محمد ارسلان علي
الحوار المتمدن-العدد: 8334 - 2025 / 5 / 6 - 14:11
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
محمد أرسلان علي
مرت حوالي خمسة أشهر منذ تغير النظام السياسي في سوريا وترك الرئيس الضرورة والخالد منصبه متوجها إلى روسيا، بعد أن تركه حلفاءه من الدرجة الأولى (روسيا وإيران) بسبب مصالحهم أو لتجنب الخطر. هذا يؤكد من جديد أن السياسة تركز على المصالح فقط، ولا صداقة فيها، على الأقل في السياق السوري، بعد أكثر من عشر سنوات من عمليات القتل والتهجير والتشريد. كل المحادثات التي جرت في أستانة وجنيف لم تكن إلا مسكنات للآمال لبعض الأشخاص الذين اعتقدوا أنهم ينتمون للمعارضة ويتفاوضون مع النظام لاستلام الحكم. ومع ذلك، فإن ما رغبت فيه الولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل فقط تحقق، بينما كانت الدول الأخرى تلعب دور الأدوات التنفيذية والتشريعية فقط. في النهاية، تولى الحكم شخص مدرج على قائمة الإرهاب الدولية.
كانت عملية الانتقال بسلاسة بين طرفين متعارضين، وكان تسليم السلطة مشهداً أمام العالم، وليس في الخفاء. إذ كان كلا الطرفين مجرد أدوات تحت إشراف القوى الرأسمالية الشرقية والغربية.
خمسة أشهر، ولا تزال سوريا تعاني من تفجيرات الفصائل المتطرفة التي حولت أراضيها إلى حلبة صراعات دموية تشتعل بين (مين ربك ولاك) و (عوي ومعمع ولاك). فقد تحول الجلاد إلى ضحية، وبدأ "يعوي" بعدما كان يضحك مستهزئاً. ضحايا الأمس أصبحوا جلادي اليوم، وتنفيذ المجازر في الساحل السوري مستمر دون رادع، وها هي مستمرة على الأخوة الدروز في جرمانا وصحنايا والسويداء. وتظل الأقليات متمسكة بعدم الخضوع للسلطة الانتقالية في دمشق.
إيران يبدو أنها أكبر الخاسرين، فكان لها دور كبير في الشأن السوري، إذ انتشرت الفصائل الموالية لها في كثير من المناطق، وحتى كانت تستفز إسرائيل والأردن في أحيان كثيرة. ولكن اليوم، تبحث عن موطئ قدم في هذه الجغرافيا بعد أن فقدت السيطرة. اتضح أن كل ما زرعته لم يصمد أمام رياح التغيير، وقد خسرت كل شيء حتى الآن.
من جهة أخرى، تعتبر روسيا أقل تضرراً من إيران، ولديها معسكرات في الساحل السوري ما زالت تحت سيطرتها، وبقاءها هناك يعد انتصاراً مُعتبرًا لها. فقد منحت روسيا الأسد اللجوء وساعدته مع الاحتفاظ ببعض ممتلكاته، كما تستفيد من علاقتها مع شقيق أحمد الشرع الاقتصادي الجيد.
تركيا، بدورها، تبدو كالرابح المضطرب، حيث ينظر إليها على أنها من أكبر المستفيدين من الوضع في سوريا، لكن على الأرض الأمر مختلف. هناك تنافس حاد بين تركيا وإسرائيل التي ترفض أي وجود عسكري تركي في سوريا ولا تسمح لها سوى بالتواجد في الشمال. أي تحرك نحو الوسط أو الجنوب قد يؤدي إلى استهداف قواعدها، مثلما حصل مؤخراً عندما دمرت إسرائيل قاعدتين تركيتين في مطار تي فور ومطار حماة.
تركيا اعترفت بخسارة ثلاثة مهندسين مدنيين في هذه العملية، مع استمرار جهود الضغط على الفصائل العسكرية لمواجهة قوات سوريا الديمقراطية. ومع ذلك، لم تحقق هذه الفصائل أو تركيا نتائج ملموسة حتى الآن. في الآونة الأخيرة، تضغط واشنطن على أنقرة لوقف العمليات في المناطق الكردية، وجلب الطرفين إلى طاولة الحوار. ومع ذلك، لا يزال الجانب التركي يميل للحل العسكري. لكن بعد دعوة أوجلان لوقف الكفاح المسلح والانتقال إلى العمل السياسي، تواصل تركيا الضغط على أي كيان كردي بالقرب من حدودها خوفاً من تأثير ذلك على كردها في الداخل التركي. بالموازاة، تسعى لتهيئة ظروف لاستقبال اللاجئين ضمن مشروع "المستوطنات الآمنة".
بصفة عامة، تعيش سوريا الآن حالة من التمزق الجغرافي والسياسي، متجهة نحو مستقبل غير واضح بين عوامل داخلية وإقليمية ودولية. تقدم إسرائيل في بعض المناطق جنوب سوريا واحتلال قمة جبل الشيخ يعد انتصارا كبيرا لها، وقد تعتبر نفسها الفائز الأكبر بعد انهيار نظام الأسد.
بينما تلتزم الحكومة المؤقتة الصمت تجاه ما يحدث تحت ذريعة محاربة بقايا النظام، تستمر المجازر ضد المدنية، وكذلك اعتقالات مع وجود شهادات شاهدة على سبي نساء علويات.
أما منطقة شرق الفرات، الخاضعة لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية المدعومة أمريكياً، فما تزال تواجه توترات وتهديدات تركية. الاتفاق بين الجنرال مظلوم عبدي والشرع يعتبر خطوة إيجابية للكرد، فهو يمثل الوثيقة الأولى التي تجمع بين السلطة الرسمية والكرد بتاريخ البلاد.
كما إن التفاهمات في حلب بخصوص أحياء الشيخ مقصود والأشرفية تحمل أهمية خاصة، فهي نتيجة لتضحيات السورين وتؤكد على ضرورة أن يكون النظام المستقبلي في سوريا اتحادياً جغرافياً وليس على أسس عرقية أو طائفية.
في المجمل، تعاني الحالة الاقتصادية والإنسانية في سوريا من خراب كبير، حيث تعم الفوضى جوانب الحياة المختلفة. يصل عدد النازحين داخليًا إلى حوالي 6. 7 مليون، و5. 5 مليون لاجئ خارج البلاد. نسبة الفقر مرتفعة بعد تعطل الكثير من المؤسسات الرسمية وفصل آلاف الموظفين لأسباب غير معروفة. كما تعاني البلاد من نقص السيولة اللازمة للبدء بإعادة الإعمار، ولا تتجاوز الوعود المقدمة للحكومة السورية الجديدة. بالتالي، بعد أكثر من خمسة عشر عامًا من الدمار، يبدو من الصعب إعادة بناء سوريا بالوعود وحدها.
على الجانب الآخر، وبسبب السياسات الفاشلة للسلطة القائمة والمقاربة المشبوهة تجاه مكونات المجتمع السوري، وخاصة ما حدث في الساحل، وما يحصل أيضاً الآن على الأخوة الدروز والذين يرفضون التخلي عن أسلحتهم وأعلنوا تنظيم أنفسهم ذاتيًا في مناطقهم مثل الكرد في شرق الفرات، بعدما هجمت عليهم الفصائل الاجرامية. وهذا يعني أن سوريا أصبحت مقسمة بفعل الفوضى التي تسببت بها فصائل الإسلام السياسي السني، الذين يهددون الجميع بالقتل أو التهجير، مما يجعلهم ينكمشون على أنفسهم ويطلبون نظامًا لامركزيًا أو فيدراليًا.
النتيجة الواضحة هي أننا أمام دولة فاشلة تعتمد على المعونات الخارجية. وسوريا لن تعود دولة موحدة ومستقلة مجددًا، وستبقى غير مستقرة لعدة عقود. السيناريو الأكثر احتمالاً هو استمرار التقسيم مع تحول الصراع إلى "حرب باردة" بين القوى الإقليمية. تتزايد الأزمات الإنسانية دون الاهتمام الدولي. وتتحول السلطة المؤقتة إلى كيان ضعيف عاجز.
التاريخ يبين أن الدول التي تعيش حروبًا أهلية وأزمات داخلية معقدة تحتاج إلى جيل كامل للتعافي. فقد تحولت سوريا الأسد، الدكتاتورية، إلى سوريا فتاوى الفصائل الإسلامية، من دولة قومية إلى كيان ديني. ويدفع الشعب السوري ثمن صراع إقليمي ودولي لا ينتهي. أعلن الشرع أن الثورة انتهت وأننا حققنا أهدافنا. لكن هنا تكمن الغفلة؛ فالثورات لا تتوقف وهي حالة تتطور وفق الظروف، وعند إعلان انتهاء الثورة، تبدأ مرحلة زوالها في اللحظة نفسها. وهذا ما حدث للثورة التصحيحية البعثية في سوريا والعراق والناصرية في مصر. فزوال النظام القديم لا يعني نهاية الثورة، بل هي تستمر من أجل هدفها الرئيسي وهو التغيير الاجتماعي، وهو السبب الذي دفعت لأجله بالثورة. لكن الحكام لا يهتمون بالجوانب الاجتماعية، ويفضلون التركيز على السياسة فقط. وعندما يستحوذون على السلطة، يعلنون انتهاء الثورة ويطلبون من الجميع العودة إلى منازلهم.
على عكس شرق الفرات حيث لا يزال الناس متمسكين بالثورة ويرون أن المقاومة هي الحياة. بدون المقاومة لا يوجد حياة. فهل هناك من عاقل يقود السفينة نحو الأمان بعيدًا عن الصراعات الإقليمية والدولية؟ مع غياب شبه كامل للدور العربي المنتظر، وهذا يحتاج لمناقشة مستقلة.
#محمد_ارسلان_علي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟