جيلاني الهمامي
كاتب وباحث
الحوار المتمدن-العدد: 8345 - 2025 / 5 / 17 - 04:53
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
عادة ما كان يوم غرة ماي مناسبة للتظاهر بما يتضمن من معان كثيرة سياسية ونقابية وحتى ثقافية أحيانا. لكن ثمة نوايا أخرى كانت ترافق المظاهرات وهي تتمثّل في عملية "استعراض القوة" من كل الأطراف التي تشارك في احتفالات غرة ماي. بعد الثورة انخرط الجميع في هذه "الاستعراضات" بما في ذلك القوى الماسكة بالحكم. فكانت مثلا الترويكا وحركة النهضة وحتى نداء تونس تستغل احتفالات غرة ماي لتعبئة قواعدها وأنصارها لأغراض كثيرة منها إبراز قوتها وقدرتها التعبوية للتدليل على جماهيريتها وبالتالي على أنها جديرة بالحكم. ومن مواقع أخرى ومتباينة كانت القوى المعارضة من مختلف المشارب تنظّم بالمناسبة أيضا استعراضاتها لتأدية معاني مغايرة ولكنها تدور كلها حول إثبات عناصر القوة والتمثيليّة والجدارة.
هذه السنة تجدّدت التجربة وإن في ظروف مختلفة ونزلت كل القوى بما في ذلك السلطة الحاكمة إلى الشارع في مباراة لا غاية منها غير تقديم شواهد القوّة والحضور للتّدليل على الشرعية والجدارة. وما يلفت الانتباه في هذه المباراة مشاركة "حزب الرئيس" قيس سعيد في عملية لاستعراض القوة أمام المسرح أشرف على تنظيمها القصر وسُخِّرَتْ لها كل الإمكانيات المادية واللوجستية لاستقدام الأنصار والأتباع والمريدين من كل فجّ بهدف تحقيق تعبئة "مليونية" تظهر "شعبيّة الرئيس". لكنّ هذه العمليّة باءت بفشل ذريع وخيبت آمال منظّميها.
على هامش ذلك طرحت الكثير من الأسئلة منها ما مغزى أن تعجز السلطة عن تعبئة عشرات الآلاف (على الأقل) رغم كل الإمكانيات التي سُخِّرَتْ لذلك من حافلات ومنح تحفيز وتغطية مصاريف بتدخل من أوساط رسمية على النطاق المحلي والجهوي (ولاة ومعتمدون وعمد) وباستخدام مكثف لوسائل الاتصال الأخرى؟ هذا السؤال يحيلنا في الحقيقة على سلسلة من الأسئلة الأخرى لعل أهمها هل توصّل سعيّد إلى خلق القاعدة الاجتماعية التي يستند إليها؟ وممن تتكون طبقيا هذه القاعدة؟ وما حجمها؟ وهل أصبح قيس سعيد يتمتع بحزامه السياسي الخاص الكفيل بأن تضمن له استدامة كرسي الحكم؟ تطرح هذه الأسئلة أمام العدد الضعيف من الأنصار الذي حضر يوم غرة ماي في وقفة مساندة له أمام المسرح بالعاصمة.
قبل الإجابة عن هذه الأسئلة يجدر أن نسلط بعض الضوء على الطريقة التي وصل بها قيس سعيد إلى الحكم وعوامل نجاحه في ذلك.
قيس سعيد منتوج مسار الثورة المضادة
في السياسة، كما في كل مناحي الحياة الأخرى، لا شيء يحصل صدفة. فكلّ ما يحصل هو نتاج سلسلة سببية طويلة ومعقّدة لا يدركها النّاس بالضرورة على وجه الدقّة. ولذلك يذهب الناس مذاهب شتى في تفسير الأحداث والظواهر وتأويلها. ومن هنا تتأتّى التّفسيرات المثاليّة والعاطفية والانطباعية والميكانيكية والسّطحيّة لما يحصل في المجتمع من أحداث سياسية واجتماعية وغيرها. ذلك ما حصل بالفعل مع ظاهرة الشعبوية منذ ظهورها الأول حتى تمكّنها من الحكم في شخص قيس سعيّد.
ولكن حينما ندقّق النظر في مسار تطور هذه الظاهرة طيلة السنوات العشر التي تلت الثورة يتملّكنا ميل غريب إلى تفسيرها خارج قواعد العقل والجدلية والمنطق، ميل إلى تحكيم دور الحظ إذ لا شيء يمكن ان يبرّر ما حصل غير الحظ والصدفة. والحقيقة، حتى لا نكون مثاليين، هي أن ظروف ومعطيات وتطورات تظافرت كلها تماما كما يحصل في كل الثورات المضادة لتنتج أحيانا كما قال ماركس بصدد لويس نابليون بونابارت الثالث "أن الصراع الطبقي ... قد أوجد الظروف والعلاقات التي مكّنت شخصا سخيفا من متوسط المواهب من أن يؤدّي دور بطل" (1).
لقد كان مفهوما أن تتخذ الثورة التونسية بعد رحيل بن علي ذلك المنحى وتسقط بين براثن التشكيلة الطبقية التي كانت سائدة في عهده كما في عهد بورقيبة وتستمر سجينة لإرادتها سواء بإدراك منها أو من دونه. ولم يكن بن علي يختلف عن سلفه في نهاية التحليل إلا ببعض التفصيل لا أكثر. فالتشكيلة البورجوازية الكمبرادورية العميلة هي نفسها القاعدة الطبقية للنظام. وتتشكل من شرائح صناعية ورأسمال خدماتي ومن شريحة بيروقراطية الدولة في الأمن والجيش والإدارة ومن بعض "البزناسة" الذين يتمعشون من موقعهم في منظومة الحكم وأطرافها. هذه التشكيلة الطبقية رغم أنها محدودة التجربة فيما يتعلق بالتعاطي مع الأوضاع الثورية لأنها على العموم عاشت لأكثر من خمسين سنة في ظل الاستقرار السياسي والاجتماعي عدا بعض الهزات القليلة (جانفي 78 وجانفي 84 والحوض المنجمي 2008...) التي نغصت عليها صفو حياتها وتكفلت الدولة بحسم أمرها على جناح السرعة، رغم ذلك عرفت هذه المرة، أي مباشرة عقب أيام جانفي الثورية، كيف تقود سفينة منظومتها بهدوء إلى مرافئ النجاة. وتفسير ذلك في خطوطه العريضة معلوم ويكاد يتفق عليه الجميع.
لقد كانت ثورة برجوازية أفقها العام إرساء نظام الحرية والديمقراطية وتحويل شكل الدولة من جهاز منغلق فاشستي واقع تحت حكم الفرد (بن علي) إلى نظام تعددي تتوفر فيه الحريات العامة والفردية يسمح للشعب بالمشاركة السياسية في حدود ما لا يمس من جوهر النظام الاقتصادي والاجتماعي. ويعود ذلك إلى سببين على الأقل أولهما أن الجماهير الشعبية التي خاضت المعركة مع أجهزة البوليس والجيش كانت في الأساس جماهير الشباب من المعطّلين عن العمل والمهمّشين ولم يكن للطبقة العاملة دور كبير عدا مساهمتها في آخر أيام بن علي (من 12 إلى 14 جانفي) تحت قيادة البيروقراطية النقابية في تصعيد الضغط على النظام. أما السبب الثاني فهو غياب القيادة الثورية، سواء كانت حزبا أم جبهة سياسية، ومحدودية دور المعارضة السياسية في الفعل الثوري والاحتجاج. لقد كانت القوى السياسية المعارضة ضعيفة ومنهكة ومعزولة ومنقطعة عن الحركة الاجتماعية جرّاء سياسة القمع والمنع والحصار في عهد بن علي. لذلك اقتصرت الثورة على إجراء تغيير جزئي لم يمس إلا شكل الدولة فيما ظلت قاعدتها المادية والطبقية على حالها دون تغيير. وقد كرست الانتخابات العامة في مناسبتين، أكتوبر 2011 وأكتوبر 2014، تثبيت هذه المنظومة الطبقية رغم استبدال النظام السياسي (نظام الحكم الفردي الاستبدادي) بنظام تعدّدي فتح مجالات واسعة من الحرية السياسية وعدّل أجهزة الحكم لاستيعاب الديمقراطية الناشئة. في الاثناء ظل الائتلاف الطبقي الماسك بالجهاز الاقتصادي يبحث في القوى السياسية التي دفعت بها الثورة وتصدّرت المشهد عمّن يمكن أن يمثّله بدلا عن "حزب التجمع الدستوري" المنحل. وبدا في مرحلة أولى أنه وجد ضالته في "حركة النهضة" ولكن وبعد فترة الحكم الانتقالي (ما بين أكتوبر 2011 وانتخابات 2014) تراءى له أن يحيي "حزب التجمع" و"يرسكله" في تشكيلات سياسية جديدة بتسميات شتى. وعلى امتداد الفترة الفاصلة بين 2014 و2019 استمرت عملية البحث بما في ذلك عن طريق تحالف سياسي بين حزبي "النهضة" و"النداء". وكانت النتيجة واحدة.
لقد كشفت الحكومات المتعاقبة طيلة عشريّة ما بعد الثورة عن فشل ذريع في الخروج بالبلاد من الأزمة الحادّة والشاملة التي تردّت فيها بل انقادت البلاد إلى أزمة اشد وأخطر حتى باتت مهددة بالانهيار الاقتصادي والإفلاس المالي والانفجار الاجتماعي والانفلات الأمني. ونتيجة ذلك فقدت فئات واسعة من الشعب التونسي الذي لم يتحقق له شيء من مطالبه في مضمار ظروف عيشه، ثقتها فيمن يحكم ومن يعارض وفي كل مؤسسات الدولة وفي السياسة والسياسيّين بشكل عام وانقلبت حماستها للثورة والتغيير إلى نقمة عليها واستعدادا لتقبل كل أطروحات الثورة المضادة. في هذا المناخ المتعفن جرت انتخابات 2019 وأفرزت في الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية قيس سعيد كواحد من المترشّحين للدور الثاني بـ 620 ألف صوت (1) ونبيل القروي بـ 525 ألف صوت.
لقد استغل قيس سعيد حالة الارتباك العام التي طرأت على وعي الجماهير الشعبية التي منيت بخيبة أمل عميقة وتردت في حالة من اللامبالاة غير مسبوقة طوال عشرية الثورة. وعرف كيف يستهوي مَنْ ظَلّ من المفقّرين والمهمّشين والناقمين على الثورة وإفرازاتها السياسية والحزبية دون تمييز بين من يتحمل المسؤولية ومن لا يتحملها معتمدا على شعارات شعبوية "الشعب يريد" و"الشعب يعرف ما يريد" وعلى وعود وهمية (2) بمكافحة الفساد وبرنامج "المعتمديات الأكثر فقرا". وقد مثل أسلوبه التواصلي الخاص (استعمال اللغة العربية الخ...) واختلافه عن الصورة النمطية للسياسيين سلاحا فعالا في تسويق صورة نمط السياسي غير المألوف الصادق والمتواضع والنظيف.
يتـبع
الهوامش
1 – مقدمة كارل ماركس لكتابه "الثامن عشر من برومر لويس بونابارت" – لندن 23 جوان 1869.
#جيلاني_الهمامي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟