أيت عوماز حسن
الحوار المتمدن-العدد: 8324 - 2025 / 4 / 26 - 21:01
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
يُعد النظام التربوي من بين الأنظمة المحورية في أي مجتمع، ولذلك سعت الاتجاهات النظرية في علم الاجتماع إلى فهم طبيعة هذا النظام، وكيفية اشتغاله، وعلاقته بالمجتمع الذي يُمارَس فيه. وبناءً عليه، تعددت وتنوعت الدراسات تبعًا لاختلاف الرؤى والمرجعيات الفكرية لكل اتجاه، حيث حاول كل منها تحليل النظام التعليمي في ضوء القضايا والمفاهيم التي يستند إليها. ومن بين أبرز هذه الاتجاهات: النظرية الوظيفية التي يمثلها إميل دوركايم، والنظرية البنيوية الماركسية التي يمثلها بيير بورديو، وقد قدّم كلاهما مجموعة من المفاهيم والأفكار التي لا يزال تأثيرها قائمًا حتى اليوم.
ترجع أصول الوظيفية كنظرية في علم الاجتماع إلى الفلسفة الوضعية، وقد ساهم هربرت سبنسر في ترسيخ ملامحها من خلال تشبيهه المجتمع بالكائن العضوي، غير أن إميل دوركايم يُعد المؤسس الفعلي لهذه النظرية، حيث طوّر إسهاماتها ومفاتهيمها لفهم منطق الحياة الاجتماعية من خلال رؤية تعتبر المجتمع نظامًا متكاملاً يتكون من أجزاء، لكل منها وظيفة تؤديها لضمان استقراره وتوازنه (1). ومن هذا المنطلق، يرى دوركايم أن النظام التربوي يُعتبر جزءًا من النظام الاجتماعي، ويؤدي دورًا مهمًا في الحفاظ على تماسك المجتمع واستمراريته.
أما النظرية البنيوية الماركسية التي يمثلها بيير بورديو، فهي تنطلق في تحليلها للنظام التعليمي من فرضية أساسية، مفادها أن علاقات الإنتاج في المجتمع (أي البنية التحتية) تؤثر بشكل مباشر في مجمل مكونات البناء الفوقي، بما في ذلك الفكر والقيم والتعليم(2). وبناءً على ذلك، يرى بورديو أن وظيفة النظام التربوي في المجتمع الرأسمالي تتجلى في إعادة إنتاج نفس العلاقات الاقتصادية والاجتماعية السائدة، بما يخدم استمرار هيمنة الطبقة المسيطرة.
يسعى هذا المقال إلى إبراز أوجه الاختلاف والتقاطع بين كل من دوركايم وبورديو في مجال علم اجتماع التربية.
أولا: يرى دوركايم أن المدرسة هي مؤسسة اجتماعية تؤثر وتتأثر ببقية النظم الاجتماعية، وهي مسؤولة عن تنشئة الأفراد اجتماعيًا، من خلال إدماجهم في القيم والأفكار والمعتقدات والمعايير الاجتماعية لمجتمعهم. كما يوضح أن نقل هذه القيم والمعايير من جيل إلى آخر يساهم في تحقيق التجانس الاجتماعي الضروري لبقاء المجتمع. ويعتبر أن المدرسة تساعد الفرد على إدراك الحياة الاجتماعية وتنظيمها، مما يساعده على تجنب الصراع مع حاجاته الشخصية. ويؤكد دوركايم على أن القيم التربوية تشكل أحد أسس الضبط الاجتماعي، وأن النظام التعليمي يُكسب الأفراد المهارات اللازمة للمهنة التي سيمارسونها لاحقًا، وهي وظيفة ضرورية في المجتمع الصناعي (3).
وتتلخص رؤية دوركايم في أن المدرسة تعمل على غرس القيم المشتركة الضرورية للتجانس الاجتماعي، وتكسب الأفراد مهارات متنوعة تسهم في التعاون الاجتماعي وتماسك المجتمع المعقّد، وذلك على أساس من الاتفاق القيمي وتقسيم العمل المتخصص.
ثانيا: يرى بورديو أن المدرسة تؤدي دورًا محوريًا في إعادة إنتاج البناء الطبقي للمجتمع الرأسمالي، حيث إن الهرم الاجتماعي ليس مجرد انعكاس لعلاقات القوة في المجال الاقتصادي، بل إن إعادة إنتاجه تمرّ عبر المدرسة. ويؤكد بورديو أن النظام التعليمي يمارس انتقاءً اجتماعيًا قائمًا على معايير ثقافية تخص الطبقة المسيطرة. فوظيفة نقل المعرفة ليست محايدة، بل هي أداة لدعم النخب الاجتماعية وتعزيز هيمنتها (4).
كما يرى بورديو أن المدرسة تُكرّس ثقافة الطبقة المسيطرة، وتقدّمها بوصفها الثقافة العامة للمجتمع، مما يُنتج نوعًا من القهر الثقافي على الطبقات الشعبية. فبينما يتمتع أبناء الطبقات العليا برصيد ثقافي ومعرفي يُسهل اندماجهم في النظام التعليمي، يجد أبناء الطبقات الدنيا أنفسهم في مواجهة ثقافة غريبة عنهم، ويعانون من صعوبة في استيعابها، مما يؤدي إلى تكريس الفوارق الطبقية بدل تجاوزها(5)
ورغم تقاطع دوركايم وبورديو في فكرة أن المدرسة تؤدي وظيفة اجتماعية مهمة تتعلق بنقل القيم والمعايير تُسهم في الحفاظ على النظام الاجتماعي، كلاهما يعترف بأن التعليم يسهم في الحفاظ على شكل من أشكال النظام الاجتماعي، إلا أن الفارق بينهما يكمن في الغاية من هذا الدور: فبالنسبة لدوركايم، تهدف المدرسة إلى ضمان استمرارية المجتمع وتماسكه، بينما يرى بورديو أن الهدف هو إعادة إنتاج ثقافة وهيمنة الطبقة المسيطرة. فدوركايم ينطلق من خلفية محافظة ووظيفية تدعو إلى الاستقرار، بينما يعتمد بورديو على رؤية نقدية ماركسية تحلل التعليم كأداة في خدمة البنية الطبقية.
وعليه، فإن المدرسة من منظور دوركايم تعمل على تكريس ثقافة جامعة تساهم في وحدة المجتمع، بينما يرى بورديو أن هذه الثقافة ليست محايدة، بل تعبّر عن مصالح نخبة مسيطرة. وهذه النخبة تستخدم المدرسة كأداة لإعادة إنتاج تفوقها الاقتصادي والثقافي، عبر فرض ثقافتها بوصفها الوحيدة المشروعة، مما يُنتج تباينًا كبيرًا في فرص النجاح داخل النظام التعليمي بين أبناء الطبقات المختلفة.
يعود هذا الاختلاف في التحليل إلى المرجعيات الفكرية التي ينطلق منها كل من الباحثين: فدوركايم كان يهدف إلى دعم النظام الاجتماعي السائد في فرنسا آنذاك، بينما سعى بورديو إلى نقده، وكشف آليات تكريس الهيمنة الطبقية عبر المؤسسات التربوية.
خاتمة
يتضح من خلال تحليل كل من دوركايم وبورديو أن سوسيولوجيا التعليم تُعد مجالًا غنيًا بالتفسيرات المتعددة والمتباينة. فبينما ترى النظرية الوظيفية في المدرسة أداة لتحقيق الاندماج الاجتماعي والمحافظة على الاستقرار، ترى النظرية الماركسية البنيوية في المدرسة أداة لإعادة إنتاج التفاوت الطبقي وخدمة مصالح الطبقة المسيطرة. هذا الاختلاف الجوهري بين الرؤيتين ينبع من اختلاف مرجعياتهما الفكرية: الأولى تنتمي إلى منظور محافظ يرى في النظام القائم حالة طبيعية، والثانية تنتمي إلى منظور نقدي يُسلّط الضوء على البُنى الخفية للهيمنة والصراع. ومن هنا، تكتسب دراسة التربية في علم الاجتماع أهميتها في الكشف عن الأدوار المركّبة والمعقّدة للمؤسسات التعليمية في المجتمع وبناءً عليه، فإن النظام التعليمي، في المجتمعات الرأسمالية، لا يعمل على تحقيق المساواة، بل يُعيد إنتاج اللامساواة بشكل ممنهج، من خلال آليات ثقافية وتربوية خفية تخدم النخب وتقصي الفئات الشعبية.
اللامساواة المدرسية نتيجة موضوعية للامساواة الاجتماعية
المراجع
1. على ليلة، البنائية الوظيفية في علم الاجتماع والانثربولوجيا: المفاهيم والقضايا، دار المعاريف، الطبعة الأولى، 1982 ص3.
2. محمد إبراهيم عبد النبي، التعليم المجتمع: دراسات نظرية وميدانية، القاهرة، دار الثقافة والنشر والتوزيع، 1989 ص 81.
3. احمد أبو زيد، البناء الاجتماعي: مدخل لدراسة المجتمع، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1975، ص 29.
4. Pierre bourdieu & jean claude passeron, Reproduction in Education.
5. كمال نجيب، الديمقراطية والمنهج: دراسة للاتجاهات التربوية المعاصرة، مجلة التربية المعاصرة، دار الفكر المعاصر،1987، ص70.
#أيت_عوماز_حسن (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟