 297
-
هواجس واسئلة ــ 396 ــ
-
هواجس حول الثقافة ــ 395 ــ
-
هواجس ثقافية وسياسية ــ 394 ــ
-
هواجس إنسانية وثقافية ــ 393 ــ
-
هواجس التاريخ ــ 392 ــ
-
هواجس وهواجس 391
-
هواجس خاصة وعامة 390
-
هواجس أدبية ــ 389 ــ
-
هواجس متعددة 388
-
هواجس في الحياة ــ 387 ــ
-
هواجس عن قراءات متعددة 386
-
هواجس عن العلمانية والإسلام ــ 385 ــ
-
هواجس اجتماعية وسياسية عامة 384
-
هواجي عن سجن تدمر ــ 383 ــ
-
هواجس أدبية ودينية ــ 382 ــ
-
هواجس ثقافية ــ 381 ــ
-
هواجس عن الاستبداد والعلمانية 380
-
هواجس عن الاستبداد ــ 379 ــ
-
هواجس أدبية 378
المزيد.....
-
كرات لهب ضخمة أضاءت ليل كييف.. شاهد لحظة شن روسيا هجومًا جوي
...
-
طائرات تستخدم الهواء عوض الوقود.. هل هذا مستقبل الطيران الجو
...
-
بعد 37 عاما.. العثور على تمثال جيم موريسون النصفي المسروق في
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير 3 بلدات جديدة في سومي ودنيتسك
-
خبير: هذه فوائد السلام مع الأكراد على تركيا داخليا وخارجيا!
...
-
لافروف: الغرب يتقبّل تعزيز التعددية القطبية بردود فعل متباين
...
-
الضفة الغربية.. القوات الإسرائيلية تطلق النار على فلسطيني بد
...
-
بيدرسون بحث مع الشيباني أمن واستقرار سوريا والعدالة الانتقال
...
-
كيف نتخلص من حساسية حبوب اللقاح؟
-
العلماء يكتشفون لدى مرض الكوليرا 3 أنظمة دفاع ضد العاثيات
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|